[center]الأثر الأجنبي في تراثنا البياني
تراث الجاحظ أنموذجا
هذا موضوع عني به الباحثون العرب وغيرهم عناية كبيرة ، فقضية تأثر الثقافة العربية بثقافات الأمم الأخرى ـ في الجانب البلاغي والنقدي على وجه الخصوص ـ شكلت (( مبحثا قارا لا يكاد يخلو منه مؤلف متعلق بقضايا الأدب عامة وقضايا البلاغة بصفة خاصة ))( ) ، ويكتسب طرح هذه القضية قدرا كبيرا من القبول عندما يتحدث الباحثون فيها عن الحقبة التي عاشها الجاحظ ( )، لأنها شهدت حصول امتزاج كبير بين العرب وغيرهم من الأمم التي صارت جزءاً من الدولة الإسلامية ، فضلا عن كونه عاش مرحلة شهدت حصول اكبر حركة للترجمة عرفها العرب في تأريخهم ، بل إنها (( تؤلف مرحلة حاسمة في تأريخ البشرية .. وهي حرية بأن يُعترف بها وان تحتل مكانتها في ضميرنا ألتأريخي))( ) .
ولما كان الجاحظ واحدا من أهم أعلام الكتاب في هذه المرحلة ، فقد حظيت مؤلفاته بقدر كبير من الدراسة والتحليل بحثا عن الآثار التي تحملها والتي تؤشر حالة التأثر بالثقافات الوافدة .
إن الأسباب التي أدت إلى إثارة قضية الأثر الأجنبي في الثقافة العربية ولاسيما ثقافة الجاحظ قد توزعت على محورين : الأول تأريخي حضاري عام ، والثاني نصي يتعلق بما جاء في كتب الجاحظ من إشارات توحي بتأثره بالثقافات الأجنبية التي سادت في عصره، فتراث الجاحظ يغري الدارسين كثيرا على أن يبحثوا فيه عن الأثر الأجنبي فقد أورد في كتبه الكثير من الآراء والتعريفات التي ينسبها إلى غير العرب، فضلا عن العديد من المفردات والعبارات الأجنبية التي ذكرها وترجمها ( ) ، ثم انه تعرض لقضية الترجمة على نحو يوحي بعمق اطلاعه على الكتب المترجمة، إذ يقول : (( وقد نُقِلَتْ كتبُ الهند، وتُرجمتْ حكم اليونانيّة، وحُوِّلت آدابُ الفرس، فبعضها ازدادَ حُسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً))( )، وهذا الحكم يدل على أن الجاحظ قد قرأ تلك الكتب المترجمة قراءة دقيقة واصدر حكمه فيها، فضلا عن أن قوله: (فبعضها ازدادَ حُسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً) ربما يشير إلى انه يعرف تلك الكتب في أصولها ، أو انه استقى هذا الحكم ممن يتقن قراءتها في لغاتها الأصيلة. ( ) .
وفيما يتعلق بالمحور الأول فإن التوسع الذي حصل في رقعة الدولة الإسلامية أدخل فيها أمما من الشرق والغرب وقد حمل أبناء كل امة معهم زادا من الثقافة والعلوم والأدب والفنون ،وكان لكل ما حملوه حظ من التفاعل مع الثقافة العربية المحلية ( )،إن الوسيلتين اللتين انتقلت من خلالهما الثقافات الأجنبية هما المشافهة والكتب المترجمة ( )، وأهم الطرق التي نفذت من خلالها الثقافة اليونانية إلى العربية هي الأديرة والمدارس التي كانت مبثوثة في مختلف أمصار الدولة الإسلامية مثل جنديسابور والرها ونصيبين وحران وانطاكية والاسكندرية ، وابرز المسهمين في انتقال الثقافات الأجنبية ـ لاسيما الثقافة اليونانية ـ هم السريان الذين كان لهم دور كبير في ترجمة كتب اليونان وكتب أرسطو على وجه الخصوص( ).
وقد أسهم التسامح الذي عرف به الإسلام وقدرته على الانفتاح على الآخر في تعزيز دور تلك الثقافات في المجتمع الإسلامي( ) ، ذلك التسامح الذي يجعل الجاحظ لا يتحرج عن ذكر مناظرة جرت في مجلس الحكم بين المأمون وأحد الزنادقة ( )، ويعد هذا الأمر مؤشرا من جملة مؤشرات دالة على مدى الحرية الفكرية التي شهدها هذا العصر ( ).وسمح هذا المناخ العلمي والثقافي والسياسي الملائم بارتفاع شأن العديد المثقفين من غير العرب من الفرس والهنود واليونان ، من أمثال حنين وأبيه اسحق ، ويوحنا بن ماسويه( 243 هـ)( )، وابن المقفع وغيرهم ممن كان لهم دور كبير في نقل تراث لغاتهم إلى العربية.
وقد كان العراق البيئة المثالية التي شهدت امتزاج تلك الثقافات مع بعضها ومع العربية لتتشكل الثقافة الإسلامية مثل نهر كبير يجمع العديد من الجداول( ) ، ففيه قامت اكبر حركة للترجمة عرفها تأريخ العربية ترجمت فيها شتى الكتب من كل الاختصاصات ومن كل اللغات إلى العربية ، وقد أسهمت عوامل متعددة في اتساع حركة الترجمة تلك ، ومنها :
أ. إن احتكاك العرب بغيرهم من الأمم كشف عن وجود محاسن كثيرة في ثقافات تلك الأمم ، مما حرص العرب على نقله إلى لغتهم .
ب. ظهور الحاجة إلى علوم لم يكن العرب يعرفونها مثل الحساب والفلك والطب وغيرها.
ج. الجدل والمناظرات التي دارت بين الفرق الإسلامية والتي شجعت العرب على نقل علوم تكون عونا لهم في الدفاع عن مذاهبهم التي يعتنقونها ، وعلى الأخص بعد أن رأوا أن معتنقي الأديان الأخرى يستعينون بسلاح الفلسفة والمنطق في جدالهم ( ).
وأهم الثقافات التي تبادلت التأثير مع العربية هي الهندية والفارسية واليونانية ، مرتبة على وفق الأضعف تأثيرا ، وسنبين الآن آراء النقاد العرب المحدثين في كل من تلك الثقافات وطبيعة أثرها في الجاحظ وتراثه.
1.الثقافة الهندية .
من أولى الإشارات إلى أثر الثقافة الهندية ما وجدناه عند احمد أمين الذي ذكر ان لكل ثقافة وافدة منطقة نفوذ وتأثير في التراث العربي ، وان الهندية اقرب إلى التأثير في الأدب منها في العلوم( ) ، فيما يراها شوقي ضيف تشكل منفذا من المنافذ التي دخلت من خلالها الأفكار اليونانية إلى العربية ، وذلك من خلال وجود أفكار ذات جذور يونانية في الصحيفة الهندية وفي تراث ابن المقفع مثل ضرورة مراعاة المقام ومطابقة الكلام لمقتضى الحال( ) .
ويرى بعض الدارسين ان القصص الهندي وأسلوبه الرمزي في معالجة المشكلات الاجتماعية كان له أثر في (بخلاء) الجاحظ ، كما أثرت الصحيفة الهندية في إدخال فكرة (مراعاة مقتضى الحال) إلى تراث الجاحظ ( )، ولأحمد مطلوب رأي يقلل فيه من حقيقة تأثير الثقافة الهندية في فكر الجاحظ ، إذ يرى ان الصحيفة الهندية وتعريف البلاغة اللذين نقلهما الجاحظ عن الهنود كان محتواهما عاديا وهو مما يتناقله البلاغيون إلا أن الجاحظ قصد من إيراد تلك المعاني على لسان الهند ان يشير إلى سعة اطلاعه وعمق معرفته بتراث سائر الأمم( ) .
2.الثقافة الفارسية
وقد درس أثرها في الجاحظ العديد من النقاد العرب( ) ، إذ عدها طه حسين عنصرا من ثلاثة كانت تؤلف البيان العربي ، وكانت تتميز بالبراعة والظرف في القول والهيئة( ) ، والسبب في انتشارها على نحو كبير في المجتمع هو النفوذ السياسي الكبير الذي تمتع به الفرس في العصر العباسي ، وقد اتصل الجاحظ بالثقافة الفارسية عن طريقين : الأول هو (المشافهة) ، فقد عاش في المجتمع البصري كثير من الفرس ، وشاعت فيه كثير الألفاظ الفارسية( ) ، والثاني هو (الترجمة) إذ ترجمت كتب الفرس إلى العربية على يد ابن المقفع وآل نوبخت وغيرهم ( ) .
ويبقى السؤال المهم : هل أثرت الفارسية في الجاحظ ؟ ، وقد وجدنا في المصادر التي درسناها إجابتين مختلفتين تماما ، إذ يرى بعض النقاد العرب ان موقف الجاحظ المناهض للشعوبية دفعه والمعتزلة الذين ينتمي إليهم إلى أن ((لا يلقوا بأنفسهم وعقولهم في أحضان بلاغات أجنبية وان يحتاطوا اشد الاحتياط فيما يأخذونه من هذه البلاغات وان لا يأخذوا منها شيئا إلا بعد درسه وفحصه وتبين ملاءمته للبلاغة العربية )) ( )، وفي أسلوب الجاحظ في تأليف كتابه البيان والتبيين ما يؤكد هذا الأمر إذ يلاحظ انه ((يعرض أطرافا قليلة من آراء الأجانب ، يلقي بها في سـيول من آراء العرب البلاغية وملاحظاتهم البيانية)) ( )، في حين عد إبراهيم سلامة الجاحظ رأس مدرسة نقدية ((عربية فارسية لها الفضل في تدوين البلاغة كما كان لبعض أفرادها سيئة البعد بها عن الروح العربي)) ( ) ، وهو يجمع تحت مظلة هذه المدرسة المفترضة أعلام النقد العربي . ونحن نعد هذا الرأي غير علمي ولا يستند إلى أية معطيات يمكن أن تجعله مقبولا ، لاسيما ان صاحبه لم يبين للقارئ طبيعة هذه المدرسة أو خصائصها التي تمتاز بها ، ويؤكد آخرون عمق الأثر الذي تركته الثقافة الفارسية في تراث الجاحظ وهو يعتمد في رأيه هذا على نص في البيان والتبيين ينسبه إلى الجاحظ إذ يقول
(يقول الجاحظ: من أحب أن يبلغ في صناعة البلاغة فليقرأ كتاب (كاروند) ومن احتاج إلى العقل فلينظر في سير الملوك))( ) ، والنص في الأصل مختلف في صيغته عما أورده خفاجي إذ يقول الجاحظ
( قالوا: ومَن أحبَّ أن يبلُغ في صناعة البلاغة، ويعرفَ الغريب، ويتبحَّرَ في اللغة، فليقرأ كتاب كارْوَنْد، ومَن احتاج إلى العقل والأدب، والعلم بالمراتب والعِبَر والمَثُلات، والألفاظ الكريمة، والمعاني الشريفة، فلينظُرْ في سِيَر الملوك)) والنص ليس للجاحظ بل انه يأتي به على لسان الشعوبية الذين يحتجون لمذهبهم على نهج العرب في الخطابة( ) ، وهو يفعل الشيء نفسه مع نص آخر ينسبه إلى الجاحظ مع انه للشعوبية يرويه الجاحظ على ألسنتهم وهو قولهم أن الفرس هم اخطب الناس ( ). وقد عدت الثقافة الفارسية منفذا من المنافذ التي انتقلت من خلالها الثقافتان الهندية و اليونانية إلى العربية وذلك من خلال ترجمة تراث هاتين اللغتين من الفارسية إلى العربية( ) .
3.الثقافة اليونانية
من استقراء الدراسات التي عنيت بقضية المثاقفة في عصر الجاحظ يلاحظ ان الثقافة اليونانية كان لها الحظ الأوفر من اهتمام النقاد العرب المحدثين( )، وقد بدا هذا التوجه واضحا منذ الدراسات الأولى التي شغلها هذا الموضوع ، واستمر ليصل إلى حد تأليف كتب خاصة تبحث هذا الموضوع ( )، فضلا عن فصول متفرقة في داخل اغلب كتب تأريخ النقد و البلاغة العربيين ، ولعل هذا يرجع إلى كون الحضارة اليونانية تشترك مع الحضارتين : العربية ، والأوربية الحديثة في ممارسة التفكير النظري العقلاني المنتج للمعرفة العلمية الفلسفية بعيدا عن الخرافة والأسطورة( ).
وأهم النقاط التي أثارها النقاد العرب وناقشوها فيما يتعلق بالثقافة اليونانية :
1. تأريخ ترجمة كتابي (الخطابة) و (الشعر) لأرسطو ، اللذين يعدان الأكثر قربا من ميدان الأبحاث البيانية في اللغة والأدب و البلاغة والنقد ، والرأي الأول يقول بأنهما لم يكونا مترجمين في عهد الجاحظ ، وأول القائلين بهذا الرأي طه حسين الذي يعتقد ان كتاب (الخطابة) ترجم إلى العربية في النصف الثاني من القرن الثالث للهجرة على يد حنين بن اسحق الذي يقول انه توفي سنة (298هـ) ( ) ، وهذه هي سنة وفاة ابنه اسحق الذي ترجم الكتاب بالفعل ، كما استنتج من نفي الجاحظ وجود الخطابة عند اليونان ان الأخير لم يعرف خطابة أرسطو وسائر كتب اليونان ، بل ربما وصلته شذرات منها لم تكن معينة على تكوين صورة واضحة عن أدبهم ( ). وهذا ما يراه كذلك شوقي ضيف الذي نفى ان يكون أي من الكتابين قد ترجم في حياة الجاحظ أو قبلها ، وهو يعتمد على دليل نصي هو عدم نقل الجاحظ عن أي منهما ولو فعل لأشار إليهما كما فعل مع كتاب الحيوان لأرسطو( ). وهذا هو رأي احمد مطلوب كذلك في هذه النقطة ( )، كما يرى الرأي نفسه شكري محمد عياد إذ يقول انه لا يجد إشارة أو دليلا يمكن أن يربط بين كتب الجاحظ وكتاب الشعر لأرسطو ، إلا أنه يلمح إلى أن محاولات الجاحظ في مجال أنواع الدلالة قد تكون مأخوذة عن (منطق) أرسطو ( ).
أما إبراهيم سلامة فنلمح في موقفه شيئا من التردد بل التناقض ولعل ذلك ليتفادى الخلط الذي اشرنا إليه عند أستاذه طه حسين ، فهو يقول ان الجاحظ قد عرف (الخطابة) إذا كان المترجم هو حنين (260هـ) ، وانه لم يطلع عليه إذا كان المترجم هو اسحق بن حنين (298هـ) ، وبما ان ابن النديم ينص على ان الناقل هو اسحق فإن سلامة يرى ان الجاحظ لابد ان يكون قد عرف الكتاب من أفواه الناس مشافهة ليتخلص من هذا التناقض ( )، وينفي داود سلوم ان يكون كتاب(الشعر) قد ترجم في عصر الجاحظ ، ويرى انه ربما يكون قد سمع شيئا مما فيه من أفواه الذين درسوه باليونانية أو بالسريانية ( ).، ويتبنى مثل هذا الموقف نقاد آخرون يرون أن الجاحظ قد اطلع على تراث اليونان في (الخطابة) عن طريق المتكلمين الذين ينتمي إليهم وليس عن طريق الترجمة ( ).
تلك كانت الآراء التي نفت أن يكون الكتابان قد ترجما في عصر الجاحظ وان يكون قد اطلع عليهما ، أما النقاد الذين كان لهم رأي يخالف هذا الرأي فمن أولهم محمد غنيمي هلال الذي يرى أن إشارة ابن النديم إلى اختصار الكندي (ت 252هـ) لكتاب (الشعر) تدل على ان الأصل غير المترجم كان معروفا في وقت سابق لاختصار الكندي له وهذا يحتم ان يكون الجاحظ قد اطلع على ذلك الأصل وهو المعروف بشدة نهمه للقراءة ( ) . وهذا هو رأي مجيد عبد الحميد ناجي الذي يضيف إلى الرأي السابق ان الجاحظ لابد ان يكون قد اطلع على كتاب (الخطابة) وهو يعتمد في رأيه هذا على كلام ابن النديم عن وجود نقل قديم سبق ترجمة اسحق (ت 298هـ)، وعلى بحث لـ (أوجست ميلر) بعنوان (الفلاسفة اليونان في النقول العربية) الذي يرى ان مترجم (الخطابة) هو حنين الأب (260هـ) وليس اسحق الابن( ) .
ونحن في هذه القضية مع الرأي القائل بعدم اطلاع الجاحظ على نحو مباشر على كتابي أرسطو (الخطابة) و (الشعر) المترجمين إلى العربية ، لأنه لو فعل ذلك لاستفاد منهما أو من احدهما على نحو يشبه ما فعل مع كتاب الحيوان لأرسطو ، ولأشار إلى نقله عنهما ، إلا أنه من المرجح ـ اعتمادا على إشارات ابن النديم السابقة ـ ان تكون قد وصلت إلى الجاحظ معلومات عن محتوى الكتابين وذلك عن طريق الاحتكاك بالمطلعين على الثقافة اليونانية بلغتها الأصيلة أو بالعربية، وما يعزز ميلنا إلى هذا الرأي أننا وجدنا المقارنات التي عقدها النقاد بين نصوص للجاحظ وأخرى لأرسطو لم تكن موفقة في اغلب الأحيان ، وهي لا توحي باطلاع الجاحظ على نصوص أرسطو.
2. وتدور النقطة الثانية على طبيعة الأثر الذي أحدثه التراث اليوناني عموما، وتراث أرسطو خصوصا في تراث الجاحظ ، وهناك آراء اتسمت بالتطرف في تقدير مدى التأثير أو عدمه ، فهناك من عد أرسطو المعلم الأول للمسلمين في مجالي الفلسفة والبلاغة( ) ، وهذه مبالغة كبيرة فيها انتقاص من أصالة التراث البياني العربي ، وفي المقابل نرى ان هناك من ناقش هذه النقطة ورفض ان يكون للفكر الأجنبي أي نوع من التأثير على الجاحظ أو على البلاغة العربية من دون ان يستند هذا الموقف إلى أدلة علمية ثابتة( ) ، فضلا عن وجود آراء تؤكد تأثر الجاحظ بالثقافة اليونانية إلا أنها تحمل افتراضات غير علمية تنبني عليها أحكام لا تصمد أمام أي نقاش علمي ، ومن تلك الآراء ان الجاحظ قد اطلع على منطق أرسطو وعرف من خلاله السفسطائيين ، وانه حين وصف العرب بالقدرة على الارتجال كان مدفوعا بالخوف من ان يغلب ارتجال السفسطائيين على ارتجال العرب ، فدافع عنهم وضغط على غيرهم من غير العرب( ) ، ولبدوي طبانه رأي مشابه للرأي السابق يقول فيه ان اهتمام الجاحظ بالخطابة سببه انه ((أراد ان يكون للعرب خطابة كخطابة اليونان وان يكون هو الكاتب في خطابة العرب كما كان أرسطو الكاتب في خطابة اليونان )) ( ) ، وهناك من افترض ان الجاحظ قد سبق إلى الحديث في قضية اللفظ والمعنى بأثر مما كتبه اليونان في هذه القضية، مستدلا على ذلك بأن هذه القضية لم يكن لها ظل ((في المباحث التي كتبت حول إعجاز القرآن الكريم قبل الجاحظ أو في عصره أي في الفترة التي سبقت نضج أفكار اليونان ، لاسيما مباحث أرسطو في الخطابة والشعر نضجا تاما ))( ) ، وواضح هنا ان هذا الرأي مبني على افتراض لا تعززه أية أدلة نصية ، ومثله افتراض للباحث نفسه بناه على قول الجاحظ على لسان بشر بن المعتمر
( وإنّما مَدارُ الشّرَف على الصواب وإحراز المنفعة، مع موافَقَة الحال، وما يجب لكلّ مَقامٍ من المقال))( ) ، إذ يرى ان بشرا هنا قد جعل الغاية التي يجري اليها الكلام هي (إحراز المنفعة) وهذا يدل على ان هناك تأثرا بمبدأ اللذة والمنفعة اليوناني ( ) .
والملاحظ على آراء النقاد العرب فيما يتعلق بالأثر الأجنبي في الثقافة العربية أنها تنقسم على قسمين : الأول يبحث عن ذلك الأثر في القضايا الجزئية مقارنا بين نصوص للجاحظ وأخرى لغير العرب ولأرسطو على نحو خاص ، والثاني يرى ان التأثير كان فكريا عاما يمس القضايا العامة مثل المناهج وطرائق التفكير ، ولا يصل إلى حد المساس بالقضايا الجزئية التفصيلية .
ومن الآراء التي تنتمي إلى القسم الأول رأي إبراهيم سلامة الذي قارن بين نصوص للجاحظ وأخرى لأرسطو وللسفسطائيين في قضايا مثل الارتجال ، وتأريخ الشعر والنثر ،ولا نرى ان تلك المقارنات كانت موفقة لأنها حملت قدرا كبيرا من الافتراضات غير المعززة بأدلة علمية( )، وكذلك مقارنة بدوي طبانه بين تعليم الخطابة عند العرب وعند السفسطائيين ( )، ورأي داؤود سلوم الذي يقول فيه ان قول الجاحظ عن الشعر ((ونفعه مقصور على أهله)) ( ) يعني ان الشعر يقدم اللذة وليس العلم لذلك ففائدته مقصورة على المعنيين به فقط ، ويرى ان الشبه بين هذا الكلام وكلام أرسطو عن أنواع اللذة التي يقدمها الشعر وكيف تختلف اللذة في (المأساة) عنها في (الملهاة) ( )، والحقيقة ان الربط بين هذين النصين أمر غريب جدا ، ففي الوقت الذي يتحدث فيه أرسطو عن اختلاف نوع اللذة من غرض شعري إلى آخر ، فان الجاحظ يتحدث عن كون الشعر غير قابل للترجمة على العكس من سائر العلوم والمنافع التي عدها (مبسوطة) لانها يمكن ان تترجم من لغة إلى أخرى مع بقاء فائدتها وقيمتها كما هي ، وقد قارن محمد غنيمي هلال بين تراث الجاحظ وتراث أرسطو في قضايا مثل (القِران) و (المحاكاة) و (علاقة الشعر بغيره من الفنون) ليثبت ان الجاحظ قد تأثر بأرسطو في تلك القضايا( )، وكذلك يرى محمد العمري ان الجاحظ قد أخذ من اطلاعه على تراث أرسطو فكرتي انقسام الخطاب الإنساني إلى جد وهزل ، ومراعاة المقام ( )، وهما فكرتان بديهيتان لا نعتقد ان مفكرا مثل الجاحظ يحتاج إلى ان يستقيهما عن الغير.
والقراءة المتأنية لتلك المقارنات تجعلنا نحكم بأن اغلبهاـ ان لم نقل كلها ـ لم تكن موفقة ، فقراءة النصوص الجاحظية سياقاتها توصل القارئ إلى ان ما تحمله من أفكار بعيد عن ان يكون متأثرا بالنصوص الأرسطية التي ذكرها النقاد في دراساتهم.
وهناك آراء أخرى وقفت مع الجاحظ ودافعت عن أصالة آرائه البلاغية والنقدية ومنها رأي محمد عبد المنعم خفاجي الذي يرى ان التقاء الجاحظ بأرسطو في عدد من أصول البلاغة ، مثل الدعوة إلى ترك الوحشي والسوقي من الكلام ، وتحري حسن الدلالة ووضوح الدلالة ووضوح العبارة ..الخ ، لا يعد دليلا على التأثر لان تلك القضايا والأصول تمثل أفكارا عامة يعرفها سائر البشر وتشترك في معرفتها الأمم ( )، وقد فصل وليد قصاب الحديث في هذا الاتجاه الذي يعدد الأصول التي يرى النقاد ان الجاحظ ربما يكون قد أخذ ها من أرسطو ، مثل مبدأ المنفعة، ومراعاة مقتضى الحال ، والارتجال ، وأقسام البيان ، ...الخ ، ثم يقول ان تلك الأصول ليست من الخطر والأهمية حتى تستحق كل الضجة التي أثيرت حولها ، ثم يرى انه من الأجدى أن يُبحث عن أثر الثقافات الأجنبية في توجيه العقل العربي وتنظيمه ، وجعله مهيأً لخوض مسائل النقد و البلاغة على النحو الذي جعله ينتج تراثاً نقدياً وبلاغياً متميزاً ( ).
وهذه النقطة الأخيرة التي أثارها وليد قصاب توصلنا إلى القسم الثاني من الآراء التي قلنا أنها تتجاوز القضايا الجزئية لتبحث في القضايا الفكرية العامة ، ومن أسبق تلك الآراء رأي شوقي ضيف الذي يرى ان الثقافات الأجنبية وسعت طاقة اللغة بما أكسبتها إياه من معان فلسفية عقلية ، فضلا عن أنها عرفت العرب على طرائق النظر وأساليب التفكير الأجنبية ( )، كما ان الفلسفة والمنطق غيرا مناهج البحث والتفكير عند العرب فظهرت في مؤلفاتهم آثار الجدل ، والمناقشة ، والتفريع ، والتنويع، والتحليل ، والتعليل ، والاستنباط ، فضلا عن تقديمهما السلاح الذي استخدمه المتكلمون في الدفاع عن قضايا دينهم ( )،ومن ثم فان اطلاع متكلمي العرب على الثقافات الأجنبية لم يترك أثرا في صلب مادتهم البلاغية ، وان كان قد أثر ((في منهج بحثهم واسلوبهم في درس بعض المسائل وعلاجها))( ) ثم ان الكتب المترجمة أثرت في العرب في اتجاهين : الأول أنها قدمت لهم نماذج من الكتب تحمل نسقا تأليفيا منظما احتذاه المؤلفون العرب ، والثاني أنها فتحت لهم آفاقا واسعة للموضوعات التي يمكن بحثها ومناقشتها( ) ، وهذا هو رأي حمادي صمود كذلك إذ عد اطلاع الجاحظ على التراث الأجنبي بمثابة القادح الذي مكنه من صياغة نظرية توج بها مجهوده العلمي، وهو يرى ان النظر إلى التراث المترجم وأثره في التراث العربي من هذه الزاوية أجدى كثيرا للبحث العلمي من محاولة تتبع القضايا الجزئية والمقارنة بينها حيث يستوي الشك باليقين( ).
ومن أكثر الآراء وضوحا في نفي وجود الأثر اليوناني رأي محمد عابد الجابري الذي ينفي ان يكون المنطق اليوناني قد أثر في الأبحاث البيانية إذ يرى ((ان الواقع التأريخي يؤكد ان المنطق اليوناني لم يبدأ توظيفه في الدائرة البيانية من اجل تأسيس قضاياها وأطروحاتها إلا مع الغزالي وبعده ، أي ابتداءً من العقد الأخير من القرن الخامس الهجري)) ( ) ، مضيفا ان ((المعتزلة وكذا الأشاعرة قبل الغزالي كانوا ينظرون لـ(البيان العربي) منهجا ورؤية كعالم معرفي مستقل،ومن ثم فالتطورات التي عرفها إنما كانت نتيجة نموه الذاتي)) ( )، وهناك رأي قريب من هذا يطرحه علي اومليل الذي يرى ان الجاحظ كان رافضا للثقافة الأجنبية أيديولوجيا لأنه أدرك ان العناصر غير العربية قد اختارت الميدان الثقافي لتواجه فيه العنصر العربي (السائد سياسيا) ، اذ ان المجتمع العباسي كان يشهد صراعا على السيادة بين العنصر العربي والعناصر غير العربية ، ومن ثم فان الجاحظ كان يمثل الاتجاه الثقافي الذي يقف في مواجهة تيار قوي من الأثر الأجنبي أخذ يتغلغل داخل الثقافة العربية ويدخل في تشكيلها ، والعوامل التي غذت هذا التيار تمثلت في حركة الترجمة التي ترعاها الدولة للآثار العلمية والفلسفية اليونانية ، فضلا عن حركة ترجمة للآثار السياسية للفرس يروج لها الكتّاب لتكييف جهاز الإدارة والحكم في الإسلام( ) .
ولمحيي الدين صبحي رأي قريب من رأي علي اومليل ، إذ يشيد بمنهجية الجاحظ في البيان والتبيين ، ويبين ان اكبر نجاحات الجاحظ يتمثل في كونه عاش في عصر اقتحمت فيه الثقافات الأجنبية المجتمع العربي وطرحت فيه الأسئلة على تراث العرب ، فكانت مؤلفات الجاحظ مظهرة لما عند العرب من علم مضمن في اشعارهم ، ومبينة لفصاحتهم ورجاحة عقولهم ، في مقابل ما حمله تراث الفرس واليونان والرومان والهنود من سياسة وعلوم وصناعات وحكمة ، وليس للبيان من هذه الزاوية نظير فيما انجز للعربية( ).
وعلى الرغم من كل ما تقدم من حديث عن الأثر الأجنبي في الثقافة العربية فإن الباحثين يقرون بصعوبة الفصل بين المكونات الثقافية لحضارة ما ، فاحمد أمين يقول عن الجاحظ : انه كان يلتقي في يومه بالبدوي فيأخذ عنه ، وبحنين بن اسحق وسلمويه ، وبالنصراني واليهودي ، وتدور في المجتمع نقاشات في العقائد واللغة والأدب ، مما ولد حركة فكرية امتزجت فيها الثقافات امتزاج السكر بالماء ( ) ، أي انه ((من الصعب ان نميز عنصرا ثقافيا عن غيره ، وان نحدد بصفة أكيدة قاطعة كل أثر من آثاره في بناء الفكر الإسلامي الجديد ..)) ( ).
الخلاصة
• شغلت قضية الأثر الأجنبي حيزا واسعا من اهتمام النقاد العرب المحدثين وكانت حصة التراث اليوناني من اهتمام النقاد العرب أكبر مما حظي به تراث الأمم الأخرى .
• ان الآراء التي اعتمدت المعطيات التأريخية لإثبات وجود الأثر الأجنبي في البيان العربي أو نفيه كانت أكثر دقة، من الآراء التي اعتمدت المعطيات النصية ، إذ يلاحظ على النوع الثاني من الآراء وجود قدر كبير من عدم الدقة في توظيف النصوص إما من خلال انتزاع النصوص من سياقاتها وتفسيرها بمعزل عنها ، أو من خلال عقد المقارنات بين نصوص لا يجمعها ـ بعد القراءة الدقيقة ـ جامع يذكر.
• وعلى صعيد المعالجة التفصيلية لهذه القضية فهناك اتجاهان: الأول يبحث عن الأثر الأجنبي في القضايا الجزئية التفصيلية ولم يكن هذا الاتجاه مثمرا كما أسفر عن نتائج غير منصفة للجاحظ ، وعني الاتجاه الآخر بالقضايا الفكرية العامة وحقق قدرا من الدقة في رسم طبيعة توظيف الثقافة الأجنبية في تراث الجاحظ ، وإن النتائج الأقرب للقبول والأكثر شمولا لما يمكن ان تكون الثقافات الأجنبية قد أحدثته في فكر الجاحظ وفي الحضارة العربية على نحو أعم هي التي نتجت عن النوع الثاني من الأبحاث.
• جنح عدد من النقاد إلى التطرف في إثبات التأثر أو نفيه على نحو لا يخدم البحث العلمي ، إلا أن الأبحاث التي أثمرت وأعطت نتائج مقبولة هي تلك التي كانت تميل إلى الاعتدال والموضوعية ، إذ لا سبيل إلى إنكار الأثر الذي أحدثته الثقافات الأجنبية في التراث العربي وفي الجاحظ على نحو خاص إلا أن هذه الحقيقة تقابلها حقيقة أخرى هي أن نتاج الجاحظ البياني كان وليد حركة التطور الطبيعية التي شهدها الفكر الإسلامي العربي .