تأليف د محمد محمد يونس علي
يمكن وصف هذه السمة بأﻧﻬا اعتقاد ناشئ عن توهم الإنسان معرفته للأمور أكثر
من غيره، وأنه غني عن الاستشارة فلا يحتاج إلى رأي آخر، ومتيقن من صحة رأيه فلا يقبل
المراجعة أو النقد، وأنه متعلق تعلقا عاطفيا برأيه لأنه من خصوصياته فهو جزء منه، ولذا فإن
أي نقد يوجه إلى رأيه يفسّر بأنه اعتداء على شخصيته. ومن مظاهر الجزمية الفكرية:
أقصد بنغمة الحسم التعبير عن وجهات النظر بأسلوب جازم لا مجال فيه للشك ولا
احتمال فيه للخطأ. ومن مظاهرها عدم التسامح، ورفض الآخر نتيجة النظرة الهلالية التي
ينحجب فيها المظهر الكامل للحقيقة، والنظر إلى الأمور على أﻧﻬا بيضاء أو سوداء حيث لا
مجال للون الرمادي، مع أن الحقيقة كثيرا ما تقع في حيز هذا اللون. ولعله من العجيب أن
يتسم أسلافنا في ﻧﻬضتهم الحضارية الكبرى بتسامحهم وتقديرهم لآراء غيرهم قرونا مضت،
ونعجز ونحن على أعتاب القرن الواحد والعشرين عن ذلك. وللتدليل على تسامح أسلافنا
ما رواه الشريف الجرجاني عن تفريق المشايخ بين اﻟﻤﺠتهدات والمعتقدات، ففي المعتقدات
يقولون: "الحق ما عليه نحن والباطل ما عليه خصومنا"، ١٧ وفي اﻟﻤﺠتهدات يقولون: "مذهبنا
صواب يحتمل الخطأ ومذهب من خالفنا خطأ يحتمل الصواب". ١٨
وشبيه بما ذكر من انعدام التسامح ورفض الآخر التعميمات الب اطلة التي لا تستند
إلى حجة، وليس لها ما يدعمها إلا تجارب محدودة العدد لا تكفي للحكم على شيء من
جنس أو نوع أو شعب أو نحو ذلك . فاليابانيون أذكياء والصينيون حكماء، و … إلخ .
ويبدو هذا المظهر واضحا في مجال اللغة العربية حيث نجد المدرس والباحث من ذوي الرأي
الواحد الذين لا يرون الحق إلا معهم، ويقللون من آراء الآخرين، ولا يتسامحون مع كل من
يخالفهم، وهو الأمر الذي أدى إلى ندرة العمل المؤسسي والجماعي الذي تعتمد عليه الدول
المتقدمة عادة، وتبنى عليه الآمال في بناء الأساس العلمي لوضع المناهج، ووضع الأسئلة
المؤسسية المقننة، ونحو ذلك.
يقول أحد المستشرقين: إن موافقتك العربي بنسبة ٩٨ % يعني أنك عدوه، وإذا
كان في هذا شيء من المبالغة، فإنه من الواضح الذي يصعب إنكاره أن النقد في مجتمعاتنا
سبب قوي للاستعداء، فهناك مسلك شائع لربط الفكرة بمن يحملها بحيث يفسر الاعتراض
عليها بأنه عداء سافر، أو هو في أحسن الأحوال تحامل على صاحبها.
ولاشك أن سمة الرفض للنقد قد تركت أثرا سلبيا بليغا في مجال البحث اللغوي،
وفي تعامل المدرس مع طلابه، والزملاء بعضهم مع بعض، الأمر الذي جعل من اﻟﻤﺠاملة المقيتة
البديل الهدام الذي أسهم إسهاما كبيرا في أزمة اللغة. كما أدى التروع إلى عدم تقبل النقد
إلى غياب المراجعة الجادة للواقع اللغوي، والرفض الصارخ للنقد الذاتي، والتروع – بدلا من
ذلك – إلى إلقاء اللوم في أزمة اللغة على عوامل خارجية كالاستعمار والماسونية، وربما الجن
والشياطين وغيرهم.
2010-01-08, 16:39
