تأليف د محمد محمد يونس علي
تعد هذه الخصلة من أكبر عوامل التخلف والتأخر، وقد ذكر على جواد طاهر أن
الأنانية قد تأصلت "في أنفس الأعراب وفي أنفس أشباه الحضر وفي أكثر الحضر، حتى
صارت أنانية مفرطة، عاقت اﻟﻤﺠتمع العربي في الجاهلية وفي الإسلام عن التقدم وعن التوثق
والاتحاد"، 37 ويذكر شاهدا على ذلك ما ورد في حديث عن أبي هريرة أنه قال: "قام رسول
الله، صلى الله عليه وسلم- إلى الصلاة، وقمنا معه، فقال إعرابي في الصلاة: اللهم ارحمني
ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا". 38
فأين نحن (وأمثال هذا الإعرابي) من الروح الجماعية التي اتسم ﺑﻬا أسلافنا، وشاعت
بينهم، كما في قصة الأنصار الذين نزل في مدحهم قرآن يتلى إلى يوم القيامة، يقول تعالى:"
وَيُؤْثِرُو َ ن عََلى َأنُْفسهمْ وََلوْ كَا َ ن بِهِمْ خَصَاصَة"؟ (الحشر: ٩)، وأين نحن من قوله تعالى:
"وَيُ ْ طعِمُو َ ن الطَّعَام عََلى حُبّه" (الإنسان: ٨)، وأين نحن من أبي بكر الصديق الذي تبرع بجميع
ماله في خدمة الدعوة؟، وأين نحن من عكرمة وأصحابه الذين عرض عليهم الماء يوم
اليرموك، فأخذ كل واحد منهم يؤثر به صاحبه، ويدفعه إليه "حتى ماتوا عن آخرهم، ولم
يشربه أحد منهم"؟. ٣٩
من أهم سمات التمحور حول الذات:
1- الانتهاية والاستغلال
يرى كثير من الناس في اﻟﻤﺠتمعات العربية أن الحياة فرص ينبغي استغلالها، ويسود
بينهم الاعتقاد بأن العلاقات مع الآخرين يحكمها صراع يوجب على كل طرف ضرورة
حسمه لصالحه. وقد ترتب على ذلك أن من يحصل على منصب سياسي أو اقتصادي أو
موقع اجتماعي أو إعلامي أو تربوي فلا بد له من أن يستغله لصالحه إلى أقصى حد ممكن.
وعادة ما يرفع الانتهازيون شعار "أربح ويخسر الآخرون"، الذي يعكس اتجاها نفسيا-عقليا
"ينطلق من منطلق التنافس والتحاسد، وينظر للحياة كميدان سباق لا يربح فيه أحد إلا على
حساب خسارة الآخر. وإذا تسلم القيادة من يفكر ﺑﻬذه العادة فسيكون متسلطا دكتاتورا
لا يتعاون مع أحد ولا يأمنه أحد". ٤٠
ولعل من انعكاسات الأنانية في مجال اللغة العربية أن الدوافع البحثية عند بعض
الباحثين تحرك بغاية الحصول على الترقيات وتحسين السير الذاتية والرغبة في الحصول على
المال والمنافع المادية، والجوائز النقدية، وليس بتطوير المادة العلمية ومناهجها وطرائق
تدريسها. يقول أحمد الضبيب: "وأكثر ما يقوم به أساتذة الجامعات من بحوث ينصرف
لأغراض نفعية قصيرة المدى تتصل بترقياﺗﻬم الأكاديمية. ولا يستفيد منها اﻟﻤﺠتمع في دفع
عجلة التنمية أو في المشاركة العالمية الجادة على أساس ندّي". ٤١ وكذا يمكن أن نرى آثار
الأنانية في الغاية من تنظيم المؤتمرات (الدعاية للمؤسسة، إثبات الذات، إظهار الإنجاز
والإنتاج).
ومن الأنانية أيضا عدم النظر إلى التدريس والعلم والبحث على أﻧﻬا رسالة مقدسة،
بل اقتصر الأمر غالبا على عدّ تلك الأعمال وسيلة من وسائل العيش، ويذكر أبو الحسن
العلوي أن أهل العلم في عصره غابت عنهم "الروح السامية والنفس الكبيرة التي تربأ بالعلم
أن يباع بيع السلع" 42 حتى إن كثيرا منهم عرضوا مهنهم للبيع "يبيعوﻧﻬا بالمناداة (المزاد
٦٧٤ مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، ج ١٧ ، ع ٢٩ ، صفر ١٤٢٥ ه
العلني) ليشتريها من يزيد في الثمن كائنا من كان، فليس الشأن عندهم في العقيدة ولا في
الغرض والنتيجة ولا في الملاءمة والذوق، إنما الشأن عندهم في الثمن الذي يدفعه المشتري. 43
ويؤكد فهمي جدعان هذا الواقع المحزن في حياة الأكاديميين العملية التي يعيشوﻧﻬا في ضوء
ظروف جامعية تسود فيها "الأحكام العرفية والجهالة والتبلد والتخلف التام" إلى أن
أصبحت حياﺗﻬم "خالية من كل معنى"، وتحولت قصارى آمالهم إلى "تكثيف الجهود من أجل
مطلق العيش وحماية الرغبة في الوجود وفي البقاء، أو في نشدان السلطة بأشكالها
المختلفة". 44
2- الاستبداد
تعد هذه السمة نتيجة تراكمية لكل ما ذكر، كما أﻧﻬا مظهر مجسد له، إذ ترتكز
على نغمة الحسم في تقويم الأمور، وعدم تقبل النقد، والآنية والارتجال، واتباع الهوى
والعواطف، والانتهازية والاستغلال، ولا يكاد يوجد مستبد لا يتسم سلوكه ﺑﻬذه الصفات .
وقد وضع فهمي جدعان الاستبداد على رأس قائمة ما سماه بالقيم المضادة للحياة والتقدم. ٤٥
وتتلخص مشكلة الاستبداد في أن المستبد يرى تناقضا بين مصالحه الشخصية
المحكومة بأنانية مفرطة، والمصالح العامة التي لا تشبع ﻧﻬمه؛ ولذا يحرص على أن تكون كل
أمور اﻟﻤﺠتمع متمحورة حول شخصيته، فهو "الذي تدور لأجله عجلة الحياة، فلأجله يتعب
الفلاح، ويشتغل التاجر، ويجتهد الصانع، ويؤلف المؤلف، وينظم الشاعر، ولأجله تلد
الأمهات، وفي سبيله يموت الرجال، وتقاتل الجيوش". ٤٦
ويقصر كثير من الناس مفهوم الاستبداد على الحاكم مع أن بعض الحكام -وربما
أكثرهم- هم أقل استبدادا من أغلب الناس. ويبدو لي أنه ليس ثمة صفة إنسانية أضرت
بالإنسان عموما وبالعرب خصوصا كهذه الصفة؛ إذ ترتب عليها من الخسائر الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية ما لا يمكن تعويضه، وذلك بسبب ما ينشأ عنها من اتخاذ قرارات
استراتيجية وإجرائية غير سليمة تحدث ضررا كبيرا بالشركة أو المؤسسة أو الإدارة أو
الدولة التي تغيب فيها قيم الشورى الفنية والتخصصية والشعبية. وقد عزا عبد الكريم
غلاب ضياع مصالح شعوب العالم الثالث في "التنمية والتعليم والصحة والسكنى والعمل"
إلى الاستبداد، ٤٧ كما عزا ابن خلدون سقوط البرامكة إلى هذه السمة المدمرة. ٤٨