تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
أخضر على الإسفلت
حلّت عقدة منديلها الخلفية...ثم مررت أصابعها النحيلة السمراء على جبهتها..وأدخلت شعيراتٍ مشاكسة تفلتت من تحت الغطاء...ثم عاودت إحكام العقدة وسوت المنديل فوق رأسها بحزم....
تسللت برودة الأرض إلى جسدها فارتعشت للحظة...تمنت لو أنها استطاعت أن تحمل معها كرسيا ً صغيرا ً تجلس عليه بدل ورق الجرائد..لكنها مالبثت أن عدلت عن الفكرة عندما تصورت نفسها تقطع كل هذه الطرق الوعرة وبيديها..بضاعتها ..وفوقها... كرسي خشبي!...
سعل أبو فارس وراءها...تعرف "أم اسماعيل" صوت سعاله وتميزه من غيره من أصحاب الدكاكين....أدارت رأسها وألقت عليه التحية...صبّح عليها بصوت مبحوح وتابع فتح أبواب دكانه وهو يتمتم بخفوتٍ مؤنس...يافتاح..ياعليم..يارزاق..ياكريم....
رفعت رأسها إلى السماء...كانت بِكرا ً تسبح في نقاء النور...هتف قلبها بخشوع:"يارب...يارب كما يسرت لي العبور من خلف الحاجز اليوم بسلام يسر لي بيع أوراقي...إنك أنت الرازق الكريم..."
عندما خرجت من "ارطاس" فجرا ً كانت القرية ما تزال مسترخية ً تتنفس الندى...شدّت خطواتها فوق الطريق الترابي...تفادت الطريق المعبد المار بالحاجز العسكري...وعندما وصلت إلى القرية المجاورة حيث بداية الطريق الالتفافي...ألقت بنفسها في إحدى السيارات التي أقلتها إلى القدس....
"يصبحك بالخير ياام اسماعيل"!...أنزلت أم محمد سلتها المملوءة بحبات الطماطم الحمراء من على رأسها إلى الأرض...ولوحت بصندوقٍ خشبي مهترىء فارغ كانت تحمله بطرف يدها بشيء من السعادة...وصاحت وهي تلهث...انظري ياام اسماعيل...هذا الصندوق وجدته عند موقف باصات الخليل...نزلت من السيارة الآن لأجده ملقى هكذا...ينتظرني..فحمدت الله..بتعرفي؟التربع على الأرض أصبح يوجع ساقيّ...ثم تنهدت بحسرة...يبدو أن "الكَبر عبَر" يا ام اسماعيل......ولوّحت بيدها إلى الوراء في حركة يائسة...يلا ّ...أي هو احنا بدنا ناخد زماننا وزمان غيرنا..الله يكتبلنا حسن الخاتمة....
تأملت أم اسماعيل وجه جارتها قليلا ً..وفكرت للحظة بأن أم محمد قد كبرت فعلا ً...التجاعيد الجديدة في وجهها..وانحناءة جسمها الثقيل..وشكواها من وجع مفاصلها....لكنها مع ذلك...مازالت قادرة على القدوم من قرى الخليل..وفرد "بسطتها"في شوارع القدس كل صباح...تفرش "البندورة" أمامها..تلمعها بكم ثوبها المطرز القديم...تتفحصها حبة حبة...وتنادي على المارة لتسوق بضاعتها...فهمست لها في ابتسامة...الله يعطيك الصحة والعافية ياأم محمد!...
ارتفعت الشمس ...تقطعت بعض الغيوم البيضاء وتناثرت في الفضاء...أصبحت الأرض أكثر دفئا ً تحت أم اسماعيل...وامتلأ الشارع بالناس.....نادت على بضاعتها...وقفت بعض النسوة يشترين...قالت إحداهن لها وهي تبتسم:ورق العنب هذا يبدو طازجا ً فعلا ً ولونه جميل...لكن عليك أن تراعينا قليلا ً في السعر! فرحت بما قالته الزبونة...فهذا الكلام لا تسمعه عادة من الزبونات لأنهن يخشين أن ترفع سعر الرطل...كلام هبل!لأنها تقول السعر دائما ً مقدما ً فكيف ترفع الآن؟...
قالت للزبونة...والله لو تعرفين كيف نقطفه ونأتي به للقدس كل يوم...هذا الورق قطفته من على الدالية قبل أن أمضي إلى القدس قبل الفجر...انظري والله مازال الندى عليه!..اشترت الزبونة ومضت..لكن
سعر بندورة أم محمد لم يعجبها فانسحبت بهدوء...نادتها أم محمد بصوت عالٍ:يابنيتي...تعالي...تعالي...خلص ب"عشرة"وخذي الرطل...لكن الزبونة لم ترد..فقط أبطأت في مشيتها قليلا ً...عاودت أم محمد رفع صوتها:تعالي!خلص بثمانية!..لفت الزبونة رأسها...وعادت لتشتري من أم محمد بابتسامة ظافرة...
مسحت أم محمد حبة عرقٍ كانت تتلكأ على وجهها...نظرت إلى الشارع الذي خلا قليلا ً مع حرارة الظهر وقالت في شرود...بتعرفي يا ام اسماعيل...رأيت الليلة حلما ً استيقظت منه وقلبي يدق يريد أن يخرج من صدري...رأيت نفسي... اللهم اجعله خيرا ً....أحمل رغيفا ً وكلب يجري ورائي..أركض وأركض وأضم الرغيف إلى صدري وألتفت ورائي فأراه يلهث خلفي وينظر للرغيف.....قاطعتها أم اسماعيل:الله يكفينا شر أحلامك يا ام محمد!خلص ما تكملي...ياخوفي يكون هالكلب اللي شفتيه هو البلدية بتجري ورانا!!فردت ام محمد بشيء من الشعور بالذنب...لا ان شاء الله ما بيقربوا ع المنطقة اللي بنقعد فيها...بعدين الكلب في الحلم لم يمسك بي!..
صمتت أم اسماعيل..وأحست حلقها يشتعل بظمىء مفاجىء...أرادت أن تقوم وتطلب من أبي فارس بعض الماء حين سمعت صوت سيارات البلدية تدوي في المدينة بجنون...دبت حركة غير عادية في الشوارع وبدأت الفلاحات يحملن بضاعتهن سريعا ً ويختبئن في الأزقة...لكن شرطة البلدية كانت أسرع من الكثيرات...لاحقتهن بالسيارات السريعة والشرطة العنيفة...سحبوا بضاعتهن وألقوا بها في السيارات الكبيرة التي جاؤوا بها...صرخت بخوف...وجرت بسرعة واحتمت في مدخل دكان... لكن أحدهم لمحها فلحق بها... حاولت أن تدفعه بعيدا ً عنها ويدها تتصلب على سلتها...استعان الشرطي بآخر أمسك سلة أم اسماعيل بعنف...لكنه لم يقدر على سحبها من يدها فأدخل يده في السلة وقلبها على الأرض...وقعت الأوراق الخضراء على إسفلت الشارع...حاولت أن تنحني لتلملم أوراقها إلا أن الشرطي دفعها...خيل إليها انها سمعت وسط ذهول المفاجأة صوت أم محمد...كانت أم محمد فعلا ً....يجر شرطي سلتها التي مازالت تتمسك بها.. هي أيضا ً جاء آخرسحب يدها بقوة فتركت السلة..لتتناثر حبات البندورة على الأرض فوق أوراق الدالية...ركب الشرطة سياراتهم وتقدموا بها...فوق ورق الدوالي والطماطم...رشقت الطماطم وجه أم محمد التي وقفت ترتعش....تجمع الناس حولهما...قال أحد الشباب بأسى:"كل الخضار التي وضعت في السيارة ستؤخذ إلى تجمعات الجنود....يطعمونهم من أرزاق الناس"...تقدمت إحدى النسوة من أم محمد وأعطتها منديلا ً تمسح به وجهها...استيقظت أم محمد من صدمتها...لكنها لم تمسح وجهها الملطخ بعصير البندورة...بل جلست على الصندوق الذي أحضرته في الصباح وخبأت وجهها بيديها وأطلقت روحها في بكاء ممض ٍ مقهور...
نظرت أم اسماعيل حولها..كانت أم محمد تنوح..وأوراق الدالية الخضراء تختلط بهريس البندورة على إسفلت الطريق الوسخ...مشت حيث سلتها الفارغة المقلوبة..تناولتها بيديها...نظفت حواشيها بطرف منديلها..ثم حملتها ومشت حيث تقف السيارات العائدة إلى بيت لحم...وهي تستحضر صورة الدالية وتسائل نفسها في ذهول....إن كان قد بقي عليها ورق يمكن أن تقطفه وتبيعه في صباح الغد
هدى جولاني