جينيالوجيا الكتابة
محمد الأندلسي
- الجينيالوجيا والكتابة:
إن تقويض الميتافيزيقا وتجاوزها، يقتضي إعادة الاعتبار للكتابة وبلورة سياسة جديدة لها. إنه يقتضي انعتاق الكتابة وتحرير الدال من تبعيته للمدلول؛ وهي المسألة التي ستحققها الجنيالوجيا ولأوّل مرة في تاريخ الفلسفة. يقول دريدا: "لقد كتب نيتشه ما كتبه، كتب بأن الكتابة–وكتابته على الخصوص-ليست خاضعة للوغوس والحقيقة. وبأن هذا الإخضاع قد تم في مرحلة محدّدة " [i].وهكذا فمع نيتشه سينبثق تصور جديد للكتابة، من حيث أنه يمثّل حسب دريدا أول فيلسوف قام بتحرير الدال من تبعيته للمدلول، ومن اشتقاقه من اللوغوس[ii] . يتعلق الأمر هنا بكتابة/قراءة جديدة لا تميّز بين النص وكاتبه، قراءة فعالة تنتج النص اللامكتوب والذي لا يكون مجال الكتابة إلا علامة عليه وعرضا من أعراضه. إنها كتابة/قراءة تحاول أن تنتج العملية الفعلية للكتابة الميتافيزيقية ذاتها، والتي ليست هي عملية إظهار وتملّك المعنى الوحيد كما تريد الميتافيزيقا، وإنما عملية لتوليد الاستعارات procés de métaphorisation . ولا شك أن الكتابة الملائمة للمشروع الجنيالوجي–بما هو مشروع يروم تقويض الميتافيزيقا وسنّ سياسة جديدة للفلسفة تساؤلا وتفكيرا وتأويلا وتقويما وكتابة[iii]- هي الكتابة الشذرية aphoristiqueأو المقطعية التي تنبذ الاستمرار والوصل . كتابة تقحم داخل النص زمان العود الأبدي [iv] بدلا من الزمن الخطي الميتافيزيقي، وهو زمن ينخر الحضور ذاته ويجعل الهوية مفعولا لاختلاف، والوحدة نتيجة لتعدد، والعمق فعلا لسطح[v]. كتابة تحاول أن تقضي على الوهم الأفلاطوني لمعرفة/ذاكرة، لتنظر إلى النسيان في قوته الفعالة. ولهذا فهي كتابة بدون ذات، لكنها غنية من حيث أنها لا تعطينا نفسها إلا فيما تحجبه عنا "وبالضبط فيما تحمله في طياتها من رخاوة، خلف مظهر أقوى الحقائق بداهة، في الصمت الذي يتخلل خطابها، والنقص الذي يعوز مفاهيمها ، والبياض الذي يتسلل إلى سواد كتابتها الدقيقة" [vi].
وفي الحقيقة فإن هذا الشكل الشذري المفكك هو ما يجعل النص الحنيالوجي يدشّن أسلوبا جديدا في الكتابة، لا يني نيتشه يلقّبه بالسياسة الكبرى في الفلسفة la grande politique [vii]. وينعته بنعوت مختلفة، كالمحاولة أو التجريب أو الاختبار. ويعني هذا أن أسلوبه يركّز على الملاحظة والحدس والتساؤل أكثر مما يسعى إلى بناء نسق مغلق. ولقد لاحظ هيدغر بأن "المحاولة" versuch هي بمثابة العودة إلى المعطى العيني والملموس والذي تم إهماله وإقصاؤه من مجال الفلسفة بدعوى أنه ليس بفلسفي[viii].إنه رمز لفكر متاهي يشتغل بهدوء وصبر، ويواجه العالم باعتباره لغزا، ويستغني عن المطلق كضامن للحقائق الأبدية. ولهذا فهو مجازفة بل ومخاطرة تتطلب من صاحبهاالكثير من الجرأة للسير في الطرق التائهة غير المسلوكة التي لم يطأها أي تفكير بعد ولم يتم استكشاف أراضيها البكر. يقول نيتشه: "إلى حد الآن فإن كل ما يمنح لونا للوجود ليس له تاريخ، لأنه أين سنعثر عن تاريخ للحب، للجشع، للرغبة، للضمير الأخلاقي، للرحمة للقساوة ؟ (…) فهل نعرف المفاعيل الأخلاقية للأغذية ؟ وهل هناك من فلسفة للتغذية ؟(…)فهذه القضايا تحتاج إلى محاولة واختبار، حيث جميع المغامرات والبطولات ممكنة"[ix].
وفي الحقيقة فإن نيتشه يستعمل الشذرة بمعنى يناقض أصلها الاشتقاقي، إذ هي لا تتوخى التحديد المنطقي لما تتحدّث عنه، بقدر ما تسعى إلى اتخاذ المسافة الضرورية من المعاني والقيم التي تم تكريسها كحقائق، وإذا اقتضى الأمر فهي تخضعها إلى فحص نقدي جديد. فالشذرة تروم تحريك الفكر، وخلخلة يقينياته وعاداته، وتكسير المجرى العادي للأشياء. ولها قرابة مع التراجيديا إذ تشترك معها في هتك حرمة الخطاب[x]. كما تتسم الشذرة بطابع الذاتية والفردية لأنها موجهة أساسا ضد الإجماع القائم. ولأنها من جهة أخرى تحمل بصمات تجربة صاحبها، وتروي سيرته، وتعبّر عن معاناته في الوجود ومع الحقيقة. والشذرة تستمدّ فعاليتها من البلاغة والشعر أكثر مما هو منطقي وبرهاني. وهي تراكم الأسئلة وتثير الإشكاليات أكثر مما تقدّم الأجوبة وتبحث عن الحلول. وظيفتها الأساسية لا تتمثّل في إقامة التعالقات والتعميمات، بل في العمل على كشف وعزل مظاهر فريدة ومتميزة من شأنها أن تلقي بضوء جديد على تساؤلات أخرى أكثر عمقا وأهمية[xi]. وأخيرا وليس آخرا فالشذرة تحقق القطيعة مع الماضي ومع النسق، وموجّهة ضد السفالة والتفاهة، وتستمد قوّتها من تعدد المنظورات التي تسمح بها، وكذا من طبيعتها الترحالية والمتنقّلة. إنها كما يقول "دولوز" بمثابة آلة حربية وقوة رحالة يتعذّر تفكيك سننها من قبل القانون والعقد والمؤسسة[xii].
وفي الحقيقة فإن هذا الطابع البلّوري للكتابة النيتشوية والذي يسم النص الجنيالوجي بالتعدد يكتسي أكثر من دلالة: فهو من جهة يبيّن المقاومة التي يبديها الفكر النيتشوي لكل تقنين وتقعيد يسعى إلى ضبط ماهيته، أو تثبيت هويته، أو اعتقال حيويته. ومن جهة أخرى يشير إلى المناعة والحصانة الذاتية التي يتمتع بها ذلك الفكر نظرا لطبيعته الترحالية، ونظرا لكونه استطاع ابتكار أسلوب جديد في التفكير والكتابة يجعله غير قابل للتقنين، لأن سننه مستعصية على التفكيك. وهذا ما يجعلها تتحول إلى آلة حربية قادرة على اختراق آليات الضبط والمراقبة والمنع التي تمارسها سلطة الحقيقة على التفكير والكتابة، وذلك عن طريق التشويس على أجهزة الرقابة النظامية، والعمل على تمرير وتسريب عبر كتابة شذرية، مفاهيم ورموز واستعارات ملغّمة، وحدها القوى الجديدة هي القادرة على تفجيرها. ألم يصرّح نيتشه في أحد رسائله الأخيرة بأن حياته الفكرية كلها بمثابة ديناميت[xiii].
وبالإضافة إلى السمات الآنفة الذكر التي تميز الكتابة الشذرية لدى نيتشه، يضيف "موريس بلونشو" الخصائص التالية:
أولا، للشذرة النيتشوية علاقة مفتوحة بالفضاء الخارجي[xiv]. على عكس الأسلوب الفلسفي الميتافيزيقي الذي تكون علاقته بالخارج متوسطة من قبل الداخل، حيث يتم الإدراك من دواخل الوعي والروح. فالحركة الآتية من الخارج مختلفة عن الحركة الخيالية للتمثلات، أو الحركة المجردة للمفاهيم[xv]. إذ لا يكفي الكلام أو الحديث عن الأشياء التي توجد في الخارج، كالهواء الطلق والحياة والسياسة..لجعل التفكير مشدودا إلى الخارج ومخترقا بحركته. وقد تكون هذه الخاصية هي المقصودة حين يؤكد دولوز على أنه من حق النص الجنيالوجي المطالبة بمعنى مختلف بل ومضاد [xvi]. وليس هذا المعنى المختلف سوى دعوة لمعالجة الشذرة باعتبارها إمكانا ينتظر مجيء قوى جديدة لتوظيف معانيه أو لتفجيرها[xvii]. ذلك لأن النص - في نظر صاحب "هكذا تكلم زرادشت"- هو لعبة قوى متخارجة. ونيتشه يقولها بصريح العبارة: "إذا أردتم معرفة ما أقوله، فاعثروا على القوة التي تعطي المعنى، وعند الحاجة تعطي معنى جديدا لما أقوله"[xviii]. إن هذا الانفتاح على الخارج، والذي هو شبيه بعملية "الانشيال من الأرضنة"[xix]، هو ما يجعل منها كتابة ليست ب"كتاب"، أي ليس لها مدخل ومخرج، ومقدمة وخاتمة. وهذا ما يجعلها أشبه بالمتاهة (وهو مفهوم يتكرر بكثرة في نصوص نيتشه). لأنها كتابة بدون معالم، أو بدون ذات متعالية-على النمط الكانطي- تحيل إليها كمصدر أو كأساس. ولهذا فهي كالعنقاء تقبل موتها وفناءها وتهيئ الأرض لانبعاثها من جديد في هويات مختلفة وأسماء جديدة[xx].
وثانيا، فالشذرة لها علاقة بالتدفقات والإحساسات. ويعني هذا أن نصوص نيتشه بماهي حالات وجود وتجارب معاشة، فهي غير قابلة أن تترجم إلى مفاهيم وتمثلات. فهي بمثابة علامات تندرج في إطار هيئات متعددة المعاني والدلالات. وفي هذا الصدد يقول "أدورنو": " إن الفيلسوف اليوم يوجد في مواجهة لغة مفككة، ومواده هي بقايا الألفاظ التي يربطه التاريخ بها، ولا يمتلك من الحرية غير ما تمنحه له هيئاتها الخاضعة للحقيقة داخلها، وليس مسموحا له أن يفكّر بأن لفظا ما معطى له بكامله، أو أنه يستطيع أن يخلقه من جديد"[xxi].
وثالثا، تقيم الشذرة أيضا علاقة خاصة مع الضحك والسخرية والتهكم. فمن يقرأ نصوص نيتشه بدون أن يضحك، بل وبدون أن يضحك كثيرا فكأنه لم يقرأ نيتشه. وفي الحقيقة فإن خاصية المرح هذه تنسحب على كل كتّاب الثقافة المضادة ومفكّري ما بعد الحداثة. فهناك فرح غير قابل للوصف ينبثق من النصوص الكبرى حتى حينما تتحدّث عن أشياء تافهة وتبعث على الاشمئزاز والقرف. لأنه يستحيل ألا يضحك المرء حينما تتعرّض السنن والشفرات للعبة التشويش.
وخلاصة القول، فالكتابة الشذرية هي ما به يعثر النص الجنيالوجي على امتداده في الخارج، أو ما به يتمتع النص بحريته وكينونته في استقلال عن المؤلف، ليغدو واقعة خطابية لها حقيقتها ونمطها من الوجود. ويرى "بلونشو" بأن نيتشه من أكثر الفلاسفة الذين يكون "خوفهم من الخوف" أقل، ويجعلون من خوفهم مستقرّهم، ويعرّضون ذواتهم للخارج بشكل أقوى. وهذا ما يجعل كتابته وتفكيره عبارة عن توتر دائم ومستمر بين التشكّل والتشظّي، بين البناء والهدم، بين الواحد والكثير، بين الهوية والاختلاف[xxii].
لهذا يستحيل أن يكون سؤال الأسلوب والكتابة في فلسفة نيتشه مجرد سؤال جمالي خالص. لأن الجنيالوجيا لا تكترث بإقامة تلاحم منطقي، أوانسجام مفاهيمي على غرار البناء المعماري للخطاب الميتافيزيقي المحكوم بمنطق الهوية الذي يقصي التعددية الملازمة لحدوده، فيقيم تطابقا أحادي الدلالة بين الدال والمدلول، وتسلسلا صارما بين المفاهيم في إطار نسق برهاني مغلق. فجل المفاهيم التي تستعملها الجنيالوجيا تحيل إلى أنظمة استعارية متعددة المصادر. وإلى كنايات مستمدة من مجالات ثقافية مختلفة دينية وفلسفية وفنية: كديونيزوس، وأريان، والمتاهة، والعود الأبدي، وزرادشت…إلخ. وهذا ما يجعل مفاهيم فلسفة نيتشه تقاوم كل محاولة تروم أن تؤسس عليها خطابا عقلانيا نسقيا[xxiii]. بل هذا أيضا ما يجعل نصه ذا بنية مطاطية تقوم على الانزياح والاستبدال، حيث العقل والرغبة والمتعة والذوق والقوة والمعرفة مفاهيم متداخلة ومتعالقة فيما بينها في إطار منظور يمزج بين الفلسفة والشعر، بين الحقيقة والخطأ، بين الجدّ واللعب، بين الواقع والوهم. ويسعى إلى التفكير في الجنيالوجيا والجسد. إن هذا التداخل الدلائلي المميز للنص الجنيالوجي – بما هو استعمال لأنظمة استعارية متعددة، وبما هو مزج بين أشكال كتابية وأساليب تعبيرية مختلفة ومتنوعة (الشذرة، القصيدة، الرسالة، المحاورة، القصة، المسرح، السيرة، الرقص، الموسيقى..) يولّد القدرة على الانتقال بين الإشارات والرموز والصور، والقدرة على الترحال بين الفضاءات والأزمنة[xxiv]. فالكتابة في لحظة انكتابها تولّد نسيانا مضاعفا: نسيانا للدلالات الأصلية للألفاظ المستعملة، ونسيانا للنظام النحوي والمنطقي الذي تقوم عليه. وهذا ما يجعل النص الجنيالوجي جسدا حيا، ويجعل مفاهيمه وألفاظه مخترقة بدينامية حيوية تمنحها قدرة على التناسل، وعلى قول الحياة والصيرورة. لأن اللغة الجنيالوجية حينما تتكلم عن الأشياء والكائنات فهي لا تقول ماهيتها وإنما تتحدث عن تدفقاتها وإيقاعها، وعن مجاز لا عن حقيقة، وعن غائب لا عن حاضر[xxv]. وهذا يعني أن الكتابة الجنيالوجية تعتمد على استراتيجيات اللغة ونظمها الاستعارية في تحويل مضامينها إلى كائنات كلامية: فالشمس والقمر والكواكب والنجوم ليست أشياء فلكية في السماء، ولكنها الدفء والأنس والرفيق، والاقتصاد ليس علم سياسة المال والتجارة، ولكنه الغنى والفقر، والصحة والمرض، والسعادة والشقاء…إلخ. ويترتب عن هذا الفهم الجديد للكتابة تصور في غاية الأهمية والخطورة يجعل الغياب في اللغة هو الأصل وليس الحضور. وهذا هو معنى الطابع المخاتل للغة، وخبث الدليل. منطلق نيتشه في الكتابة الفلسفية يتمثل في الإقرار بالواقع التالي: عجز الفلسفة على قول الجسد والحياة وتأويلهما. وهذا ما جعل تاريخ الفلسفة- يبدو لنيتشه- كتاريخ سوء فهم للجسد. بل إن الخطاب الميتافيزيقي لا يتشكّل إلا كإنكار للجسد والدال وكبت لهما[xxvi]. وليست الكتابة الاستعارية سوى آلية للتحايل على اللغة وقول ما لا يقوله القول، ولإظهار ما لا يظهره المفهوم. من هنا يجب التمييز في الجنيالوجيا بين كتابتين أو لغتين: "لغة حول الجسد"، وهي لغة المفهوم والتمثل وتندرج ضمن ما يسمّيه نيتشه بالتمثيل المسرحي[xxvii] الذي يعمل على إنتاج نمط من الجسد قد تم إخضاعه وتحويله إلى موضوع، فيولّد الوهم بأن هذا الجسد-الموضوع هو حقيقة الجسد. و"لغة للجسد" وهي تأويل استعاري له وليست تمثيلا له. لأن النشاط الأساسي للجسد-بما هو معدة ضخمة لا تني عن هضم التجارب واستيعابها-نشاط سري ولا شعوري، ومن ثمة يستحيل اختزال تعدد قواه في شكل واحد متلاحم أو دلالة أحادية أو تنظيم نهائي. وإن أي محاولة لجعل المفهوم أو التمثل أو التأويل مطابقا للواقع ذاته، إلا ويكون مصيرها الوقوع في حبال المثالية والسقوط في وهم التطابق. فتشهد بذلك عن العجز على مواجهة القلق الناجم عن فوضى العالم وكاووس الجسد. لهذا تدعونا الجنيالوجيا إلى الإنصات فيما وراء ألفاظ وحدود اللغة الميتافيزيقية، إلى موسيقى الجسد، وهدير الحياة، وضجيج العمق، أي إلى ما يسمّيه نيتشه ب"رنّة الجسد"[xxviii]. لغة الجسد والحياة إذن لغة استعارية يتقاطع فيها الإدراك مع الإنصات، والفهم مع الذوق، وتلتقي فيها العين-وهي حاسة الميتافيزيقا بامتياز- مع الأذن والأنف. من هنا أهمية مفهوم "الفيلسوف-الفنان"Le philosophe-artiste لدى نيتشه، وسعيه إلى تلقيح الفلسفة بالشعر والموسيقى لجعل لغة الفلسفة كلغة أطفال، لغة تهدّم ما تبني وتبني ما تهدّم، إذ التعبير الاستعاري، ولغة القصيدة والشذرة، إذ تظهر النبرة الملموسة للجسد في علاقته العشقية بالعالم، تمكّننا ليس فحسب من الإدراك والتصور، ولكن أيضا وأساسا من الإنصات والتذوق. من هنا الأهمية التي تكتسيها في فلسفة نيتشه عملية "الكشف عن المفاهيم وجسّ نبضها" ausculter les concepts. ذلك لأنه بالرغم من أن الأمر يتعلق دوما بنصوص وخطابات، إلا أنه خلف تمثلات الألفاظ ومعانيها المجردة يتم الإنصات-وخاصة من طرف القارئ الذي يمتلك "أذنا ثالثة ومطرقة"- إلى ذوي الجسد ونبرته[xxix]. يقول نيتشه: "لم تستطع لغة البتة أن تعبّر قبلي عن هذه السعادة الزمردية، وهذا الحنان الإلهي". إذن فالنص/الجسد هو الفضاء الذي تتحول فيه القوى والرغبات إلى علامات. والعلامات اللغوية بدورها ليست سوى جزء من عملية الإنتاج الاستعاري. والغلط الممكن السقوط فيه هو الاعتقاد بإمكانية اختزال النشاط الاستعاري للجسد إلى النشاط الواعي التمثلي والصياغة المفهومية. الشيء الذي يعني بأن الاعتراف بالطابع الاستعاري للكتابة واللغة الفلسفية لا يؤدي بعد إلى إحداث القطيعة مع البناء المعماري للميتافيزيقا، بل يجب أيضا إحداث القطيعة مع وهم السيادة الذاتية للوعي وفلسفة الحضور والتمثل[xxx]. وكذا مع ذلك النسيان المتمثّل في كون أن الوعي ليس أوّليا، وأنه يفتقر إلى التأسيس الذاتي، وأنه لا وجود لتفكير واع إلا انطلاقا من عمق لاواع، لأن النشاط الواعي خاضع لتأثير العمق الذي يتجاوزه. هكذا يبدو الجسد- منظورا إليه من زاوية جنيالوجية- ملفوفا داخل أسلوب لم يتم التفكير فيه إلا سطحيا، وهو يجلي رغباتنا ودوافعنا وعلاقتنا بالمحيط. يقول الخطيبي: "فبمعنى ما، لا يعرف الإنسان جسمه إلا بما يسمع عنه، ذلك أن اللغة تحجب دائما جسم الإنسان، وإن الإحساس الأكثر حميمية نسيج من الاستعارات، فحتى الضحك والبكاء والصراخ المصاحبة للكابوس والتي تشكّل حدودا للغة البينة مليئة بإيقاع الكلمات وصورها الصوتية. لذا، ينبغي أن ننطلق من فكرة أنه لا يمكننا أن نتمثّل جسمنا كمدرك أو مجموعة مدركات، بل كصورة وإيقاع للحياة يجسّدهما الفكر والفن"[xxxi] . فالإنسان لا يعي إلا الجزء الضئيل من النشاط الاستعاري للجسد، وهو الذي يطلق عليه الوعي أو العقل. وهذا الجزء ينتج خلال نشاطه التأويلي أشكالا تنظيمية تمنح المعنى لفوضى لعبة قوى الأشياء، فتصنع ما نسمّيه "عالما" أي تشكيلا وتقطيعا معينا. إذن فالنشاط الواعي للعقل يخضع لتأثير عمق يتجاوزه يلقّبه نيتشه على غرار فرويد ب"الهو". وهذا ما يجعل كل تأويل هو تأويل لتأويل، وهو بدوره يجب تأويله.
تجاوز الميتافيزيقا يقتضي ليس قلبا للأفلاطونية فحسب، أي ليس مجرّد نقل للتفكير من العقل والمنطق إلى الجسد، بل ويقتضي أيضا تغييرا جذريا في سياسة الكتابة والتفلسف، حيث تكف هذه الأخيرة أن تكون تجليا للماهية والحقيقة، أو لهوية متطابقة، بل ملتقى للتجارب ومجالا لتفاعل القوى بما في ذلك قوة القراءة[xxxii]. وفي هذه الحالة "فتأويل النص- كما يقول رولان بارت- ليس إعطاؤه معنى أكثر أو أقل تأسيسا، لكنه على العكس تماما، إنه تقدير من أي نمط من الكثرة هو مصنوع"[xxxiii]. تجاوز الميتافيزيقا إذن يقتضي تغييرا جذريا لفضاء الكتابة في الفلسفة، ونقلها من مجال "فضاء الكتاب" إلى "فضاء الشذرة". وحسب دريدا يوجد تماثل قوي بين فضاء الميتافيزيقا وفضاء الكتاب، حيث الكتابة فيهما معا عبارة عن شبه حضور وغياب، وحدودها محددة سلفا وبشكل سابق على فعل الكتابة. فضاء الميتافيزيقا بما هي كتاب، فضاء دائري مغلق يخضع لتكرار عقيم تكون مدلولاته سابقة على لحظة انكتابها، ويكون الأصل فيه معلنا للنهاية وضامنا للغاية[xxxiv]. فالكتاب هو الفضاء الذي تتم فيه صيانة وهم نظام أصلي. ولهذا فهو فضاء متمركز حول استعارة نور الأصل الذي هو بمثابة قانون للخطاب الميتافيزيقي مع كل معادلاته التي يشغّلها كالأب والخير والسلطة والمعنى والحقيقة. فهو يتحكّم في القضايا والمسائل التي يثيرها، ويمنح للمفاهيم دلالاتها، ويحدّد لها موقعها وتمفصلاتها داخل نسق مغلق على نفسه، حيث يتم تغييب لعبة اللحظات المختلفة لأن الفضاء قد تم تقطيعه سلفا. وهو أيضا فضاء يحتفظ فيه المعنى على نقائه وطهره لأنه متلفظ به قبل وفي استقلال عن أي انكتاب. فكل حقيقة ممكنة داخل هذا الفضاء لا بد وأن تكون بشكل مسبق موجودة فيه بالقوة. وهذا ما يجعل الكتاب مسرحا مغلقا ومجرّد تكرار لماهية لا تفتأ تحضر باستمرار، مسرحا يعمل على إنتاج التمثلات الخيالية ذات النظام المعروف والمحدد سلفا والمدعّم أخلاقيا، ويبقي خارجه على عملية انكتابه[xxxv]. وهذا ما يمكّنه من إقامة تراتبية بين العلامات والقيم يستطيع عبرها القانون أن يحافظ على ذاته بمنآى عن أي مسّ أو مساءلة[xxxvi]. وليست هذه التراتبية في المنظور الجنيالوجي سوى شكل من أشكال التواطؤ بين الميتافيزيقا والأخلاق، وهي إحدى الآليات الكبرى التي يشغّلها الخطاب الميتافيزيقي في إنتاج الحقيقة[xxxvii].
يلقّب نيتشه الثقافة التي تعتقد بأنها تعثر على أساسها في الكتاب ب "الثقافة المزيفة". فأقصى ما يمكن أن يمنحه الكتاب هو "كتلة من الألفاظ والمفاهيم الرمادية التي لا تقوى على مواجهة زخم وكثافة الحياة"[xxxviii]. وفي أحسن الأحوال، فإن الكتاب يكتفي بمنح الإنسان صفة الكائن المفكر لا صفة الكائن الحي[xxxix]. لهذا ينعت نيتشه "مفكري الكتاب"les penseurs du livre ب"عمال الفلسفة"، لأنهم يكتفون بقطف وجني ما ينتجه الآخرون. فهم أشبه ب"عمال الشتاء"أو"مفكري الغروب" الذين يصلون دائما بشكل متأخر وفي زمن الانحطاط. ومما لا شك فيه أن شوبنهاور أحد أبرز هؤلاء. لقد بحث نيتشه في ثنايا كتاباته وفكره عن "صورة الأب" التي يمكن أن يستعملها كنموذج في التفكير والكتابة، لكنه أصيب بالخيبة والإحباط لأنه لم يعثر في كتابات الرجل وأفكاره سوى على حضور باهت، حضور ارتدى شكل "كتاب"، بينما هو كان ينتظر لقاء تجربة كتابية حية ومحاولة مبدعة على غرار محاولات فلاسفة ومفكري الحقبة ماقبل السقراطية[xl].
لا حاجة إلى التذكير بأن هذه الخصائص المميزة لأسلوب نيتشه في الكتابة، هي ذاتها خصائص الكتابة المعاصرة. فما يميّز هذه الأخيرة هو فقدانها لعنصر الوحدة والاتصال، وسيادة التعدد والتنوع والتفكك. بحيث ليس النص الفلسفي المعاصر نسيجا موحّد البناء، وإنما هو مفكك أقرب إلى الشذرة والقولة القصيرة منه إلى الوحدة والبناء والنسق. إنه بتعبير الخطيبي عبارة عن نص بلّوري[xli]. والمقصود بذلك، أنه يشكّل كتابة موجهة أساسا ضد الكتاب، وتسعى جاهدة لتحرير نفسها من سطوته وانغلاقه. وذلك عن طريق تعديد وتكثير أنظمتها الدلائلية، مما يجعلها كتابة مرحة (العلم المرح)، قادرة على التقاط الجسد عبر متعه المنفلتة. إنها كتابة مقطعية "تريد تلخيص كثافة العالم في نص غير كثيف لكنه ليس بشفاف. إنها محاولة لإقحام اللانهائي في الفضاء المحدود، والتعدد ضمن الموحد، وذلك في مقابل الوحدة التقليدية التي أساسها الانسجام المنطقي، والبناء المعماري. لا يعني هذا بأن هدفها هو إلغاء الوحدة، وإنما "إعادة الحياة له وجعله مفهوما ديناميكيا"[xlii]؛ لأن الوحدة في الكتابة المعاصرة – كما هو الشأن في الكتابة الجنيالوجية – ليست معطى أوليا تنطلق منه أو تصدر عنه، وإنما هي استراتيجية يساهم القارئ في بنائها، وغاية يجب أن ينتهي إليها. وهذا الأسلوب الاستراتيجي للكتابة الجنيالوجية هو ما جعل نيتشه يشك في إمكانية عصره على فهمه، وينتظر أن يأتي المستقبل بقارئ متيقظ ومنتبه، قادر على تفكيك ألغاز فكره، وسنن نصوصه. فهو يقول في رسالة له إلى Malwida von Mysembourg بأنه لن يقرأ ويفهم على نحو سليم إلا مع بداية الألفية الثالثة. وقد يكون هذا أيضا أحد المبررات التي جعلته يختار كعنوان فرعي لمؤلفه المحوري "هكذا تكلم زرادشت"،"كتاب موجه إلى الجميع وإلى لا أحد". فهو موجّه إلى الجميع بالنظر إلى المستقبل، ولكنه في هذا العالم وفي عصره الحاضر-الذي يفتقر إلى قارئ يستطيع أن يعطي للنصوص معاني جديدة-فهو لا يتوجّه إلى أحد.
وخلاصة القول، يبدو أن الالتباس هو السمة الأساسية للوضعية التي يوجد عليها النص الفلسفي: فمن جهة فهو يبدو أساسا كمستودع لصياغة مفهومية مستقلة وسابقة منطقيا على أسلوبها في العرض والكتابة. من هنا الحديث في الميتافيزيقا عن كتابة شفافة أو صورية خالصة، على غرار مثلا أسلوب "ليبنتز" في الكتابة. ومن جهة أخرى لا توجد درجة صفر في الكتابة، حيث نمط التفكير مرتبط بأسلوب العرض وفعل الكتابة. من هنا "العلاقة الشقية" التي تقيمها الفلسفة مع الكتابة، والتي أوضحها كانط حينما اشتكى من خلو أسلوبه في الكتابة من الرشاقة والتشويق، وحتى إن اعتبر ذلك مؤشرا على عمق تفكيره، وخاصية تميز الفلسفة وتجعلها خارج الأدب والشعر[xliii]. هكذا يمكن التمييز في الفلسفة بين نوعين من النصوص: النصوص ذات الأثر الكتابي، والنصوص التي تنمحي ككتابة لكي تكون "تسجيلا مخلصا" للفكر. الأولى تعتبر أن الكتابة هي دوما يتيمة وتفتقر إلى مساندة أبوية، وربما يكون هذا الافتقار هو ما يمنحها قوة وحيوية وقدرة على التناسل. والثانية تعتبر أن الكتابة إمكان للخيانة وإضعاف للذاكرة وفضاء للتعتيم والغواية، ولهذا يجب اختزال كثافتها وإخضاعها لوصاية اللوغوس، وجعل الدال في تبعية أبدية للمدلول. وإذا كانت الفلسفة منذ نيتشه-تلك التي تندرج ضمن ما أصبح يعرف اليوم ب"ما بعد الحداثة"- قد اختارت الاختيار الأول، فيجب أن نشير إلى بعض مضاعفات ذلك الاختيار وانعكاساته اليوم على الفكر الفلسفي. فلم تعد الفلسفة اليوم –على غرار ما كانت عليه منذ أفلاطون مرورا بديكارت وهيجل وانتهاء بهوسرل- مصدرا للمشروعية، ولا تأسيسا للحقيقة. لقد ولى زمن المحكيات الكبرى les méta-récits[xliv] . بل هي مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى أن تثبت فعاليتها خارج قلعتها العتيقة، وأن تعمل على استكشاف أراض جديدة تجرّب فيها مفاهيمها، أو تعمل على جسّ نبضها داخل الحقول الموجودة. كما أن الفلسفة مطالبة أيضا أن تغير نظرتها إلى تاريخها وعلاقتها به. فلم يعد هذا التاريخ يحكي مسيرة العقل نحو التقدم والتحرر والوعي بالذات. لم يعد ينزع نحو تجاوز أخطائه وتصعيد تناقضاته واختلافاته باتجاه إقامة جمهورية يتحقق فيها الإجماع والانسجام والوحدة. بل لقد أصبح هذا التاريخ عبارة عن تواريخ، وظيفتها الأساسية هي الحيلولة دون تحقيق الإجماع، ودون انغلاق المعنى وتماهيه مع القيمة لكي لا تتواطأ الفلسفة مع الأخلاق، واللاهوت، والميتافيزيقا، والدولة.وهذا التعدد الذي يسم تاريخ الفلسفة هو بمثابة آلية وقائية للفلسفة ضد الانغلاق والدغمائية والعنف، لأنه يبين بأن الصور التي قدمت لنا عبر التاريخ عن العالم باعتبارها تشكّل الماهية الطبيعية للأشياء والكائنات، ليست في واقع الأمر سوى مجرد صور فرضت نفسها في عصر من العصور لسبب من الأسباب، ولحيثية من الحيثيات، وأنه من الممكن أن تستبدل بصور أخرى مغايرة لا تقلّ أهمية وفعالية منها[xlv].
________________________________________
[i] - De la grammatologie,p33,op.cit .
[ii] - . ibid , p31
[iii] - يمكن للقارئ الراغب في الاطلاع على أبعاد المشروع النيتشوي في الفلسفة، الرجوع إلى الرسالة التي تقدّمت بها خلال السنة الجامعية :2000-2001، لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة ، وهي تحت عنوان : "الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد /النص الجنيالوجي لدى نيتشه كنموذج ". تحت إشراف الدكتور سالم يفوت، وتوجد بمكتبة كلية الآداب والعلوم الانسانية /الرباط.
[iv] - مفهوم العود الأبدي: أحد أهم المفاهيم في الفلسفة النيتشوية. وهو يندرج ضمن الإلهام الصوفي أو الوحي الديني أكثر من اندراجه ضمن الحدس الفلسفي المفهومي. والاعتقاد فيه والعمل بمقتضياته وتعاليمه يتطلب من صاحبه-حسب نيتشه- الكثير من الجرأة والتهور. لهذا وجدنا نيتشه يستعمله كمعيار للتمييز بين النموذج الارتكاسي والنموذج الفاعل، أو بين الضعيف والقوي. فالقوي هو من يستطيع توكيد الطابع التراجيدي للوجود بدون ضغينة وبدون أوهام. وحسي كلوسوفسكي، فإن العود الأبدي على تفكيك الهويات الثابتة، ويجعل من المستحيل قيام "الذات" بالمعنى التقليدي- الميتافيزيقي للفظ. وحسب دولوز تقتضي فكرة العود الأبدي إقامة تعالق بين ثلاثة مفاهيمهي: أفول المتعالي، وإرادة القوة، والعود الأبدي. فمع أفول المتعالي وحلول العدمية، تفقد الذات ضامن وحدة هويتها ووجودها، فتتعرّض للتفكك والتشظي. وحينما يصير الأنا مفككا، سيضطر إلى أن ينفتح على جميع الأسماء والهويات، ويضطلع بجميع الأدوار. وليس العود الأبدي غير أفول المتعالي وتفكك الهوية الذاتية أو القومية. إنها لا تعني غير العودة المتكررة للأشياء ذاتها في اختلافها إلى الأبد. وهذا ما يجعل مفهوم العود الأبدي النيتشوي يتعارض جذريا مع التصور الغربي اليهودي-المسيحي للتاريخ. لأن الأبدية التي يستلزمها العود تقتضي تفكيك بنية الزمن بما هو خط متدرج في تصاعده، وخلخلة التفاضل القائم بين آناته الثلات، حيث يصبح الماضي والحاضر والمستقبل-عللا حد تعبير فاتيمو-مجرد كيفيات مختلفة لإدراك التاريخ والأبدية.
[v] - أسس الفكر الفلسفي المعاصر، ص140 ، مرجع سابق .
[vi] - نفس المرجع ، ص29 .
[vii] - Nietzsche (F), par delà le bien et le mal, aph.210, p184 et p185, 10-18, 1973.
[viii]- Heidegger(M), Nietzsche t1, p33, trad.P.Klossowski, Gallimard, 1971.
[ix]- Nietzsche(F), Aurore,aph.501, trad. Henri Albert, livre de poche, 1995.
[x] - Nietzsche(F), Le gai savoir, aph.7, trad.P.Klossowski, 10/18, 1957.
[xi] - Nietzsche(F), Humain trop humain 1, p421et422, Œuvres t1, Robert Laffont, 1993.
[xii] - Deleuze(G), Pensée nomade, p161, in colloque, Nietzsche/Aujourd’hui, intensités,t1, 10/18, 1973.
[xiii] - Nietzsche(F), Lettre à Peter Gast, le 9 décembre 1888, in Dernières lettres, p109, préface de Jean-Michel Rey, éditions Rivages, 1989.
[xiv] - أعتقد بأن العمل على إبقاء الفلسفة منفتحة على ما يوجد خارجها، هو أحد ثوابت المسعى الجنيالوجي في الفلسفة. ولقد شكّل أيضا الهم الأساسي للفلسفة في "ما بعد الحداثة" وخاصة لدى فوكو، ودولوز، ودريدا، وجان لوك نونصي، وليوتار…إلخ. لقد حاول هؤلاء جميعا فك هيمنة مؤسسة الجامعة على الفلسفة، وكذا تحريرها من هيمنة تاريخ الفلسفة بجعلها تنفتح على ما يوجد خارجها وعلى هامشها. وحسب دولوز فإن تاريخ الفلسفة يمارس على الفلسفة وظيفة قمعية بديهية. ولهذا فهو يشكّل نوعا من "مركّب أوديب" في الفلسفة، لأنه يفرض عليها أن تستمد مشروعية قولها مما هو متداول في ذلك التاريخ و من معيار الحقيقة كما تكرّس داخله. لهذا اعتبر دولوز بأن أحد مهام الفلسفة اليوم هو جعل تاريخ الفلسفة يتخلى عن هذه الوظيفة الإخصائية. ومن جهة أخرى يجب فتح أبواب الفلسفة على حقول مختلفة ولغات متنوعة: كالسينما، والموسيقى، والرواية، والتشكيل…إلخ. وبعبارة أخرى يجب الحذر من كل محاولة تركيبية كيفما كان شكلها. وبمقتضى ذلك تغدو الفلسفة محاولة انفصال دائمة متعددة الواجهات، وعملية ترحال وانتقال لا تعرف الملل. إنها انفصال عن ذاتها وتاريخها، وسفر نحو فضاءات جديدة، واستكشاف لأراض بكر.
[xv]-Nietzsche/Aujourd’hui ?, p166, op.cit.
[xvi] - ibid, p167
[xvii] - ibid, p168
[xviii] - Nietzsche(F), Essai d’autocritique, p154, seuil, 1999.
[xix]- يمكن الرجوع بصدد هذا المفهوم إلى مؤلف دولوز وغاتاري "ما هي الفلسفة"، ترجمة مطاع صفدي، المركز الثقافي العربي، 1997.
[xx] - Nietzsche(F), Lettre à Jakob Burckardt, le 6 janvier 1889, in Dernières lettres, p151, préface de Jean-Michel Rey, éditions Rivages, 1989.
[xxi] - Essai d’autocritique, op.cit.
[xxii] - Wihelm schmid, La philosophie comme art de vivre, p82, in magazine littéraire, n°298, 1992.
[xxiii]- يمكن الرجوع بصدد هذه المقاومة التي يبديها النص الجنيالوجي للقراءة النسقية ولكل قراءة اختزالية إلى مقالي المنشور بمجلة الجمعية الفلسفية المغربية "مدارات فلسفية"، العدد السابع، شتاء2002، تحت عنوان:"في نقد القراءة الهيدغرية لنيتشه".
[xxiv] - Blondel(Eric), Nietzsche, le corps et la culture, p121, puf,1986.
[xxv] - منذر عياشي، الكتابة الثانية وفاتحة المتعة، ص16، المركز الثقافي العربي، 1998.
[xxvi] - Jean-Michel Rey, La généalogie Nietzschéenne, p225, in la philosophie de Kant à Husserl, Marabout université, 1979.
[xxvii] — Jean-Michel Rey, L’enjeu des signes/lecture de Nietzsche, p120, éditions du Seuil, paris, 1971.
[xxviii] - Serge le Diraison et Eric Zernik, le corps des philosophes, p154, puf, 1993
[xxix] - le corps des philosophes, p158, ibid.
[xxx] - يعتبر الكوجيط أحد المقولات المركزية في الخطاب الميتافيزيقي، التي ستخضعها الجنيالوجيا لضربات مطرقتها. ومن المعروف أن الميتافيزيقا تتحدد في المنظور الجنيالوجي التفكيكي، كخطاب متمركز حول الذات والوعي. وعملية تفكيك الذات من قبل نيتشه تتم عبر إظهار أنها تم بناؤها وفقا لمنظور ارتكاسي، أي تبعا لجسد مجزأ يعثر على نموذجه المفضّل في العين، بينما تعتبر الجنيالوجيا ذاتها تستلهم نموذجا آخر يجد تجسيده الأساسي في الأنف والأذن. يمكن الرجوع بصدد هذه المقارنة بين الجنيالوجيا والميتافيزيقا وخاصة في موقفهما من الجسد إلى الفصل الأخير من كتابي حول نيتشه، "الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد/جنيالوجيا الخطاب الميتافيزيقي"، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس، طبعة2003.
[xxxi] - عبد الكبير الخطيبي، الجسد بين الصورة والدليل، ص65، ندوة حول "الجسد والفلسفة"، مجلة الحياة الثقافية، تونس، العدد66/1993.
[xxxii] - - Nietzsche(F), Dernières lettres, p9, préface de Jean-Michel Rey, éditions Rivages, 1989. op.cit.
[xxxiii] - le corps des philosophes, p160, op.cit.
[xxxiv] - L’enjeu des signes/lecture de Nietzsche, p127 et p128, op.cit
[xxxv] - Jean-Marie Schaeffer, Note sur la préface philosophique, p44, in Poétique, n°69, Février 1987, Seuil.
[xxxvi] - L’enjeu des signes, p130, op.cit.
[xxxvii] - La généalogie Nietzschéenne, p245 et p246, op.cit.
[xxxviii] - considérations inactuelles 2, aph.10, p279, œuvres t1, op.cit.
[xxxix] - George Baladier, Nietzsche et la critique du christianisme, p46, éditions du cerfs, Paris, 1974.
[xl] - Nietzsche Aujourd’hui ?, Passions2, p122 et p123, op.cit.
[xli] - عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ص17، ترجمة محمد بنيس، منشورات عكاظ 2000.
[xlii] - عبد السلام بنعبد العالي، بين-بين، ص100، دار توبقال للنشر، 1997.
[xliii] - Jean-Luc Nancy, Logodaedalus (Kant écrivain), p25 et p26, in Poétique, n°21/1975.
[xliv] - Jean-François Lyotard, La condition postmoderne, p7 et p8, éditions de minuit, 1979.
[xlv] - Que peut faire la philosophie de son histoire ?, p10, Recherches réunies sous la direction de Gianni Vattimo, éditions du minuit, 1988.