السواد
كان رذاذ المطر يتساقط فوق نافذة غرفتي, في ليلة من ليالي الشتاء الباردة, والقاتمة السواد, فهي أشبه بظلمة القبر السّحيق.والساعة تشير إلى منتصف الليل,أطبق السكون أنفاس الكون,فلم أسمع مواء القطط ,الذي بالعادة يحطّم جدار الصمت,في مثل هذه الليالي الموحشة,و هي باحثة عن المأوى,لا بصيص نور يلوح من الخارج,فأنوار الشارع أضحت في عزاء. ومن فينة لأخرى تهب ريح تكاد تقلع تلك البيوتات الفخمة التي في حيّنا ,عن بكرة أبيها.وقد تحاول أن تغض الطرف عن الصقيع لكن دون جدوى, فهو سيف مشحوذ مستعدّ ليجهز على كلّ من تسوّل له نفسه عن الخروج.
وأنا في فراشي انكمشت على نفسي, والتحفت بغطائي الصّوفي الخشن, الذي لا يمكن أن يتسلل إلي, ورغم ذلك احتلت جسدي قشعريرة, وأسناني تصطك. في الحقيقة لا ادري لما أحسست بذلك ؟ هل من حال هذه الليلة الغريبة الملامح؟ ,خلت نفسي في عرضة البرد عارية, وحيدة,و تراءت لي صورة روحي وهي تنسلّ منّي لتجوب العالم بأسره.ربّما أنا واقفة فوق خطّ يفصل بين الحلم و العلم ؟.راقني هذا الشعور خاصة أن مخيّلتي بدأت ترسم معالم عالمي الخاص, وعلى أجنحة الابتسامة وصلت إلى هناك, حيث كلّ شيء فيه لا محدود و بلا نهاية . عالمي لا سماء له ولا ارض فيه, هو فقط بينهما, وضعت قوانينه على هواي, دون رقابة. رقصت كلّ أنواع الرقص دون سماع كلمة ممنوع,
رسمت أشجاره بألوان الطيف, هي الحرية عالمي. دون شكّ لم يذقها من لم يعتل صهوتها. في كثير من الأحايين أهرب إليه و أتمنى إن لا ترجعني مخيّلتي إلى حيث أعيش,فكم من مرة كنت أتوسل إليها إلا تعيدني إلى واقعي.أتساءل دوما هل هناك من يشبهني؟ من يتوق ليرشف من نهر الحرية ذاك الذي لا ينبض, شيء في داخلي يستفزّني لأقدم على ما يحلو لي دون الاكتراث بالعقاب. صراخ يعلو يريد الخروج من أغوار نفسي, ليواجه كلّ من يثبط من همّتي و يسرق طموحاتي, لا لشيء إلا أن اسمي ينتهي بتاء مربوطة, فوضعوني في داخلها و اقسموا أن أسجن فيها إلى الأبد. أترى هل هذا الحكم من محكمة العدل الدولية؟.. .
وكما سرت العادة, شاءت مخيّلتي أن تعيدني إلى حيث أنا, داخل فراشي, فتشتت ذهني, ليختلجني شعور, موحش, بعث في أواصلي رعشة كادت روحي تفلت مني. فحاولت ألملم بعضي وألتقط أنفاسي, كالهاربة من شبح....
أسدلت جفوني طالبة النوم أن يطرق بابي, علنّني ارتاح بعض الشيء, فصعقت من هول ما رأيت, و تمنيت أنّي لم أغمض عينيّ, أشاءت الأقدار أن ترجعني إلى بحر الماضي الذي لا قاع له؟, أهي لعبة تريدني هذه الليلة أن ألاعبها إياها؟, كم من عناء تكبدته لأنسى؟,لأشفى من جراحي؟ أأنا خارج الزمان و المكان؟ حيث للذاكرة السلطة أوان, فلها فقط الحق من ممارسة سلطتها عليّ و شاءت أن تفعل ذلك في هذه الليلة الباردة, قد تكون هي وذاكرتي متآمرتين عليّ, فان كان كذلك فهنّ أوقعاني في فخّيهما بجدارة, وكانت اللّحظة المنتظرة,ساعة التنفيذ. لحظتها بدأت حين أغمضت جفوني, لأرى شريطا من الأحزان و الهموم,التي عملت على نسيانها لأقدر على العيش بشيء من الطمأنينة و راحة البال لكن ذاكرتي أبت أن تسايرني, وتربصت الفرصة, لتهبط هبوطا اضطراريا, لا مفر منه على ساحة شعوري,ودون أن افتح عينيي لأهرب منها, ربما أرغمتني على إبقائهما مغمضتين,فاستسلمت لها, ورفعت الراية البيضاء أمام قوّتها, وهنا كنت أدرك أني تحت رحمتها وتسقيني كل أنواع العذاب, وبدأ الخوف يتسرّب إلى كلّ خلية في جسدي وامتلكني الرّعب مشوبا بشوك الأسى........
رويدا, رويدا بدأت رحلتي عبر الزمن, والعودة إلى الوراء, أوّل شيء توقفت عنده ذاكرتي هي محطة كتب عليها *أبي* فما أحسست إلا بالدموع تنهمر كالمطر,أبي ذلك القصير القامة, والممتلئ بعض الشيء والذي حوله هالة لا أحد ينكرها, فالكل يهابه, الكبير قبل الصغير, إن تحدث سكت الجميع, أمره ليس محل نقاش, فهو من النوع الذي يعتبر رأيه سديدا دائما, ولا يحقّ لأي شخص مهما كانت مكانته, أن يعارضه. أبي ديكتاتوري بامتياز,وحقا أقربهم إلى الأرض أشدهم بلاءا. بطبعه العسكري كنت أشبّهه بشخصية الأب في سلسلة<<The Good father >>, التي تتميّز بالقوة و الجبروت, و لا وجود لمن يعصي أوامره, و أن تسولت لأحد نفسه من أفراد عائلته, الاعتراض فقد جنى على نفسه, ويكون عقابه, رصاصة في جبينه, ليغرق في بحر دمه, هكذا كنت أحسّ اتجاه أبي, لأنّ منذ نعومة أظافري تعوّدت على سماع صراخه الذي يصم الآذان, ولسانه يطلق القنابل دون أيّ اعتبار للمشاعر.المشاعر! ربّما هي كلمة غير موجودة في قاموس أبي.تعوّدت على اهاناته الجارحة,و كم من مرة منعني من شيء أرغب بفعله, كالخروج لزيارة صديقاتي أو المبيت عند أقربائنا, فهو دائما كان لي بالمرصاد, لا لشيء إلا لأني أنثى. هو الذي سبب لي عقدة الصمت, وعدم البوح بما يختلجني من أحاسيس و رغبات, فلا أذكر يوما تجاذبت أطراف الحديث معه,وأنه رسم قبلة على جبيني. كنت عندما أرى معاملة أباء صويحباتي لهن أعود للبيت أبكي.كم من مرة رغبت في مواجهته و البوح له بكل ما في داخلي تجاهه,لكن أفشل دائما فعقدته داخلي كانت أكبر مني, ولم تكن لديّ الجرأة الكافية للقيام بذلك. فاستمرّ جرح أبي ينزف بداخلي و لا زالت صورته مرهونة بالخوف منه, ورغم مرور السنين لم أستطع التخلّص منها. كانت نفسي تساورني دائما بأن أبي رغم شخصيته القوية يخفي بداخله شخصا ضعيفا........
و فجأة تغيّرت الصورة, فأدركت أنّ شريط ذاكرتي يستمرّ في العودة إلى الخلف, ونبش الماضي, فإذا بي أذكر يوم كنت أحلام, الفتاة اليانعة كلّها حيوية وطموح,والتي ترسم مستقبلها بريشة الأمنيات و الأحلام الوردية, فهي كأيّ فتاة في سنّها, ترغب اكتشاف العالم وخوض مضمار الحياة,أحلام كانت بتحقيق كل ما تصبو إليه, فهي التي أرادت أن تكمل دراستها في الخارج, وبمقدورها الاعتماد على نفسها , وبناء شخصيتها بالتفتح على العالم ومغادرة قوقعتها لترى الدنيا بألوانها المختلفة.كم كانت تعشق المسرح و الموسيقى. وعشقت المغامرة, و هنا مربط الفرس, فقد اصطدمت بصولجان المجتمع, ذلك الوحش الكاسر, الذي حطم كل أمنية علقتها في شجرة أمانيها, وأدركت أن لا مجال للمقاومة.
تعثرت بطموحاتها, أحست بغصة هدّت حيلها, وجدت نفسها في المستشفى بعد انهيار عصبي حين سماع خبر زواجها العاجل و عريس الغفلة الذي لا تدري من أي كوكب نزل.كان هذا القرار الذي أصدرته العائلة, ليخرس كل من كانوا يتهامسون ويطعنون في شرف عائلتهم. باعتبار أحلام في نظرهم الفتاة المتمردة على الأعراف و التقاليد, و تجلب العار لكل من يحمل نفس كنيتها لأنها ترجع إلى البيت في ساعة متأخرة و تصاحب الذكور دون الإناث وتسمع الموسيقى و هي تمشي في الطريق ذاهبة إلى الجامعة, وترتاد المقاهي المختلطة...... كل ذلك كان حسب رأيهم جرائم لا تغتفر لفتاة في سنها.......
و الطامة الكبرى حين أحبت شابا و أعلنت حبّها ولم تخفي ما يختلجها من مشاعر حلوة, ببساطة كان من حقها المشروع في أن تذوق طعم الحب ولم تعلم أنها قضت على نفسها .....
فقتلوا أحلام, فيّ !.........
ريح صعصاع, أخرجتني من سدوم ذاكرتي. بفزع رحت أبحث عن زر مصباحي, لكن دون جدوى, لقد انقطعت الكهرباء,وغرقت في بحر اللازمان و اللامكان. و كأنّي أسبح ضد التيار, أو أقاوم وحشا مجهولا, لا مرئيا. ساد أكثر من ذي قبل, فازدادت ليلتي ثقلا و تآمرا, فلا المطر توقف, ولا البرد يكف عن نفث سمه في أرجاء الغرفة, ولا الساعة أدري كم هي..
الشعور بالوحدة ما أقساه وما أبشع أن تكون أسيرا لذاكرتك, وتحت رحمة الماضي السحيق, كم وددت في هذه اللحظة أن تبزغ الشمس ويضمر ضوءها غرفتي, لكن هل إذا حل النهار سأحس به و أقلعه؟ أم سأبقى دون وعي وأتخبط في ثنايا ظلام ذاكرتي التي لا تريد إلا أن تسقطني في صريعة؟ دون شفقة ولا رأفة منها.هل تريد قتلي؟ فهي إذا قاتلتي المحترفة ولن تترك دليلا واحدا على جريمتها.....
وفي خضم هذه الأفكار السوداء و الجو القاسي, الذي لا يبعث فيّ سوى ذلك الشعور بالخوف و الوحدة.
ورغم مقاومتي لذاكرتي, و محاولتي لمنعها من إعادة الشريط إلى الوراء و إلا تنزف جراحي مرّة أخرى,إلا أنها عنيدة, وتجبرني على استرجاع ما كنت أكابد نفسي على نسيانه, فالليلة برهنت لي أنني عاجزة أمام جبروتها.
فراحت تستعرض صور الموتى و الأشلاء المبعثرة هنا وهناك, جسّدت لي مشهد آلام ميّتة ورضيعها بجانبها لكن انفصل رأسه عن جسده, وأخرى جسدها مشوّه,و الآخر يركض برجل واحدة,تزاحمت الصور والمشاهد وتداخلت فيما بينها حتى خلتها تنام بجانبي, فقد كانت هذه المجازر التي صنعتها أيدي الصهاينة في غزّة,ومدى وحشية العدوان عليها, هل كان شعبها فئران تجارب لأسلحة الدولة التي لا تقهر, ومسرح لتنفيذ عمليّاتهم القذرة؟؟, إنهم أشبه بمصاصي الدماء.وما قهرني وزاد من حسرتي هو عجزي عن فعل أدنى شيء, حتّى الصراخ لم أستطع الإقدام عليه, بقيت في قلبي حرقة عزة تنغص حياتي وجرحا لا يكف عن النزيف.....جاهدة حاولت الهرب من هذه المناظر, ومن سماع بكاء الثكالى و الأرامل, وتلك البيوت التي أردمت فوق أهلها, شردّوهم و تركوهم لجحيم الجوع ينهش لحمهم و ينشر في أجسادهم كل أنواع الأوبئة, بذلك الحصار الحقير الذي أفرضوه, و بالجدار الذي أقاموه في أرض مقدسة لا مكان للحثالة أمثالهم بالتواجد فيها.
أما الغريب و العجيب هوا تفاق الإخوة على القضاء على أحد إخوتهم و تحالفوا مع العداء بالتطبيع معهم,ألم يتفق إخوة يوسف على القضاء عليه من شدّة غيرتهم؟ وعمى بصيرتهم قبل بصرهم, والتاريخ يعيد نفسه..........
أدمى قلبي الحال الذي آل إليه وطننا العربي, ولا أدري ماذا بعد؟ فكيف تسرّب الجبن إلينا و نسينا أمجادنا الغابرة , و هنّا على بعضنا البعض, أصبحنا لا نبالي لما يحدث لجيراننا و كل واحد فينا همه الأكبر والوحيد هو كيف يكتنز المال و يعمل فقط لحساب مصالحه ,فيعود إلى بيته ليغلق بابه الحديدي جيّدا, دون الاكتراث بذلك الجار الفقير الجائع , هل أكل قبل أن ينام ؟ وله الغطاء الذي يقيه البرد ؟. إلى متى سنبقى نفكر في أنفسنا ؟,نحن لسنا وحدنا في هذا العالم’أم صدقت من قالت أن الإنسان وحيد في هذا العالم؟ ألم تلدنا أمهاتنا أحرار ؟, ومتى استعبدونا ؟, لما هذا الرضوخ و قبلنا بأن يأخذوا بنواصينا, ألا لنا الصراخ بأعلى صوت لنقول كفى ؟.حسبكم, لا نريد التقليد و نكسر قيود التبعية البالية و نصنع قراراتنا بأيدينا دون أن نكون تحت رحمة اللوبي الصهيوني و الأمريكي.....
انتابتني نوبة بكاء عارمة, أخرجتني من محرقة ذاكرتي, لأجد نفسي دون غطاء, و الحمى قد تمكنت منى فأصبحت أهذي.... لما أأنا.... تريد ققتلي....أأأنقذوني....ددماء.... ل لن أأعود.... لم أعد أعرف أأتى الصباح و انتهت مؤامرة ذاكرتي مع هذه الليلة الثقيلة, أم أني سحبتني من شعري عنوة و أعادتني أسرة لها. كان جسدي جمرة تحترق و لا أحد معي في الغرفة ليهم بمساعدتي.أنيني الذي كسر حاجز الصمت و الذي اخترق الجدران إلى السماء و يبلغ رسالتي للعالم أجمع......
كنت أتألم لوحدي و جراحي تنزف دون كلل و لا ملل, فخطر في بالي سؤال كان هو الآخر دائما يؤرقني , و يجعل نهاري ليلا و ليلي نهار, حتى أنحل عودي و أنهك عظمي....
لماذا أتعذب و أفكر في قضايا أكبر مني؟
لو أني كباقي الفتيات اللواتي يهتمن بالموضة ,و المطربين الم يكن أهون علي؟ هل خولت لأجمل هموم العالم على ظهري , لما لم أفكر في الزواج و المكوث في البيت ,كان أرحم لي من المعرفة لأنها جعلتني أعاني. ليتني بقيت أمية لم أقرا تلك الكتب التي جعلتني ابحث عن نفسي لأصنع مجدا لي ,كان حريا بي أن أقف في وجه طموحاتي و اسلب نفسي إرادتها و اكبح جماحها,لو قمت بذلك لما تعذبت الآن.
لم أعد أعرف من أنا, أضعت نفسي بين ماض كنت أريد نسيانه و طمره لما فيه من آلام و آهات تنهك كاهلي, وبين مستقبل أصنعه لنفسي. لازالت الحمى تعصر جسدي الضعيف, و لا من معين يمسك بيدي إلى بر الأمان
ترجيت ذاكرتي أن تدعني و شأني, و ترسل لي خيوط الرحمة.توسلت لليل أن ينجلي, ودعيت الهي أن يغفر لي, أن يكون هذا عذابا أستحقه لذنب اقترفته لا أقوى على تحمل هذا الكم من الألم,......
حاولت الوقوف لكن الحمى حالت دون ذلك, أنا في نهر العذاب أغرق.... رأسي أضحى ثقيلا و الألم يمزقه إربا. العالم كلّه في دوران و لم استطع فتح عيناي, يا لها من قوة شيطانية تعرج بي إلى سمائها, أحسست بكل ذلك الألم و تلك المعاناة والدوران الموجود في " السباحة في بحيرة الشيطان " كأني تلك التي تعاطت مخدر "ل,س دي" و الفارق أنها أخذته بإرادتها وذاكرتي أنا أجبرتني و أسرتني في سجنها العالي رغما عني.
فقدت الإدراك بكل شيء, لا أعلم أين أنا و حتى من أنا, الضياع فقط كان المهيمن عليّ.....
وإذا بقواي تخلّت عني, وأنا في أمس الحاجة إليها. وبدأ نبض قلبي ينخفض ,و العرق يتصبب في كل جزء من جسدي , و رجلاي لا تقويان على حملي , فما كان مصيري إلا جثة هامدة سيخالني كل من سيراني. ما عدت في هذا العالم و لم أدر بأي عالم كنت. و آخر ما حاولت شفاهي , أن تنبس عن بنت شفة سا.... عدو ... ني
استيقظت , فتحت عينيي أخيرا أكن الصورة مضببة, ووجهي شاحب كليمونة جافة, وجدت نفسي في المستشفى ووجوه تبتسم لي وتقول الحمد لله على سلامتك . بصعوبة شديدة سألتهم : ماذا حدث لي ؟ لما أنا هنا؟ حاولت تذكر مالذي جرى لي ليلة البارحة. لكن عبث . فذاكرتي فارغة, تذكرت فقط أني في منتصف الليل خلدت إلى النوم . فما عدا هذا لم أتذكر شيء آخر, هلاّ قلتم لي مالذي حدث ليلة البارحة أرجوكم............