شجرة الأدب
خوان غويتيسولو(*)
ترجمة: إبراهيم أولحيان
إن شجرة ضخمة جدا، كثيفة، ومتشعبة، مثل شجرة الحروف الإسبانية تقدم وليمة حقيقية للمبدع الملتزم كليا بعمله الأدبي المتوحد: إن تعدد جذوره اليونانية-اللاتينية، والعبرية، وتشابكها الخصيب، وتبادلاتها، وتحولاتها، وكثافتها، وخباياها تقدم له إمكانية ناذرة لتوسيع إبداعه الخاص، ولبسط قواعد لعبه باستمرار في مجالات جديدة وخصيبة.
لن أستطيع مرة أخرى تجنب ضرورة الحديث عن عملي الخاص ككاتب، رغم اقتناعي العميق، المعبر عنه مرات عديدة، أنه إذا كان الجهد المبذول لإنجاز عمل أدبي ما، يعود إلى الكاتب، فإن حصيلته تنتمي إلى جميع الناس إلا إليه. لهذا أقترح هنا التفكير لا في عملي كروائي (آخرون مؤهلون أكثر مني قاموا بذلك) وإنما في الاقتضاء الأخلاقي الذي يبنينها، يعني التفكير في هذا القانون الخاص بالشرف الشخصي لكل كاتب يحترم نفسه، ويعزم على وضع حياته كلها في خدمة ما ارتأى أنه الأهم فيها: أي جهده الإبداعي. من الطبيعي أن يختلف هذا القانون الشخصي من كاتب لآخر. ويشتمل أو لا يشتمل على قيم إنسانية، من لطافة، وشرف، وكرم، وعلى معايير الأخلاق الاجتماعية أو المواطنة. وكما توضح ذلك التجربة فإن كل كاتب صارم إزاء نفسه، لا يمتلك أيا مما سبق ذكره، يمكن اعتباره وصوليا، بلا إحساس، نفعيا، وبذيئا، ومع ذلك، فإنه يحتفظ، رغم احتمالات مغامرته، على الضرورة الفنية المتطلبة: أي خيبة هذه باعتباره فردا بالنسبة لأخلاق اجتماعية مشبعة بقيم تقدمية، لكنه يفوز بها في جهده الإبداعي. إن التاريخ الحديث، يقدم لنا بعض الأمثلة عن هؤلاء الكتاب الملومين انطلاقا من معايير مسندة من لدن الرأي الجماهيري والتطور التاريخي، لكن رغم ذلك فإنهم يستحقون إعجابنا اللانهائي باعتبارهم فنانين.
إن هذا التناقض المزعج قد أتاح الفرصة لمناقشات نهاية لها، والتي، في نظري، تعتبر عقيمة بين أولئك الذين حين يدينون الإنسان يدينون بذلك الفنان، وأولئك الذين حين يخلصون الفنان يتظاهرون بأنهم متسامحين مع أخطاء وشطط الإنسان. هكذا فالتناقض بين الأخلاق والاستطيقا قد أظهر الإبهام القديم لعلائق المجتمع والفنان، حيث يحاكم الأول الثاني حسب معايير غريبة عن تلك التي تتحكم في مغامرته الفنية الخاصة.
هل الذي يتخذ موقفا أو يشارك في نشاط ملام سياسيا من طرف إجماع أخلاقي-اجتماعي، هل باستطاعته أن يبدع عملا أدبيا له قيمة، يتسائل، بحيرة المواطن الشريف؟ بتعبير آخر هل الإتقان الفني للعمل يمتلك القدرة الخارقة لتوقيف حكمنا الأخلاقي حول ذلك الذي أخرجه إلى الوجود؟
إن طرح السؤال بهذه الطريقة، يبقينا في ميدان يخبئ كل أنواع الفخاخ والإبهات، لهذا سنبذل جهدا كبيرا لكي نتمكن من موقعته في مستوى آخر. فمن جهة لا بد من الإشارة إلى أن الرأي الجماهيري متغير بسبب طبعه اللين، بحيث أنه حتى أولئك الذين يتموقعون في ميدان أخلاقي مفتوح على قيم الحرية، والديمقراطية، بإمكانهم، بسبب وفائهم الأعمى لمبادئهم، أن يرتكبوا ويدعموا أخطاء بل فظاعات. ومن جهة أخرى، ففي الوقت الذي تصاغ فيه الأحكام اللوامة أو المؤيدة، لا بد من تجنب نسيان أن علاقة الشاعر أو الكاتب المسرحي أو كاتب العمل التخييلي بالمجتمع الذي يعيش فيه، والذي ينفذ فيه الطلب الاجتماعي ليس لها كبير أهمية، بالمقارنة مع العلاقة التي تجمعه بالمتن الأدبي للغته، ومن هذا الأخير بالتراث الأدبي العالمي.
ما أن نتخلى عن الفكرة الكلاسيكية المتعلقة بالتزام الكاتب إزاء القوى التي تمثل الديناميكية الاجتماعية لبلده ولزمنه حتى نواجه فكرة أخرى تتعلق هذه المرة بالجذع الشجراني (نسبة للشجرة) والتفرع الورقي للأدب الذي يعتبر بتيلة فيه، إذاك نستطيع أن نرى الأشياء أكثر وضوحا، وأن نكتشف قانونها الشخصي للشرف، الذي يمحي أي سبب لوجودها عند النقيض السابق الذكر. إذا كان، كما ألححت على ذلك منذ سنوات، واجب الكاتب الأساسي هو أن يعيد إلى المجموعة الثقافية واللسنية التي ينتمي إليها لغة جديدة أكثر غنى من تلك التي تلقاها منها إبان مباشرة عمله، فإن الصياغة الأخلاقية الحتمية تتموقع في مجال يختلف عن ذلك الذي تحدثنا عنه في البداية.
في الواقع، إن الكاتب الذي يأخذ عمله مأخذ الجد يواجه، منذ البداية، وجود الشجرة التي يطمح إلى تمديدها، وخصوصا إلى إغناء حياتها؛ فبقدر ما تكون هذه الشجرة عالية، كثيفة، سميكة، ومتشعبة، بقدر ما تكون إمكانيات اللعب، والمغامرة كبيرة، وبقدر ما يكون مجال العمل الفني الذي من داخله يباشر استكشافاته وأسفاره واسعا. في حين نستطيع بسهولة التعرف على الكاتب من الدرجة الثانية من خلال اختزاليته المقلدة –انتسابه إلى نموذج أو إلى معيار معين- فالكاتب الذي يكون مطمحه ترك أثر، وخلق غصن أو فرع في الشجرة، عليه أن لا يخضع لأي تأثير خاص، لأن فهمه الأدبي سيمنعه من الوقوف عند كاتب معين أو عند نموذج واحد: مثل سرفنتس، أو بورخيص، وسيكون مطمحه امتلاك كل التراث الأدبي لزمنه.
إن أروع حوار للكاتب مع الشجرة، هو ذلك الذي يتم دون اهتمام بأذواق ومعايير العصر، يشمل هذا الحوار الماضي والحاضر ويكشف عن أصول الحداثة في القرون التي نعتت، ظلما، بأنها مظلمة، ويغطس إلى الجذور العميقة ويكتشف علاقاتها بالثقافات المختلفة. إنها عملية مهيجة وجنونية هذه التي تحول بشكل ماكر –كما بين ذلك سرفانتس- جنون الشخصية (personnage) التي فقدت صوابها من جراء قراءتها لروايات الفروسية، إلى جنون الكاتب حيث تنتهي السلطة المضللة للأدب إلى خلخلة العقل.
إن الكاتب الواعي بعلاقاته الثرية مع الشجرة، سيقيم حوارا مع كل العناصر التي تتشكل منها؛ من النباتات الطرية، الأكثر نعومة، إلى الجذور الفرعية التي من خلالها تبرز أحيانا التركزات، والنباتات الطفيلية. فعندما يصل إلى الطبقات العميقة التي يؤمن بها، ويكتشف ملتقياتها الخفية مع الأشجار الأخرى، جنبات، ونباتات الغابة العظيمة للكتابة، سيصل إذاك إلى الحرية، وإلى رحابة فكر حداثيينا القدماء الأصليين: فعمله الأدبي سيكون إذاك نقدا وإبداعا، أدبا وخطابا حول الأدب.
إن شجرة ضخمة جدا، كثيفة، ومتشعبة، مثل شجرة الحروف الإسبانية تقدم وليمة حقيقية للمبدع الملتزم كليا بعمله الأدبي المتوحد: إن تعدد جذوره اليونانية-اللاتينية، والعبرية، وتشابكها الخصيب، وتبادلاتها، وتحولاتها، وكثافتها، وخباياها تقدم له إمكانية ناذرة لتوسيع إبداعه الخاص، ولبسط قواعد لعبه باستمرار في مجالات جديدة وخصيبة.
يعود اهتمامي، قبل كل شيء، في السنوات الأخيرة، بكتاب ما قبل النهضة –خوان ريوث (Juan Ruiz)، روخاس (Rojas)، دوليكادو (Delicado) –وبكتاب ما بعد الموديخارية- سان جون دولاكروث (Saint Jean de la croix)، سرفانتس (Cervantes) إلى أن تركيب وبنية أعمالهم لا يخضعان، كما هو الأمر بالنسبة للسابقين، لنموذج أو إلى معيار معين، لكن هؤلاء هم ثمرة تطور عضوي محض، أو أنهم نتيجة لمنطق الحلم غير القابل، تقريبا، للفهم، ولهم قرابة من جهة بالعبث اللفظي للطليعة الفنية لهذا القرن، ومن جهة أخرى بالتعبير البارع المتعدد الدلالات للمتصوفة.
إن إعادة قراءة سرفانتس من طرف بورخيص، وكونكورا (Congora) من طرف ليتاماليما، فجرت في لغتنا تيارا روائيا قويا ومؤسسا بشكل دقيق على التزام كلي ينفذه السارد في علاقته بهذه الشجرة المغذية، حيث تصبح الأوراق كتبا، ومخطوطات، وحروفا، وقصائد. إن أعمالا مثل دون خوليان (Don Julian)، خوان بلا أرض (Juan sans terre) أو مقبرة (Makbara) ليست فقط روايات، بل هي نصوص تم تحضيرها من خلال اتصالها بكونكورا وسرفانس وكبير الكهنة (L’Archiprêtre) لهيتا، مكونة معهم بذلك مضلعات، إنهم نتاج إغارة استحواذية في الشجرة، وفنادتها المتوالدة.
إن اكتشاف العلامات غير الملتبسة للحداثة، في استقبالية وانفتاح فن القرون الوسطى، وفي امتداداته الموديخارية، والرجوع مرات عديدة لجنون سرفانتس، وإلى العبثيات الرائعة لسان جون دولاكروث، وإلى العبقرية المتوهجة لكونكورا، هي أحسن الطرق لإظهار الوفاء الوحيد الذي علينا أن نطالب به المبدع: التزام شغوف، ومطلق وامتصاصي بالقرب من الشجرة التي تغذيه، والتي سيقدم إليها، ذات يوم، بتواضع وحب، إذا استطاع ذلك، ثماره الخاصة والمتواضعة .
منقول المجلة العربية للعلوم الادبية