تأليف د محمد محمد يونس علي
تتجسد سطحية التفكير فيما يأتي:
1-قصر النظر
يطلق قصر النظر على كل تقويم لعمل ما يقتصر فيه على مردوده الآني، أو ما
يترتب عليه في المستقبل الداني، وهو أمر يؤدي إلى صاحبه إلى التخبط والجور على من هو
دونه حين يجبره على إنجاز ما قصّر هو فيه، ويبدو هذا واضحا في المؤسسات التي يغيب عنها
التخطيط المستقبلي، وتضطر إدارﺗﻬا إلى إرغام موظفيها على القيام بأعمال لا يمنحون فيها
الوقت الكافي لإنجازها فيترتب على ذلك رداءة الأداء وتفاهة النتائج. وما قيل عن المستوى
الإداري ينطبق على المستوى الفردي والأسري والاجتماعي.
ومن مظاهر قصر النظر في مجال اللغة العربية غياب العمل الإحصائي (أو ندرته )،
وعدم تحديد أهداف تدريس اللغة أو وضع أهداف غير علمية، والارتجال، وندرة التخطيط
طويل المدى . بل إنه حتى عندما يكون هناك تخطيط، فالغالب أ ن تجانبه الدقة والمتابعة، ومن
شواهد ذلك أن بعض المثقفين والمخططين العرب –كما يذكرجولييت غارمادي - ذهبوا إلى
القول بأنه بالإمكان –في عشر سنوات أو في خمسين سنة في الأكثر - أن يجعلوا من العربية
لغة "متكيفة مع الحاجات الراهنة "، ٦٦ وأن يجعلوها "اللغة المشتركة ذات ا لاستعمال
اليومي" ٦٧ لكل الناطقين بالعربية، ولكنهم لم يقوّموا الوضع الراهن للغة العربية وعاميتها
تقويما صحيحا، كما أﻧﻬم لم يراعوا الظروف الاقتصادية الصعبة، وانتشار الأمية في الوطن
العربية مراعاة دقيقة . ٦٨ وما نخشاه في الظروف الحالية الحرجة التي تعيشها الأمة أن تطور
المناهج وفقا للأمركة والظروف الخارجية المختلفة، وليس تلبية للحاجات الحقيقية التي
تتطلبها التنمية الجادة.
2- غياب العمق
أعني بغياب العمق غياب الطابع التجريدي في البحوث والأعمال ، وعدم العناية
بالتفاصيل، والاقتصار على ما هو مألوف أو ما يسهل الوصول إليه، وعدم التنويع في
مصادر المعرفة، وغياب التأصيل الفلسفي والنظرة الشمولية للموضوع، والعجز عن التنظير،
والجهل بطبيعة المعرفة البشرية، وأصولها. ٦٩
3- صفرية الانطلاقة
المراد بصفرية الانطلاقة عدم الرجوع إلى ما فعله الآخرون، والابتداء دائما من
أزمة اللغة ومشكلة التخلف في بنية العقل العربي المعاصر- د. محمد محمد يونس علي ٦٨٣
نقطة ا لصفر، ويمكن مشاهدة ذلك بوضوح في مؤتمراتنا وندواتنا العلمية حين تقوم الجهة
المنظمة بعملها دون نظر إلى الجهود السابقة في اﻟﻤﺠال المبحوث، وينطبق هذا إلى حد كبير
على البحوث والأعمال الفردية في مختلف اﻟﻤﺠالات . ولا أدل على ذلك من غياب
الدوريات واﻟﻤﺠلات العلمية ا لعربية وقواعد البيانات في مختلف التخصصات عن الإنترنت،
وانعدام الفهرسة التي تسهل الرجوع إليها، والوضع السيئ الذي تعاني منه إجمالا.
ومن انعكاسات التخلف وصفرية الانطلاقة أيضا عدم مراعاة نتائج اللسانيات
الحديثة في وضع المناهج إلا ما ندر، وإهمال تجارب الآخرين في تدريس اللغة، وإهمال
الباحثين ما سبق أن كتب في الموضوع متجاهلا أن إسهامه العلمي ما هو إلا لبنة في بناء أشمل
وأوسع وأقدم.
ولا يخفى أن الترعة الصفرية والنظرة الهلالية المصاحبة لها تفوّتان علينا فرصة الإفادة
من الخبرة التراكمية التي هي الأساس الأول في بناء حضارة متقدمة.
4-إهمال الكيف والاهتمام بالكم
يقاس النجاح والجودة عندنا في معظم الأحوال بالعدد، وليس بالجودة، ويمكن أن
نرى هذا بوضوح في معايير التوظيف، والترقية، والتكريم، والمباهاة ، فزيادة العدد أو الحجم
دائما هو الأهم، والاهتمام دائما ينصب (بنظرة مستدبرية لا مستقبلية) إلى "كم ُفعِل" وليس
إلى "كيف سيفعل".
5- التفكير الشخصاني (المتمحور حول الأشخاص لا الأفكار)
ينحصر اهتمام كثير من الناس في ملاحظاﺗﻬم وتقويمهم للظواهر والأحداث في
الأشخاص الذين لهم صلة ﺑﻬا بدلا من العناية بالأحداث والظواهر في حد ذاﺗﻬا. وتتوجه
العاطفة (حبا أو بغضا استحسانا أو استقباحا رضا أو سخطا) وكذلك الأحكام (قبولا أو
رفضا) نحو الشخص الذي قام بالفعل أو كان موضوعا له. ويؤول هذا في ﻧﻬاية الأمر إلى
التعلق بالأشخاص وربما تقديسهم أو التحامل عليهم ومحاربتهم في الوقت الذي تكون فيه
الحاجة ماسة إلى التعامل مع الأحداث والظواهر التي ارتبطت ﺑﻬا أسماؤهم. وربما يرى هذا
بوضوح في التعامل مع الحكام والمسؤولين ومن يظن أﻧﻬم من الأولياء، وغيرهم. ولكي نأخذ
مثالا على ذلك، علينا أن تذكر هنا أن النقد في عالمنا العربي كثيرا ما يأخذ طابعا شخصيا
صريحا تظهر فيه العاطفة نحو الشخص المنقود في الوقت الذي تكون فيه الحاجة ماسة إلى
الحديث عن الظاهرة أو الفكرة المعنية نفسها.
وقد أدرك مالك بن نبي الأثر السلبي للتفكير الشخصاني في العقل العربي المعاصر،
وسماه بالعقيدة الوثنية، ورأى أﻧﻬا تتجسد في شيئين : تقديس الأشخاص، وتقديس الأشياء،
مستنتجا أن المشكلة الحقيقية إنما هي "مشكلة الحضارة أولا وقبل كل شيء "، ٧٠ ويبدو أنه
يقصد مشكلة بناء عقلية حضارية بالتخطيط لثقافة "شاملة يحملها الغني والفقير، والجاهل
والمتعلم". ٧١ وقد فسر سبب إطلاق الجاهلية على عصر مجتمعات ما قبل الإسلام بأن
"علاقاﺗﻬا المقدسة لم تكن مع أفكار وإنم ا كانت مع أوثان الكعبة ". ٧٢ وبعد أن شرح كيفية
انتقال نمو اهتمام الطفل من العناية بالأشياء إلى العناية بالأشخاص إلى العناية بالأفكار استنتج
مالك بن نبي أن مرحلة العناية بالأشخاص في اﻟﻤﺠتمعات الإنسانية هي مرحلة سابقة لمرحلة
العناية بالأفكار . ٧٣ ويرى عبد الكريم بكار أن أزمة الخلط بين الأفكار والأشخاص تزداد
"حين تمر الأمة بمرحلة ركود، أو حين تواجه أزمة في الفعل، فينتج عن ذلك أزمة في إعمال
العقل، فتقل، أو تضعف فاعلية الأفكار ". ٧٤ أما في اﻟﻤﺠتمع السليم فإن التميز واضح بين
الأفكار والأشخاص والأشياء، "ويكون اﻟﻤﺠتمع في أعلى درجات الصحة حين يكون الولاء
ل"الأفكار" هو المحور الذي يتمركز حوله سلوك الأفراد وعلاقاﺗﻬم وسياسات اﻟﻤﺠتمع، بينما
يدور "الأشخاص والأشياء" في فلك الأفكار". ٧٥
6- التفكير التبسيطي
أزمة اللغة ومشكلة التخلف في بنية العقل العربي المعاصر- د. محمد محمد يونس علي ٦٨٥
يتلخص التفكير التبسيطي في المبادرة بتقديم حلول بسيطة لمشاكل معقدة، وإجابات
سهلة لأسئلة صعبة. ومن ذلك ما يقوله بعض الناس من أن مشاكل الأمة ستحل بتنصيب
خليفة للمسلمين، أو بنقل التقنية الغربية، وأن حل مشكلة التعليم موكول بإدخال الإنترنت
إلى المدارس، وأن حل أزمة العربية إنما يكون بصدور قرار سياسي يعيد لها هيبتها، ويعيد لها
مجدها. ويرتبط التبسيط بالعقلية البدائية التي يعوزها التراكم المعرفي الذي يؤهلها لإدراك
أبعاد المشكلة وتعقيداﺗﻬا، ويحول دون النظر في الاتجاهات المختلفة، يقول عبد الكريم بكار:
"إن تبسيط الأمور عدو لدود للملاحظة والتجريب والتخصص؛ لأن هذه الأمور لا تأتينا
عادة إلا بالتفريع والتفصيل، وهو ما لا يطيقه الإنسان البدائي الذي يتسم -في جملة ما يتسم
به- بقلة الصبر على الملاحظة، والمسارعة إلى إطلاق أحكام عامة بسيطة دون أدنى حيطة أو
حذر". ٧٦
7- التفكير الحشوي
ترتبط المعرفة عند الكثير من الناس بجمع أكبر قدر من المعلومات وتخزينها، فإذا
كان العارف مدرسا نزع إلى حشو تلك المعلومات في ذهن طلابه، وهكذا تستمر العجلة في
الدوران ولكن في مكان واحد. والضحية الأولى في هذا النهج التفكيري هي المنهجية
والإبداع، والتعليم، والبحث العلمي.
إن الناظر في كل ما سبق ليلحظ أن كل السمات المذكورة هي أقرب لأن تكون
صفات طفولية تتمحور حول الأنا وتحكمها الاتكالية والاستسلام والعاطفة، وربما دل هذا
على أن الشعوب المتسمة ﺑﻬا لمّا تنضج بعد. والحل يكمن في الدفع بالأجيال الجديدة وعامة
الشعوب العربية والإسلامية إلى أن تبلغ سن الرشد، وذلك إنما يكون بتخليصها من
السمات الطفولية المذكورة سابقا. ولا ينبغي أن يفهم من هذا أن ما هو سائد في مجتمعاتنا
العربية من قيم وآداب وتعاليم دينية مندرجة فيما أشرنا إليه. بل كل ما نعنيه هو طرائق
التفكير وأساليب التصرف السائدة في اﻟﻤﺠتمع التي تصدر عن أهواء النفوس، وتحكمها
العقول المتسمة بالصفات المذكورة؛ وليس السلوك المحكوم بالدين أو الأخلاق المحكومة
بالأعراف الأصيلة بداخل فيما ذكرنا بأي وجه من الوجوه.