تابع للموضوع رحلة المعنى
من بطن الشاعر إلى بطن القارئ
عبد الله محمد الغذام
احمل الآن شاهدة القبر
تصبح للعرس شاهدة
أمك الآن واقفة فوق سيف الترقب.
الرفاق أتوا..
يحملون المباخر
تناسلت فيهم، فهذا أوان التمازج
قم من النوم، إني أجيء إليك
لأنفض عنك التراب..
وهذا الوسن
لو تأملنا العناصر الرئيسية في هذا النص معكوسة على لوحة (القلعة السمراء) لوجدنا تداخل العناصر وتمازجها، ولنقرأ هذه الجمل:
ـ كيف ينعى الجواد ولم يكمل الشوط بعد-
ـ قم من النوم امرأة تشتهيك
تزف إليك-.
وهذا الجواد الذي لم يكمل شوطه هو صورة لمنظر الحصان الجامح في اللوحة. وحصان اللوحة لم يخترق جدار القلعة ولم يكسر الحاجز الذي يحول بين الجواد والفتاة فهو لم يكمل شوطه بعد. وهناك امرأة تشتهي هذا الفارس الغافي تزف إليه، ولكن أين هو..!؟.
إنه غائب في القصيدة وفي اللوحة.
وهو فارس على جواد فيهما معا ولكنه غير ظاهر للحس.
وهو في القصيدة (بشير) وهذا البشير يموت عريسا.
في لحظة اللقاء والتجاوز والفعل والفرح، في لحظة البشارة يموت البشي
ولكن هذا الموت ليس موتا حقيقيا إنه غفوة ونوم، والشاعر -ومعه الرسام- لم ييئسا من هذا البشير المختفي في ليلة العرس والبشارة.
إنه نائم، ولذا جرت محاولات إيقاظه: قم من النوم. يا (سيد هذا الزمن).
ولكن سيد هذا الزمن وبشير العرس والحياة لما يزل نائما. على أن النص و(اللوحة معه) لم ييأس من هذا البشير ولم يرض له بالموت فافترض منامه لكي يتمكن من الصراخ فيه لكي ينهض: قم من النوم.
وترددت جملة (قم منالنوم) ست مرات في النص وعليها انبنى النص ودارت دلالاته.
هو عريس وبشير وسيد هذا الزمن وله امرأة تشتهيه، تزف إليه، وله شوط لم يكتمل.
شخصية واحدة ومجموعة أدوار. وهذه الشخصية غائبة، ولكنها مطلوبة وضرورية للزمن لأنها سيدة هذا الزمن.
هناك المرأة وهناك الجواد وهناك الوظيفة والدور. وهي العناصر الموجودة في القصيدة واللوحة.
أما الغائب فهو الفارس البشير الذي يبدو عليه أنه لم يسمع النداء بعد. ولذا ظلت القصيدة واللوحة واقفتان في حالة شخوص وذهول ليعلنا عن الغائب والمفقود. هذا البشير وهذا سيد الزمن.
وينتهي النص بجملة (قم من النوم) وهي (صوتيم) دلالي يتكرر مرسوما في اللوحة.
4-3 تأتي (القلعة السمراء) لبكر شيخون ضمن سلسلة من الرسومات لدى هذا الفنان حيث تظهر الوجوه المؤنثة في تنويعات وتواترات تكشف عن حيوية دلالية مجازية ذات أبعاد كلية تتجاوب مع المجازات الشعرية الحديثة، كما رأينا في الفقرة السابقة، وكما سنرى هنا. ولننظر في لوحة ثانية لهذا الفنان اسمها (وجوه وحروف).
وهي لوحة تتكرر فيها فنيات اللوحة السابقة ولكن المنظور إليه هنا هو جدار من الحروف تقف أمامه ثلاث فتيات ينظرن بتمعن وتساؤل وانتظار عميق نحو هذه اللوحة الماثلة.
وبما أن أفضل تفسير للإبداع هو تفسير النص بالنص وتفسير الشعر بالشعر، وهو المبدأ الذي نستقيه من الأصوليين الذين يقولون بتفسير القرآن بالقرآن(42)، فإن لوحة (القلعة السمراء) تفسر لنا هذه اللوحة حيث يتحول الجدار بحروفه إلى وجه حصان جامح ومن ورائه غياب نجهل تفصيلاته ولكننا نفقد جسد الحصان وفارس الحصان.
أما الوجوه الثلاثة في هذه اللوحة فتتحول إلى وجه واحد في (القلعة السمراء) وهذا يشبكنا بفكرة العناصر التي تتحول من الوجود إلى الاختفاء مثل اختفاء بشير في حفلة العرس ومثل اختفاء (اللؤلؤة) عند السياب(43).
أصيح بالخليج يا خليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى
فيرجع الصدى
كأنه النشيج
يا خليج
يا واهب المحار والردى.
كان اللؤلؤ موجودا ثم غاب. وغياب اللؤلؤة صار قيمة دلالية جيلية، وأخذ غياب اللؤلؤة صورا مجازية متنوعة فغاب بشير سيد هذا الزمن وغاب فارس الحصان في اللوحة وكلاهما لؤلؤة مفقودة غائبة.
ومنذ أن غابت لؤلؤة السياب وأعلن الشاعر عن غيابها والشعراء يجرون وراءها باحثين عنها. هذا صلاح عبد الصبور يقول باحثا(44):
جبت الليالي باحثا في جوفها عن لؤلؤة
وعدت في الجراب بضعة من المحار
وكومة من الحصى، وقبضة من الجمار
وما وجدت اللؤلؤة
سيدتي إليك قلبي، أبيض كاللؤلؤة
وطيب كاللؤلؤه
ولامع كاللؤلؤه
هدية الفقير
وقد ترينه يزين عشك الصغير.
في هذا النص تحضر العناصر المجازية كلها. فهذا الفارس هنا يبحث عن اللؤلؤة، وهذه سيدته حاضرة تنتظر عودته ومعه اللؤلؤة.
ولكنه يعود بلا لؤلؤة..
وما جدوى فارس بلا لؤلؤة..!؟
هل سيكون بشيرا من دون اللؤلؤة..؟
وهل سيكون سيدا لهذا الزمان من دون اللؤلؤة..؟
وهل سيقتحم جدار القلعة السمراء ويصل إلى سيدته المنتظرة، وهو لا يحمل اللؤلؤة؟
لم يجد الفارس اللؤلؤة. ولذا ظل هناك غائبا وبعيدا وظلت النصوص تنتظره.
4.4-هذا نصفه بالمجاز الجماعي (الجيلي) الذي يتكون من حبكة مجازية متحولة وعابرة. تعبر فيما بين النصوص والخطابات وتعبر عن جيلها ولغة هذا الجيل.
ولقد كانت (اللؤلؤة) وما زالت قيمة مجازية يوحي غيابها بحضور المحار والردى والحصى والجمار، ولكن لا لؤلؤة.
على أن مجاز اللؤلؤة يتكرر بشكل طاغ في الشعر وفي الفن التشكيلي وبين يدي لوحات لفنانين تبرز عندهم صورة اللؤلؤة محاصرة أو مكسورة أو معتما عليها أو ضائعة (نائمة). وأكاد أقول إن هذا المجاز يطغى على التجربة الفنية لدى التشكيليين السعوديين والتشكيليات السعوديات مثل عبد الجبار اليحيا وفهد الربيق وناصر الموسى وعثمان الخزيم وبكر شيخون ومثل شادية عالم ومنيرة الموصلي.
ولا بد أن ذلك صورة عن سائر التجارب التشكيلية العربية المعاصرة، مثلما هو قائم في الشعر. ولقد أشرت في عمل سابق إلى اللؤلؤة عند غازي القصيبي(45).
واللؤلؤة مجاز جيلي يكشف ويحجب، يعلن ويسر، ويفصح لنا عن جيل كامل بما فيه من قدرة إبداعية وبما فيه من عجز عملي ●