من تراثنا الخالد
قيم إيمانية في قصيدة (حكم القضاء) الشافعية
محمود كريم الموسوي
اكتنز تاريخنا الأدبي الإسلامي كثيرا من النصوص التي تحمل مبادئ عظيمة ، وقيما أخلاقية ، تشيع الفضيلة في المجتمع ، وتعمق الإيمان في القلب ، وترسخ العقيدة في العقل ، فكان لها دورا في بناء النفس ، وصفاء الروح ، ونقاء السريرة ، وما قصيدة ( حكم القضاء ) للإمام الشافعي ( 150 ــ 204 هـ ) إلاّ واحدة من تلك النصوص التي وظّفت لنشر قيم الإسلام، ومبادئ الإيمان ، ومكارم الأخلاق ، فأثارت نوازع الخير، وطردت وساوس الشر ، وجمعت أفاضل الوصايا في ثلاثة عشر بيتا من الشعر افتتحها الإمام الشافعي بقولة :
01 دَعْ الأيامَ تفعـلُ ما تشـاءُ
وطبْ نفساً إذا حكمَ القضاءُ
مستندا إلى قوله تعالى ( وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ) البقرة/210
ولأهمية الصبر في حياة الإنسان المؤمن ورد ت مفردته ومشتقاتها في كتاب الله العزيز الكريم (105) مرة ، منها قوله تعالى ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾ سورة البقرة / 155-156، وقوله سبحانه الكريم ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ سورة البقرة / 45 ، وحدد سبحانه عاقبة الصابرين بقوله تعالى ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ سورة هود / 49 ، ولذا يوصي الشافعي بالقول :
02 ولا تجزع لحادثة الليالي
فمـا لحـوادث الــدنيا بقـــاءُ
وإذ يدعو إلى السماحة والوفاء فيقول:
03 وكن رجلا على الأهوال جلدا
وشــيمتك السماحة والوفاء
و الإنسان لا يمكن أن يكون خاليا من العيوب والأخطاء ، فالكمال لله وحده سبحانه وتعالى فلا بد من ستر تلك العيوب ، ومعالجة الأخطاء ، فجاءت معالجة الشافعي بتناقضية رائعة بين الكرم والعيوب ، فيدعو إلى زيادة الكرم والسخاء لتقليل مظهرية العيوب وهو يقول :
04 وان كثرت عيوبك في البرايا
وسرك أن يكون لها غطاء
05 تســتر بالسخاء فكـــل عيـب
يغطيه كمـا قيـل , السـخاء
ولأن شماتة الأعداء من أقسى المحن على الإنسان ، إذ سؤل النبي أيوب عليه السلام عن أشد ما كان عليه في بلائه قال : شماتة الأعداء أعظم المصائب لأنها عذاب روحاني ، وغيرها عذاب جسماني ، فأخذت من الشافعي موقعا فيقول :
06 ولا تــر للأعـادي قـــط ذلا
فان شــماتة الأعــدا بـلاء
وبما إن الله سبحانه وتعالى قد ذم البخيل لقوله تعالى (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) آل عمران/180 ، فالشافعي أعلن بأسه من البخيل حتى جسد حاله بأروع تشبيه فيقول :
07 ولا ترج السماحة من بخيل
فما في النار للظمآن ماء
وورد رزق الإنسان ، ومنحه من الله العزيز الحكيم ، وتقديره له بآيات قرآنية كثيرة ، فيقول سبحانه ( اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) الرعد /26 ، وقوله تعالى ( وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ) النحل / 7 ، ولله سبحانه وتعالى في تفاوت الأرزاق حكمة ظهرت في الآية الكريمة ( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) الشورى /27 ، وأخرج ابن حيان في صحيحه قول الرسول الكريم صلى الله عليه وآله : ( إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله ) فيدعو الشافعي الإنسان إلى القناعة ، فرزقه لا ينقص بتأخير ولا يزيد بعناء فيقول :
08 ورزقك ليس ينقصه التأني
وليس يزيد في الرزق العناءُ
وإذ يقولون أهل الحكمة والموعظة ( دوام الحال من المحال ) يجسد الشافعي ذلك بقوله :
09 ولا حزن يدوم ولا سرور
ولا بـؤس عليـك ولا رخـاء
ودعا أن تكون قناعة الإنسان في قلبه موضحا قولهم ( القناعة كنز لا يفنى ) بالقول :
10 اذا كنت ذا فلـــب قنـــوع
فأنت ومالك الــــدنيا سواءُ
ويصف الشافعي تأثيرات المصائب والمنايا في نفسية الانسان الذي يجب عليه أن يستذكر قول الله تعالى ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) البقرة /156
فيقول الشافعي :
11 ومن نزلت بساحته المنايا
فــلا أرض تقيــه ولا ســماءُ
12 وأرض الله واسعة ولكن
إذا نزل القضى ضاق الفضاءُ
ويختم الإمام الشافعي قصيدته بحتمية الموت لقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) الجمعة /8 فبقول :
13 دع الأيام تغـــدر كل حين
فما يغني عن المــوت الدواءُ