الى الفيلسوف
مسألة التحسين الجيني في الفلسفة الألمانية المعاصرة: سلوتردايك ضد هابرماس
بقلم عادل حدجامي
"..أن يكون الإنسان شيئا يجب تجاوزه. أي أنّ الإنسان جسر وليس نهاية". نيتشه، هكذا تحدّث زرادشت
القضية:
في نهاية التسعينيات عرفت ألمانيا حدثا ثقافيا استثنائيا اشتهر حينها تحت مسمى "قضية سلوتردايك"، حدث انخرطت فيه أسماء فكرية وازنة ومنابر إعلامية رفيعة، مما أعطى للأمر بعدا سياسيا واجتماعيا يتجاوز حدود الفكر في ذاته ليصير "حدثا ثقافيا". أصل هذه القضية كان محاضرة ألقاها الفيلسوف سلوتردايك سنة 1999، وهي المحاضرة التي ستصدر فيما بعد في مجلة zeit، ثم في كتاب سيحمل نفس عنوانها (1). والحقيقة أن الأفكار الجريئة التي عرضها سلوتردايك في تلك المحاضرة حول أخلاقيات الطب والبيولوجيا، وحول مستقبل الكائن الإنساني، والحماس الذي بدا وكأن سلوتردايك يعلنه تجاه التحولات العلمية المعاصرة وما باتت تتيحه من إمكانيات (التنقية الجينية، الموت الرحيم، الهندسة الوراثية) ما كان ليثير، وفي ألمانيا تحديدا، إلا ما أثار من لغط، بالنظر لما نعرفه من وقع لمثل هذه المفاهيم في الذاكرة الألمانية بفعل تاريخها النازي القريب.
غير أننا إذا ما تجاوزنا الجانب الإعلامي في المسألة ونظرنا إليها من زاوية فكرية محض، أمكننا أن نقول بأن المحاضرة كانت غاية في الأهمية، وذلك لأسباب عدة في نظرنا، أولها كونها عرضت أفكارا مفهومية ودلالية تستحق الإصغاء إليها خارج ضغط الآلة الإعلامية؛ ثانيها أنها ستضطر فيلسوفا آخر (يورغن هابرماس) "ليدخل على الخط"، وهوما مكن من خلق حوار غير مباشر بين الفيلسوفين، وعندما يتجرد فيلسوفان من هذا العيار "للحوار" في مسألة جلل مثل هاته، لا يمكن ألاّ يكون الأمر جديرا بالاهتمام، وثالثها أنها تعلقت، وبسبب من المرجعية الفلسفية لصاحبها، بسؤال الأسس، أي سؤال البيوطيقا كإمكان، وليس كجزئيات أوحيثيات، وهوالسؤال الذي يمثل كما هو معلوم "فرش إمكان" كل النقاشات الأخلاقية والعملية الأخرى.
2- بيتر سلوتردايك:الإنسان صيرورة نحو الانسان:
لم يكن النص المذكور أول علاقة سلوتردايك بالموضوع، فقد كان تعرض له جزئيا في مناسبات سابقة (2)، لكن ما حاول أن يشتغل عليه في هذا النص تحديدا هو قراءة تاريخ الإنسانية الأخلاقي من خلال تحليل المرجعيات الأخلاقية الفلسفية التي حكمته، وهو لهذا الأمر يستدعي ثلاث مرجعيات: نيتشه وهايدغر وأفلاطون. يحس القارئ بداية وكأن الكتاب موجه نحو هايدغر، ونحو الجواب عن تقريرات نصه "رسالة في النزعة الإنسانية" (1946) (3)، لكن ما نلبث أن نلحظ، مع تقدم النص بأن طموح سلوتردايك أكبر.
ينتهي هايدغر في نصه المذكور، وباختصار شديد، إلى الإقرار بكون النزعة الإنسانية عجزت عن جعل الإنسان إنسانا، عجزت عن تناول الإنسان في أفق "ماهيته" التي هي كونه "دازاين"، ومبعث هذا العجز كونها تناست صلته بالوجود، فكان أن حولته إلى مجرد عنصر في "تجمع إنساني"، في "ال-نحن"، الإنسان مجرد رقم في غيرية كلية، في كثلة الآخرين، وهذه الخاصية ليست عرضية أو وليدة نية مبيتة، بل هي مباطنة ضرورة لمنطق وتصور النزعة الإنسانية، ما يعني أن تجاوزها يستدعي ضرورة تجاوز النزعة الإنسانية، وبالتالي تحرير الإنسان من الأخلاقوية: المطلوب عند هايدغر هو تجاوز "الإنسانية الكلاسيكية".
بناء على هذا التقرير يحاول سلوتردايك التفكير في المعنى الأخلاقي للإنسانية وتحولاته باعتماد نيتشه، وبالعودة إلى أفلاطون. الفكرة الأساسية التي ينتهي إليها سلوتردايك من هذه العودة، والتي تحمل في ثناياها تصوره لمسألة التنقية الجينية، هي أن "تاريخ الإنسانية كان دائما مسار تنقية"، فالإنسان كما بين نيتشه هوتاريخ انتقاء للإنسان، تاريخ الإنسان هو تاريخ ترويض الإنسان لذاته، وهذا هو لا مفكر فيه تاريخ "الثقافة" هو كونها "ترويضا" (4)، البشرية كانت دائما في مسار تحسين، لهذا فمفهوم الإنسان "تشكيلي" في العمق، وبالتالي فهذا السؤال، سؤال التحسين، ليس عارضا، بل كان دائما مباطنا لتاريخ الإنسان، لأنه سؤال "مصير الإنسان".(5)
لتوضيح هذا الأمر يحتاج سلوتردايك أن يعود إلى أفلاطون، وعودته إلى أفلاطون ليست اعتباطية، بل لأن أفلاطون من الناحية الفلسفية، هو الأصل والمرجعية المؤسسة لكل الفكر والمعرفة الغربيين، ولأن أفلاطون من الناحية الأخلاقية، هوالقاعدة الصلبة البعيدة لكل النظام القيمي الغربي، حتى في معناه الديني. خلاصة سلوتردايك من قراءته لأفلاطون هي أن مفهوم التنقية أوالتحسين نجده حاضرا منذ "أفلاطون"، ففي الجمهورية يقوم المجتمع ويتأسس على فرضية "الاختيار"، اختيار تضمنه طبقة "العقلاء" اللذين يحددون مسار أفراد المجتمع ومواقعهم، ويحددون "برامج التربية" لأجل تأسيس المجتمع السياسي، ما يعني عند سلوتردايك أن سؤال الأخلاق هوسؤال ملغوم في المنطلق، لأن المجتمع كمفهوم، ومنذ نشأته، لم يستمد أسباب شرعيته ولم يتأسس إلا باعتباره مجال "تنقية واختيار واختبار للأفراد". (6) فمسار الثقافة والإنسان هو مسار تشكيل، الأخلاق كانت دائما في علاقة ورهان "سلطة"، سواء أكانت هذه العلاقة تقليدية ضمنية كما في السابق، أو كانت متطورة مادية كما اليوم، فتطوير الأفراد، أو بعبارته النيتشوية "صيرورتهم نحوالقوة" كانت دائما قدر المجتمع والتربية والتعليم في علاقتها بالأفراد (7) ؛ التربية كانت دائما انتقاء جينيا تلقائيا، كانت دائما تقوية للجمالي في الإنسان، تقوية للأبولوني في البشر، تزكية "للإنساني" ضد قبح "الحيواني".(8) بهذا المعنى لا يبقى هناك من تعارض بين الأخلاق والتقنية، لأن الأخلاق والتربية هما معا تحسين، الفرق بينهما حاصل في الدرجة وليس في الطبيعة ولا الغاية (9).
بحسب هذا الأمر تصير المبررات التي يرفض على أساسها المعاصرون التطورات العلمية الأخيرة في الطب والبيولوجيا أقل قوة، فالتقنية والأخلاق حليفان، التقنية كانت دائما تحقيقا عمليا لطموحات الأخلاق، والتعارض بين الإنساني الطبيعي، والتقني الصناعي تعارض وهمي، ومشاكل البيوطيقا ليست جديدة، بل كيفها هوالجديد، كل هذا يدفع سلوتردايك إلى استنتاج أن المحافظة على مفهوم الإنسان لن يتحقق بحجبه وتحجيمه، بل بفتحه على الممكن، أي بتصوره كما هوفي حقيقته: كونه محض إمكان مفتوح (10).
ما فهمت بحسبه هاته الأفكار حينها، وفي ظل ضغط اللحظة، هو أن سلوتردايك رجل يدعولتجاوز الإنسان التقليدي وينظّر للإنسان الأرقى، سلوتردايك نزعة فكرية تمهد لما بعد الإنسان، وهذا ليس بغريب من منظور خصومه، لأنه سليل تيار فلسفي طالما أعلن عداءه للإنساني(نيتشه)، ولهذا فنصه ليس إلا تبريرا فلسفيا لطموحات دعاة التنقية المباشرة.
الحقيقة أن هذا الموقف فيه كثير من الابتسار والحيف، فالأمر أعقد مما يقول الخصوم، لكن الذي زكى هذا القول أضفى عليه المشروعية في نظرنا، من حيث أراد أم لم يرد، كان هونص هابرماس (11) والذي لا يمكن للقارئ الحصيف أن لا يتبين بأن مخاطبه الخفي فيه كان هوسلوتردايك، ونصه الذي عليه مدار الحديث هنا تحديدا.
3- هابرماس: نحو" أخلاق للجنس البشري":
يبدو لقارئ نص هابرماس أن همه ليس سجاليا أو ظرفيا، بل هو محاولة فلسفية كانطية في البحث عن أسس أخلاقية معاصرة لزمن ما بعد الميتافيزيقا، هو محاولة لتأسيس إيتيقا "ما بعد ميتافيزيقية" تتخذ من العقل المحض عمادها، ومن الإنسان كجنس غايتها، ولهذا فهي محاولة جذرية كلية لا تنظر في القانوني، بل فيما يستند إليه القانون والتشريع حتى يكونا. وكون هذه النظرة صورية كانطية لا تعني أنها ميتافيزيقية، من حيث أن الميتافيزيقي هو ما لا يمكن لا تجريبه ولا البرهان عليه، بل هي عند هابرماس" نظرة ملموسة وعملية" لأنها البساط الذي يؤسس كل الاختيارات "الثقافية" المحلية، وكل النزوعات الأخلاقية القطاعية (12)، إنها نظر فيما هو موجود بشكل ضمني في كل الأنساق الأخلاقية الإنسانية، ولهذا فإن هابرماس ينعتها بأنها "كلية ملموسة"، وهذه الكلية مطلوبة في الحقيقة لأن الأسئلة الأخلاقية المعاصرة، أسئلة البيوطيقا، ليست ثقافية، بل متعلقة بماهية الكائن في كليته. بهذا المعنى أمكننا القول أن هذا النص "تأسيسي"، يأتي مقابلا للنص النقدي الشهير المسمى ب"التقنية والعلم كإيديولوجيا".(13)
جذرية البحث هاته إذن دافعها كون التقنيات العلمية المعاصرة تطرح أسئلة كلية، أسئلة يتداخل فيها الاقتصادي بالسياسي بالعلمي (التوقع الجيني، التحليل، التحسين والتنقية) ولهذا فعدم الوصول إلى تصور أخلاقي معناه العجز عن ضبط الرهان، والسقوط بالتالي ضحية الدينامية الاقتصادية والسياسية (لوبيات، نزعات علموية، شركات الأدوية)، فالنقاش ليس علميا طبيا فقط في تصور هابرماس لأن خلف العلمي والطبي لا يوجد العلمي، بل توجد اللوبيات والمصالح، وهو ما ينبغي الاحتياط منه بكل السبل. لكن جذرية البحث أيضا دافعها في نظرنا رغبته في الجواب على سلوتردايك، فإذا كان سلوتردايك يطرح سؤال المجتمع والأخلاق كإمكان فلن يكون الجواب إلا بطرح جواب يضع الجنس البشري كأفق، وهذا ما حاول هابرماس فعله بحديثه عن "إيتيقا للجنس البشري".
يمكن عموما تلخيص نقد هابرماس لدعاة ما يسميه ب"التنقية الليبرالية" في ثلاث قضايا: الحرية، والكرامة، المساواة.
الحرية:
يستند دعاة التحسين الجيني في تبريرهم لاختيارهم في تصور هابرماس لـ "قداسة مبدأ الحرية"، وهكذا فهم يبدؤون بالقول أن للفرد الحق في اختيار صورته وفي تقويم عيوب رصيده الجيني؛ وللفرد الحق في تحسين ذاته والترقي بها، وليس لنا أن نفرض على الناس "قدرا" فوقيا إن كانت العلوم اليوم "تحررنا" من هذا القدر.
للرد على هذه الحجة يميز هابرماس بين مفهومين اثنين: "الحق في الاختيار" والقدرة على "تحقيق الاختيار". فصحيح أن العلوم المعاصرة تظهر إمكانية تحقيق الاختيار على المستوى العملي، لكن هذا الأمر لا يعني أن الفرد يختار، لأن تحقيق الاختيار يسبق حق الاختيار فما لا ينتبه إليه دعاة الليبرالية التحسينية هو أن "الذات" التي يتم تحسينها هي في الحقيقة "موضوع"، لأنها ليست هي من يختار عمليا، بل هما الوالدان، فأول شروط الاختيار الذي هو الوعي والإرادة، غير متحقق لحظة حصول الفعل عليه، ولهذا فالتحسين هو على الحقيقة النقيض التام للحرية، لأنه يحرم الطفل من إمكانية "الحرية المستقبلية"، حين يشرطه بتشكيل قبلي يسبق حياته الآتية (14). حجر الزاوية في كل فعل هو الاقتناع والفعل الحر، والحرية لا تكون، تماشيا مع منطق هابرماس ونظريته الفاعلية التواصلية، إلا بين وحدتين مستقلتين حرتين سياسيا وأخلاقيا، وهذا ما لا يتوفر في حالة الطفل الذي يقع عليه الفعل، لهذا وجب باسم الحرية أن نرفض هذا التوجه، لأنه يمنع ما كان يسميه كيكيغارد ب" الحق في أن يكون الإنسان هو نفسه"، إذ إن هناك تعارضا مطلقا بين الحرية الانتقائية الممكنة للآباء، والحرية الإيتيقية للأبناء، فاختيارات الآباء لتعديلات على أبنائهم لن تكون حينها إلا "قدرا جديدا " fatum) ) يفرض ذاته على الأجيال القادمة، لهذا، فباسم الحرية، يقول هابرماس، ينبغي أن نناهض "حرية التحسين الجيني".
الكرامة:
الحرية مرتبطة بمفهوم آخر عند هابرماس هو"الكرامة"، فما يضيع في التنقية الجينية هو كرامة الأشخاص، وهو لأجل تأكيد هذا الأمر يستعمل تعابير قوية، فما تقوم عليه التنقية الجينية عنده هو"تشييء الأجنة" و"تبضيعهم"، ففي أفق "الطفل تحت الطلب"، "الطفل البطاقة"، "الطفل الاستعمال"، يتم تجريد الجنين:"المشروع الإنساني"، من بعده الحي ليتحول إلى مجرد "أشياء مختبرية" والحال أن ما يضمن إنسانية الإنسان هو كونه "شخصا" بالمعنى الأخلاقي، وهو ما لا يتحقق مع التحسين الجيني. ولا ينفع في مثل هذا الموقف أن نقول بأن "الحق في الإجهاض سيكون مرفوضا بناء على هذا الموقف"، لأننا حينها لا ننظر في حرية الجنين، بل في حرية الشخص الواعي الذي ينجبه، والذي تكون حريته حينها موضوع تهديد، بل إننا حين يبلغ الجنين درجة معينة في التطور، يصير ممنوعا على حامله إسقاطه، احتراما لكرامة الجنين وحقه في الحياة.
الكرامة تتأسس على حق الإنسان، وهنا الإنسان المستقبلي، في أن يتحمل تبعات اختياره، (15) وهذا ما ينتفي مع التنقية الجينية، لأن الطفل تحت الطلب لن تكون كرامته إلا ككرامة الآلة التي نعدل فيها ونحدد حاجياتنا منها.
المساواة:
المفهوم الثالث الذي يمكن أن نقرأ به موقف هابرماس هو"المساواة".
تخرق التنقية الجينية في منظور هابرماس مبدأ مركزيا من مبادئ حقوق الإنسان وهو كون "كل الناس يولدون ويحيون متساويين". فنحن عندما "نستهلك" الأجنة ونعدل فيها، سننتهي حتما وضرورة إلى خلق تراتبات في الكائن الإنساني، أبسطها تراتب بين المعدلين وغير المعدلين، وهو ما يمكن أن يهدد وحدة الجنس البشري والمجتمع، لأن المجتمع لا يكون ممكنا إلا على أساس "التساوي" في الحظ والإمكانيات. ما يحصل مع التنقية هو أن مثل هذا التساوي سينكسر. وهو ما يعني انكسار وحدة المجتمع والجنس الإنساني(16). فجهل الإنسان السابق وعدم معرفته بإمكانية تدبير ذاته كان يضمن تساوي الجميع "في الطبيعة"، لكن إدراك الإنسان لمفاتيح وضعه الطبيعي وقدرته على تغييره، سيؤدي لا محالة إلى ردم الأساس الإيتيقي لتعايش الناس. وهكذا قد يتحول "ما بعد الإنسان" الذي يبشر به دعاة التقنية المعاصرة، إلى "ما قبل الإنسان". ما يزكي هذا الأمر أكثر في تصور هابرماس هوأن هذا الموضوع ليس "نظريا" مجردا أوأخلاقيا محضا، بل هوموضوع صراع وتحريض سلطوي واقتصادي، ودينامية السلطة والمال، كما ه ومعروف، تشكل تهديدا جوهريا للديمقراطية وأساسها الأخلاقي اليوم، ولهذا فلا معنى في نظره للاحتجاج بالتمييز بين "التعديل العلاجي" و"التعديل الإنتاجي"، لأنه في غياب مجتمع الفاعلية التواصلية وفي ظل هيمنة الدينامية الاقتصادية، لا يكون من الممكن لمثل هذه التمييزات من أن تحفظ أو تراعى.
لا يفوت القارئ كما أسلفنا أن يدرك بأن هابرماس في إطار نصه وعرضه لأسس "إيتيقا الجنس البشري" كما يتصورها يوجه حديثه لسلوتردايك، ونحن نجد هذا الأمر صريحا في بعض الأحيان، حين يحاول دفع تحديد سلوتردايك السابق للتربية باعتبارها"فعل تنقية تقليدية"، ونجده ضمنيا أحيانا أخرى حين يعمم الحكم ويتحدث عن دعاة "مابعد الإنسان" في تحالفهم مع "التكنولوجيا". والحقيقة أن هابرماس يلحق بعض الحيف بسلوتردايك حين يضع تصوره في نفس مرتبة التصور الليبرالي العلموي، لأن موقف سلوتردايك، كما بدا لنا، لا يرد بأي حال إلى "العلموية" وهوالذي ما فتئ في نصه المذكور يسوق الانتقادات للنزوع الوضعي(17)، ففكر سلوتردايك من هذه القضايا ليس تحريضيا ولا دعائيا، بل هوجزء من تصور عام على مشاكل البيوطيقا التي بدأت في التسعينيات. غير أن توضيحنا لهذه الجزئية لا ينفي كون نص هابرماس وما عرضه فيه قوي فلسفيا، وهو ما لا يكفي ببيانه سياق التلخيص والاختصار الذي نحن بصدده، وأصل قوة النص في نظرنا آت من كونه يحاول التعرض لسؤال عملي مركب هو "كيف نتخذ موقفا فاعلا ونحاول أن نجيب عن تحديات التقنية في إطار تصور أخلاقي إنساني، في زمن خسوف المرجعيات الإنسانية الكلية وفي زمن يسبق فيه الواقع العملي (تطور التكنولوجيا) التفكير النظري؟ كيف ندافع "أخلاقيا" عن الإنسان ضد تهديدات التقنية دون أن نسقط في الابتذال ورد الفعل الغريزي؟"
الجواب عند هابرماس يكون بالحفر في المفاهيم الأولى المؤسسة لمعنى الإنسان، وفي هذا تجسيد عملي لفكره القائل بأن أعطاب العقل والعمل لا يمكن أن نسددها إلا بما هوعقلي وعملي، وليس أبدا بالالتجاء للتعالي أوالأخلاقوية الفجة.
الهوامش:
1 - P. SLOTERDIJK, «Règles pour le parc humain», Mille et Une Nuits, La petite collection, 2000 ;
2 - P. SLOTERDIJK, «La domestication de l’être», Mille et une nuits, La petite collection, 2000 / Le Penseur sur scène. Le Matérialisme de Nietzsche, Chrisitan Bourgois Éditeur, 1990 ;
3 - Martin Heidegger, Lettre sur l’humanisme, trad. franç. Par Roger Munier, Paris, Éditions Montaigne, 1957 ;
4 – SLOTERDIJK, «Règles pour le parc humain», P : 40
5 - نفس المرجع ص 45
6 - نفس المرجع ص 44
7 - SLOTERDIJK, «La domestication de l’être», p : 92
8 - نفس المرجع ص 54
9 – SLOTERDIJK, «Règles pour le parc humain», p : 41
10 – «La domestication de l’être», P : 87
11- HABERMAS JURGEN.,"L’avenir de la nature humaine. Vers un eugénisme libéral ?" trad. C. Bouchindhomme, Gallimard, 2002.
وهوعبارة عن أربع محاضرات ألقاها هابرماس في مناسبات عدة، الأولى عنوانها"الحذر المشروع: هل ثمة من أجوبة بعد-ميتافيزيقية على سؤال "الحياة الحق"؟ المقال الثاني والذي أخذ منه النص العنوان كان هو’نحوتحسين جيني ليبرالي"؟ المقال الثالث هونص ملحق، والرابع محاضرة أيضا بعنوان "إيمان ومعرفة"
12 - HABERMAS J., «L’avenir de la nature humaine», P : 13
13 - La technique et la science comme idéologie, Paris, Gallimard, 1973, traduction J.R. Ladmiral).
14 - HABERMAS J., «L’avenir de la nature humaine», p. 13
15 - HABERMAS J., «L’avenir de la nature humaine», p 165
16 -HABERMAS J., «L’avenir de la nature humaine», p : 40
17 - قوله مثلا: "النزوع الوضعي الذي لا يدرك الإنسان إلا ليستطيع بعدها نسيان خاصية انفتاحه المطلق"
«La domestication de l’être», P : 21
منقول منتديات مريمين