تأليف د محمد محمد يونس علي
ويلخص كثير من الناس أسباب تخلف العرب ويختزلها في عامل واحد يشار إليه عادة
بضعف التقدم التقني، وربما كان في هذا شيء من الصحة ولكن ليس كلها، بل لعل هذا
العزوف عن التقنية إنما هو نتيجة مترتبة عما سنتحدث عنه من مظاهر. وفي هذه الدراسة
سنحاول أن نسلط الضوء على أهم مظاهر التخلف في العقل العربي لغرض تشخيصها،
ولإثارة انتباه المعنيين ﺑﻬا كي يسهموا في البحث عن حلول علمية وعملية لمعالجتها، ثم نناقش
انعكاساﺗﻬا على وضع العربية تدريسا وبحثا وتخطيطا. ونظرا إلى أن الدراسة تقتصر على
تناول الجوانب السلبية للعقلية العربية المعاصرة دون جوانبها الإيجابية؛ فينبغي ألا يفهم منه
أنه ضرب من جلد الذات أو أنه تشهير أو تحامل على الإنسان العربي المعاصر، ولاسيما أن
غرضنا من هذا النقد بناء الشخصية العربية على نحو يجيد التعامل مع تحديات القرن الواحد
والعشرين.
وقبل أن أبدأ أود أن أوضح أن مقصودي بالعقل هنا هو كل الأفكار والمفاهيم
والمعلومات والمعارف والعادات الفكرية التي توجه السلوك الفردي والاجتماعي وتقومه، ١٦
ويشمل السلوك هنا كل الأقوال والأفعال والتصرفات الصادرة عن الإنسان. أما الحديث
عن بنية العقل فذلك راجع (إذا ما أردنا تبسيط الأمر) إلى الاعتقاد بأن هذه المعارف التي
تكون العقل العربي الجماعي يتأثر بعضها ببعض بحكم كوﻧﻬا نتاجا ﻟﻤﺠموع إفرازات أفراد
اﻟﻤﺠتمع، وذلك شبيه بما يحدث في البنية الواحدة حين يؤثر جزء منها في سائر الأجزاء،
وتقاس قيمتها بالعلاقة بين أجزائها التي يحكمها نظام مطرد، وقوانين معينة.
ولابد من التنبيه في بداية الموضوع على أن ما أسميه بمظاهر الت خلف الشائعة في بنية
العقل العربي إنما هي سمات غالبة قد تكون ظاهرة جزئيا أو كليا في الأفراد، ولكنها غالبة
أزمة اللغة ومشكلة التخلف في بنية العقل العربي المعاصر- د. محمد محمد يونس علي ٦٦٥
ومطردة في اﻟﻤﺠتمعات العربية على وجه الإجمال . وهي ليست مظاهر أو أنواعا من السلوك،
بل هي أعم من ذلك وأكثر تجريدا بحيث يمكن عدها أسبابا محركة، ومفسرة لكث ير من
المظاهر أو الأعراض السلوكية الخارجية السائدة في اﻟﻤﺠتمعات العربية، وهو ما يسوّغ حديثي
عن مظاهر التخلف في بنية العقل العربي بدلا من الحديث عن مظاهر التخلف في سلوك
العرب.
ويمكن تصنيف هذه المظاهر إلى خمسة أصناف رئيسة هي:
١- الجزمية الفكرية، ويتفرع عنها نغمة الحسم في تقويم الأمور، وعدم تقبل النقد.
٢- عاطفية التفكير، ويتفرع عنها الآنية والارتجال، واتباع الهوى وغياب العدل،
والتفكير الشاعري.
٣- التفكير المتمحور حول الذات (أو تضخم الأنا )، ويتفرع عنها الانتهازية
والاستغلال، والاستبداد.
٤- التواكل الفكري، ويتفرع عنه : الاستسلام للتفكير التآمري، وإيقاع اللوم على
الآخرين، والاستسلام للواقع وعدم التضحية، وعدم المبالاة بأهمية الأمور،
والترعة التقليدية وغياب التفكير الإبداعي (الإمعية)، والتفكير الهامشي.
٥- سطحية التفكير، ويتفرع عنها قصر النظر، وغياب العمق، وصفرية الانطلاقة،
وإهمال الكيف والاهتمام بالكم، والتفكير التشخيصي، والتفكير الحشوي.
وسأتحدث فيما يلي عن هذه المظاهر المذكورة سابقا بشيء من التفصيل الذي
يسمح به المقام.