تأليف د محمد محمد يونس علي
ترتبط هذه الظاهرة بعدم النضج وغلبة الخصائص الطفولية في البشر، وهي سمة
نسبية قلما يخلو منها إنسان، ولكنها تصبح خطرة إذا غلبت على شخصيته على نحو مَرضي،
ويتفرع عن عاطفية التفكير:
الآنية والارتجال
من مظاهر الآنية والارتجال أن أعمالنا وأحكامنا غالبا ما تكون ردود أفعال وليس
مبادرات، وهو ما يؤدي إلى انعدام الدقة في الحكم والاستعجال في العمل، والفوضى،
وغياب التخطيط الواعي. والخلل هنا ليس في وجود ردود على أفعال بعينها، فهذا أمر
شائع في كل الأمم، ولكن الخلل يبدو في غياب استراتيجيات عمل بعيدة المدى، وانعدام
سياقات عامة مقاصدية بحيث تكون ردود الأفعال جزءا مكملا للقرارات والأحكام المؤقتة
على نحو تكون فيه جميع هذه الجزئيات كلا متناسقا ومنسجما بعيدا عن التناقض والتنافر.
وهكذا فإن الآنية والارتجال يرتبطان بغياب القدرة على الربط بين الأحداث، بسبب غياب
الذاكرة العلمية الجماعية والمؤسسية التي يمكن ﺑﻬا الربط بين الأجزاء المتراكمة لنصل إلى
قرارات وأحكام سليمة تجعل من التدبير والسياسات المختلفة علما مقننا لا يكون للارتجال
فيه نصيب.
ويبدو أن الآنية والارتجال من العادات المستحكمة في الإنسان نتيجة تعود ه على
الاعتماد على الغير، ومن سمات صاحب هذه العادة، وفقا لماجد الكيلاني، أنه يفقد "القدرة
على المبادرة الذاتية وتصبح أفعاله مجرد استجابات تلقائية لا يوجهها تفكير ولا تحكمها إرادة
حرة عازمة والأشخاص الذين يعتادون على ردود الفعل التلقائي يعانون من العجز عن
التفكير والاختيار، ويصبحون ضحايا الظروف والممارسات الخارجية ويعجزون عن ضبط
انفعالاﺗﻬم، ويلومون الآخرين فيما يواجهون من مشكلات، ويعمون عن مسارات الأحداث
ومصادر التأثير، ويهرعون إلى الغير طالبين النجدة والمشورة، ويجعلون من أنفسهم صيدا
للطامعين وغنيمة للمستغلين ". ١٩ وقد فسر هذا بأنه نتيجة للتنشئة "الأسرية القسرية،
والتربية التلقينية الخاطئة، ونظم الإدارة السلطوية، ونظم الحكم الظالمة". ٢٠
اتباع الهوى وغياب العدل
يعد اتباع الهوى؛ لما له من نتائج سلبية في غياب العدل والأمانة، من أهم أسباب
تخلف الأمة، بل إن القرآن الكريم يصرح بأن اتباع الهوى سبب لفساد الكون، يقول تعالى:
٧١ )، ويشبه متبعي : "ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض" (المؤمنون: ٢٣
الأهواء بالأنعام من شدة جهلهم، يقول تعالى: "أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه
وكيلا، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا"
٤٥ )، ويرى جودت سعيد أن الجاهل بتاريخ تطور المعرفة "هو الذي -٤٣ : (الفرقان: ٢٥
يمكن أن يتخذ إلهه هواه". 21 وأن تاريخ المعرفة "هو الشفاء من أن يتخذ الإنسان إلهه
هواه". 22
ومن مظاهر اتباع الهوى التعصب للقبيلة وللبلد وللأقارب وللأحباب (وهنا ينبغي
أن نفرق بين الولاء في معناه الإيجابي، والتعصب بمعناه السلبي)، والتعصب هو سمة من سمات
اﻟﻤﺠتمع الجاهلي الذي شاع فيه المثل السائر: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، ونظرا إلى
خطورة هذه الظاهرة، فقد حرمها الإسلام، ورسخ في المسلمين الأوائل قيم العدل،
والرجوع إلى الحق، "حتى أصبح ذوق المسلم العربي لا يسيغ ذلك المثل العربي السائر، فلما
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة: انصر أخاك ظالما أو مظلوما" لم يملك نفسه، فقال:
"يا رسول الله إذا نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال صلى الله عليه وسلم: تمنعه من
الظلم فذاك نصرك إياه". 23
وقد آل تفشي التعصب، واتباع الأهواء في كثير من اﻟﻤﺠتمعات العربية المعاصرة إلى
انتشار أمراض اجتماعية خطيرة أشدها فتكا المحسوبية، وتقريب أهل الثقة بدل أهل الخبرة،
الأمر الذي حال دون وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، ولا يخفى ما يترتب على
ذلك من آثار سلبية على صعد مختلفة أهمها الصعيد الاقتصادي، فالمؤسسات والشركات
ودوائر الدولة والإدارات المختلفة تتحمل خسائر باهظة نتيجة اختيار المقربين على حساب
اختيار الخبرات في عمليات التوظيف وتوزيع المناصب. وفي كثير من الأحيان يغيب عن
أصحاب الأهواء أن الخسائر المترتبة على أخطائهم المذكورة لا تقتصر على ما يتحمله اﻟﻤﺠتمع
من آثار؛ بل إﻧﻬم يخسرون أيضا على المستوى الفردي، يقول عمر بن الخطاب –رضي الله
عنه- في رسالة له إلى سعد بن أبي وقاص: "ولا تخص ﺑﻬا أحدا ﺑﻬوى؛ فتضيع من رأيك
وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصتك". 24 ويقول الغزالي في إحياء علوم الدين: "كل متبع
هواه فقد اتخذ هواه معبوده"، 25 ويحتج بقوله تعالى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه"
٦٧٠ مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، ج ١٧ ، ع ٢٩ ، صفر ١٤٢٥ ه
(الجاثية: ٢٣ )، وقوله –صلى الله عليه وسلم-: "أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو
27 ويرى بعض العلماء أن من يتبع هواه في سلوكه وتصرفاته ولا يخضعها لحكم ." الهوى 26
العقل ينبغي أن يحجر عليه فيما يقوم به من عمل. 28
وقد ترسخ في العقل العربي التعصب إلى الحد الذي نرى فيه الواحد منا يحاول أن
يحابي خاصته بكل الطرق حتى إنه لو كلف بتوزيع أوراق بيضاء متماثلة تماما على عدد من
الناس لنظر فيها بدقة وقّلبها على أوجهها عله يجد في بعضها ميزات يخص ﺑﻬا بعض الناس
على الآخرين.
وقد أدرك العلامة ابن تيمية أهمية العدل 29 وقيمته في تحقيق النصر حين ذهب إلى
القول بأن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، يقول: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن
كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا
تدوم مع الظلم والإسلام" 30 ، وهو ما نراه متحققا بالفعل على أرض الواقع، واشتهر عن ابن
خلدون ربط التخلف الذي يسميه "فساد العمران" بالظلم. 31 وإنه لمن الغريب أن يشيع
الظلم بيننا وقد أمرنا الله أن ننصف أعداءنا قبل أصدقائنا يقول تعالى "ولا يجرمنكم شنآن
.(٨: قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى" (المائدة: ٥
التفكير الشاعري
يؤدي تدريس الشعر وظيفة جمالية مهمة، هدفها تنمية أذواق الناس، والارتقاء
بفلسفتهم الجمالية، غير أنه من المهم أن ننتبه إلى الأثر السلبي الذي قد يؤثر في تفكير
الطلاب عندما نبالغ في إلصاق سمة "الشعرية" باستخدامنا للغة، بحيث يصبح التنميق،
والزخرفة، والمبالغة، والعاطفة، ونحوها سمات متأصلة في اللغة، وملازمة لاستعمالاﺗﻬا.
وإذا كانت البلاغة قد سميت ﺑﻬذا الاسم؛ "لأﻧﻬا تُنهي المعنى إلى قلب السامع
فيفهمه"، 32 فذلك يعني أن الدقة، والوضوح في التعبير، ومراعاة مقتضى الحال، هي السمات
المهمة التي يتحقق ﺑﻬا نجاح التخاطب، الذي يقاس بإدراك مراد المتكلم. وأما المبالغات،
أزمة اللغة ومشكلة التخلف في بنية العقل العربي المعاصر- د. محمد محمد يونس علي ٦٧١
والعواطف الجياشة، والخيال العذب، والمحسنات البديعية، فينبغي أن تقتصر على مجالات
الأدب، وألا تمتد لتشمل الاستخدامات الوظيفية والعلمية.
فإذا نظرنا إلى واقع التدريس في مدارسنا وجامعاتنا العربية، فسنجد أن اللغة
الشعرية هي المهيمنة على مناهج اللغة العربية، ولا تستغرب إذا تصفحت كتابا في تعليم
العربية في المرحلة الثانوية، أو الجامعية، فلم تجد فيه نصا غير أدبي، كما لا يأخذك العجب إذا
تصفحت كتابا في تعليم الإنجليزية فلم تجد فيه نصا أدبيا؛ لأن ذلك يعكس عقليتين مختلفتين:
عقلية إنسان ترتبط في ذهنه اللغة بالشعر، ولا ترى في غير النصوص الأدبية ما يستحق أن
يقتدي به الطلاب، وعقلية علمية ترى أن اللغة تستعمل في المقام الأول للتوصيل، وليس
للاستمتاع والتذوق.
ولعل من الآثار السيئة التي تركها التفكير الشاعري ميل الناس إلى استخدام
عبارات مثل "القائد الأعلى"، و"أبطالنا الأشاوس"، و"الشعب البطل"، و"عملاق الثورة"،
و"المارد الجبار"، ونحوها من الألفاظ التي تتسم بالإنشائية، وعدم الدقة. 33 ويرى ماجد
الكيلاني أن التفكير الشاعري "يقتل التفكير العلمي"، ويستشهد على ذلك بغياب الترعة
العلمية في اﻟﻤﺠتمعات العربية منذ أقدم السنين، فلقد "ظل الإنسان العربي هائما مخمورا
بالصورة الشعرية وهو يذرع الأرض العربية جيئة وذهابا آلاف السنين بينما ينسج الشعر
على عينيه وعقله غشاوة منعنه من "ملاحظة" الثروات الهائلة في باطن الأرض وظاهرها". 34
وربما كان من أسوء ما تركه التفكير الشاعري في سلوك العرب فشو عبارات
المديح والإطراء والفخر والعصبية التي ورثناها عن الشعراء عبر التاريخ، 35 ورسخها فينا
تآلف التفكير الشاعري مع نزعتنا إلى التعلق بالأشخاص، وتقديسهم، كما سنوضح فيما
سيأتي.
وينبغي أن نوضح أن الشعر الذي نقصده فيما ذكرنا هو الشعر الذي يقرضه
أولئك الذين قال عنهم تعالى: "والشعراء يتّبعهم الغاوون" (الشعراء: ٢٢٤ )، وهو الشعر
الذي وصفه القرطبي في تفسيره هذه الآية بقوله: "وأما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه
وصاحبه ملوم، فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحهم على
حاتم، وأن يبهتوا البريء، ويفسّقوا التقي، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء رغبة في
تسلية النفس وتحسين القول". 36