تراثنا: والحاجة إلى نظرة موضوعية
ريتا عوض، مجلة العربي العدد 509 أبريل 2001.
إن أي دراسة للتراث العربي يجب أن تنطلق من محاولة اكتشاف جماليته الذاتية وعبقريته الخاصة بدلاً من تطبيق المقاييس الخاطئة وإطلاق الأحكام الجائرة.
من الغريب والمؤسف معاً أن عدداً كبيراً من الذين أخذوا على عاتقهم مهمة التجديد في الشعر العربي في القرن العشرين نظروا إلى التراث العربي نظرة احتقار، كنظرة الغربيين حتى نهاية القرن التاسع عشر إلى تراث الشعوب غير الأوربية، وذلك ابتداء من الموقف الذي وقفه أبوالقاسم الشابي من التراث الشعري العربي في محاضرته (الخيال الشعري عند العرب) التي حاكم فيها الشعر العربي بأسره بمنطق رومنطيقية القرن التاسع عشر في أوربا، وفرض عليه معاييرها فقال: (قد انتهى بي البحث في الأدب العربي وتتبع روحه في أهم نواحيه إلى فكرة شائعة فيه شيوع النور في الفضاء لا يشذّ عنها قسم من أقسامه ولا ناحية من نواحيه. وهذه الفكرة هي أنه أدب مادي لا سموّ فيه ولا إلهام ولا تشوّف إلى المستقبل ولا نظر إلى صميم الأشياء ولباب الحقائق، وأنه كلمة ساذجة لا تعبّر عن معنى عميق بعيد القرار، ولا تفصح عن فكر يتصل بأقصى ناحية من نواحي النفوس). إلى موقف أدونيس المطابق لهذا الموقف، وهو يختصر به الشعر العربي بأسره ويسحبه على الإنسان العربي في عصرنا باستثناء نفسه وبعض تابعيه. يقول: (وإذا عرفنا أن الجاحظ لا يميّز الشعر والخطابة، بل يرى أنهما واحد، أدركنا كيف أن الشعر العربي يقوم على فضائل (الأمية) و (البداهة) و(الارتجال) - وهي فضائل لايزال يعتمدها معظم العرب المحدثين - قرّاء، ونقاداً، وشعراء).
مازلنا في أوائل القرن الواحد والعشرين نتعامل مع أنفسنا بمنطق الغرب في القرن التاسع عشر في تعامله معنا، ولم نخط بعد الخطوة الفكرية التي تخوّلنا الوصول إلى الحداثة الحقيقية ولو على سبيل الإفادة من الغير، وإن برع بعض شعرائنا وكتّابنا بنقل بعض النماذج الشعرية الغربية وسمّوا ذلك حداثة، وظلوا يفكرون بمنطق ما قبل الحداثة، والشاعر الحقيقي الواعي والمثقف يستطيع بنفسه أن يكتشف طبيعة علاقته بتراثه وتحديد موقعه ضمن ذاك التراث الحي المتواصل في الإبداع الحديث. أما الناقد الأدبي فيضع الأسس العامة ويثبّت المبادئ الفكرية، ويكشف عن الأعمال الأدبية المهمة والكبيرة ويعلل تميّزها مستنتجاً بذلك مبادئ نقدية تواكب الحركة الأدبية وتعززها بالنظرية وتدعمها بالفكر.
الوعي بالتراث
وحين ينظر الناقد في التجربة الشعرية الحديثة التي بدت تجريبية في العقد الخامس من القرن العشرين، يجد أنها نضجت عبر ذرى إبداعية جليلة على مدى نصف قرن من الزمن، وأثبتت نفسها وترسّخت في إطار التراث الشعري العربي. وقد كان الأصيلون من روّاد هذه الحركة مدركين لموقعهم الحضاري ولدورهم النهضوي، فكانوا واعين لعلاقتهم بالتراث. ولعل خليل حاوي، بوعيه وثقافته وتجربته الشعرية المتميّزة عبّر خير تعبير عن هذه المسألة بقوله:
حين أعيد النظر في نهضة الشعر العربي الحديث التي أطلقناها نحن الروّاد عبر الخمسينيات، أرى أننا كنا نحاول واعين أن نحدث ثورة تجعل الشعر الحديث ينفصل عن التراث الشعري العربي بقدر ما يتصل به. وكان كل منا يحاول الانطلاق مما يراه عناصر حيّة في التراث. وأعتقد أن كل نهضة شعرية في أمة تحمل تراثاً شعرياً عريقاً متراكماً لابد لها من العودة إلى الينابيع الأصيلة التي كانت مصدر كل نهضة في الماضي، وهذه العودة تختلف عمّا يدعى بالسلفية الشعرية، ذلك أنها ليست عودة لإحياء الأنماط والنماذج التي استقرت في قوالب جامدة، بل إلى الينابيع التي تفجّرت منها روح حيوية تولّد أنماطاً ونماذج. لهذا كان في شعرنا ما يشبه الاستلهام لروح الفطرة في الشعر الجاهلي والثورة في الشعر العباسي التي انتهت إلى غايتها من التطوّر في نتاج المتنبي. ولاشك أنه يلمح في الشعر الحديث غصّة وثورة ونفارا من واقع الحياة العربية الحاضرة، وهذه تكاد تكون شبيهة بما عاناه المتنبي الذي عاش في عصر كانت فيه الحضارة العربية تشارف على الأفول، وكان المتنبي يحاول أن يبعثها من جديد، كما حاول الأصيلون من الشعراء المحدثين في هذا العصر.
في هذا النص المهم يحيط حاوي بجانب كبير من خصائص الحركة الشعرية العربية الحديثة التي كان واحداً من أبرز روّادها في الشعر وفي النقد الأدبي. فهذه الحركة هي نهضة وثورة: نهضة لأنها انطلقت بعد قرون من الجمود انطفأت فيها جذوة الإبداع الشعري، وثورة على الاتجاهات التي سبقتها مباشرة، ما حاكى منها الشعر العربي القديم دون أن يدرك الشاعر المحاكي موقعه في العصر الحديث، وما نقل منها عن الشعر الغربي دون أن يعي الشاعر الناقل موقعه من تراثه. وفي كلتا الحالتين كان أولئك
الشعراء غير مدركين للبعد الحضاري للشعر وغير واعين لدوره الحقيقي. وكانت الثورة التي أحدثت نهضة هي تحقيق الحداثة من قلب التراث ومن أعماقه، وهي حداثة مَن يعي ذاته الحضارية ويعي غيره بوعيه لذاته، من هنا كان على الشاعر العربي الحديث وقد اختار لنفسه الثورة سبيلاً وتحقيق النهضة غاية، أن يحدد طبيعة علاقته بالتراث فيكتشف العناصر الحيّة فيه التي يمكنه الارتباط بها والتأسيس عليها والانطلاق منها. وقد رأى حاوي مثلاً، أن الفطرة والثورة هما خاصيتان من خصائص التراث الشعري العربي يمكن أن يستلهمهما الشعر العربي الحديث، وهما من مبادئه.
البعث الحضاري
ولعل من أهم ما يطرحه خليل حاوي في هذا النص هو المقارنة التي يعقدها بين واقع الحياة العربية الحاضرة والمرحلة الحضارية التي عاشها المتنبي، وقد وصفها بالمشارفة على الأفول، ومنها يستنتج أن دور الشاعر الحديث هو تحقيق البعث الحضاري الذي رأى أن المتنبي رمى إليه. وقد كان حاوي أمينا في تجربته الشعرية ونتاجه الشعري لهذا الموقف. ولعل إحدى السمات الأساسية التي اتصف بها الشعر العربي الحديث هي إعادة ربط الفن الشعري بالبناء الحضاري الذي ينبثق الشعر عنه ويكوّن صورة له. والشاعر الحديث الحقيقي من الشعراء العرب هو الشاعر الذي أدرك العلاقة الجدلية التي تربط بين الإنسان والحضارة، من حيث إن الإنسان أبو الحضارة وابنها، وهو الفاعل فيها والمنفعل بها. كما وعى قضية التحديات التي تواجهها الحضارة العربية منذ أكثر من قرن من الزمان، وعاناها معاناة يومية عميقة وحادّة، وكان صاحب موقع راسخ وواضح من هذه المسألة. وقد اكتسب الشعر العربي الحديث بالتزامه بالقضية الحضارية خاصيّة أساسية من خصائص الحداثة هي اللاشخصية. فلم يعد الشعر بوحاً ذاتياً ولا انعكاساً لهموم شخصية ولا وصفاً لمظاهر خارجية، واتجه إلى التعبير عن ضمير الأمة في همومها الحضارية، فعاد إلى الأسطورة التراثية والحكاية الشعبية فحوّلها إلى رمز يصل الماضي بالحاضر ويختصر الزمن، فكانت العنقاء والسندباد والحلاج وابن عربي والخضر والحسين وغيرها رموزاً أسطورية تراثية أعادت صياغة الماضي والحاضر معاً. ولعل ما لاحظه حاوي من موقف الشاعر الحديث غير المنسجم مع الواقع، الموقف الذي ولّد في الشعر ما أسماه غصّة وثورة ونفارا، هو الذي أدّى به إلى رفض مظاهر ذلك الواقع وتخطّيه بشكل فني يلغي طبيعته، وهو موقف مشابه للموقف الذي اتخذه الشاعر العربي القديم من الوجود والطبيعة والواقع. فكان التعبير الشعري في تراثنا القديم وفي عصرنا الحديث انعكاساً للاتجاهات الحضارية والتوجهات الفكرية، وكان اللقاء بين الأصيل من الشعر العربي الحديث والتراث لقاء تواصل مبدع خلاّق.