أظلم الليل زادته أعمدة النور الممتنعة ظلمات بعضها فوق بعض. امرأة تفنن الزمان في رسم لوحات الخريف على وجهها. وضعت طفلها الرضيع على ظهرها. ثبتته بحزام عريض. شعر بدفء أمه فأسند جنب وجهه الأيسر الى ظهرها ونام ، ثم تملكه ذعر هزه ففتح عينيه الصغيرتين على سواد قاتم فصاح صيحة سرعان ما أسكتتها أمه وهي تقول له : - انه صوت الباب يا بني ، لا تخف.
كانت تعلم أن طفلها لن يعي هذا الكلام لكنها كانت تعلم أيضا أن صوتها سيعيد له بعض الأمان. بعض الجارات الساهرات على الشرفات وخلف النوافذ كن يسترقن السمع ويتتبعن الوقائع بتفاصيلها، لم يكفهن المكوث في بيوتهن فخرجن والتقين وتحلقن فتهامسن. مرت المرأة وطفلها الذي استعاد الدفء أمامهن كالسهم فسكتت النساء عن الهمس للحظات وجيزة ثم قالت احداهن : - مسكينة هذه المراة، أيخرجها هذا اللعين في هذا الوقت؟
قالت أخرى : - وما يدريك لعلها هي المذنبة؟
قالت الثالثة: - وما ذنب هذا الصبي؟
تجاهلت المرأة - وهي تخترق الظلام- نباح الكلاب الليلية الضالة، وكثيرا ما اصطدمت مقدمة قدميها بحجارة كادت أن توقعها أرضا. ليس في ذاكرتها تحديد ما لوجهة ما، فسارت مثل زورق تقاذفه الموج من كل صوب. سارت تمضغ كلماتها وهي مصرة على ألا تسكب أية دمعة. كل شيء في طريقها موحش.بعض الأشجارعلى الجنبات صامتة بعد أن هجرتها طيور النهار، بعض الجدران المهترئة آيلة للسقوط، والى هنا لجأت واحتمت لا تسمع الا أنفاسها المتسارعة. وضعت رضيعها على فخديها وأرضعته ثم قبلته. نظفت مكانا صغيرا بالقرب منها وبسطت عليه قطعة القماش ثم وضعته. تناهت الى أذنيها أصوات مختلفة فتسرب اليها شيء من الخوف ، ولم تجد سلواها الا في أن تتحدث الى نفسها كي تجهض الخوف القابع في داخلها: - لا حل أمامي الا هكذا، أن أبتعد عن ذلك البيت والوجه اللعين. لم أسعد -رفقته - بهنيهة فرح. الليل هنا أرحم، حتى هذي الكلاب الليلية لن تمسني بسوء. كثيرا ما تحملت ضربه وتجريحه. عندما ينبلج الصبح سألجأ الى بيت والدي، لكنهما لا يجرؤان على التدخل. لا ، سأعود الى بيت ابني، سيطردني ذلك المجنون، أجل سيطردني، سيعنفني، قد يقتلني.
سمعت دبيبا مثتاقلا متجها نحوها، يقترب ويقترب، أخذت طفلها وضمته الى صدرها. يدها الأخرى تزحف على التراب باحثة عن حجارة. حبست أنفاسها. تنبهت ووقفت ملصقة ظهرها الى ذاك الجدار. عيناها تخترقان الظلام. حاولت الصعود الى الجدار لكنها لم تقو على ذلك فترقبت.الدبيب يقترب ويقترب. نبضات خافقها تسارعت. أعدت حجرة بين أصابعها وتأهبت .
- انه وحش الليل الذي طالما تحدث عنه الأهالي. انه لا يظهر الا في الظلماء. أجل انه هو، بل انها نهايتي ونهاية طفلي.لا ، لن أسمح له بأخذه والتهامه، فليلتهم ذاك اللعين النائم في البيت، هو الأجدر بأن يلتهم.
خلقت هذه الكلمات في نفس المرأة شيئا من القوة، فتململت في موقفها لكن الدبيب قد أوشك على ملامسة تلابيب لباسها. اشتم رائحتها، فرمته بحجر كفها. أن ذلك الشيء أنينا وابتعد عنها لبضع يردات ثم قعى لاهثا لهاثا بلغ أذنيها فانحنت وجرفت بأصابع كفها حجارة أخرى وأخذت ترشقها في كل الاتجاهات. طالت ليلتها هاته. تمنت أن تسمع أولى صدحات طير الصباح. تمنت رؤية أول خيوط صبح جديد. اضطرب رضيعها بين صدرها وذراعها وما ان هم بالصراخ حتى وضعت أصبعها في فمه وصار يمصه مصا ناعما. نفد حليب ثديها.وبعد لحظات عصيبة سمعت أزيز محرك سيارة فركضت نحو الصوت صائحة، ولما اقتربت من الطريق غير المعبدة سمعها السائق فزاد من سرعة سيارته وأغلق النوافذ، ففي ذاكرته أيضا حكاية من آلاف حكايا وحش الليل. توقفت المرأة عن الركض وتتبعت بأذنيها صوت السيارة حتى اختفى. أرادت العودة الى الجدار لكنها فقدت أثره ، فجلست حيث هي وطفلها قد أخذ في البكاء. جربت اسكاته بأصابعها لكنه -هذه المرة- لم تنطل عليه حيلة أمه فازداد صراخه. كان يبكي حد الصمت.فجأة سمعت الدبيب من جديد يتقدم اليها فارتعدت فرائصها وهي تقول في نفسها : -انها حتما النهاية، هذا الوحش يتربص بي ، يختبر قوتي وشجاعتي، انه يفترسني شيئا فشيئا،، متى يظهر الصبح؟
تعالى في السماء صوت الأذان، فتسللت اليها بعض السكينة ، وقالت في نفسها : - هذا صوت الأذان، ألا يقال بأن وحش الليل لا يطيق سماع الأذان؟ أكيد أنه سيختفي.
كان هذا الوحش الليلي يشتم رائحتها ويتعقبها، وها هو من جديد قد اقترب منها، تراءى لها في الغبش شبحا، وشرعت ترشقه بالحجارة، وكلما قذفت بواحدة خطفت نظرة نحو مشرق الشمس، وها هي طلائع الاصباح تلوح غازية المكان، فرأت كلبا قادما نحوها وهو يحرك ذيله يمنة ويسرة معلنا عن السلام. دنا منها فألفته ذاك الكلب الذي كانت تطعمه وتسقيه كلما مر قرب بيتها حتى اتخذ لنفسه مستقرا بجواره، ثم تراءت لها بيوتات من بعيد فمشت وبين ذراعيها طفلها وخلفهما كلبهما، راجية الوصول الى أقرب باب كي تلتمس حليبا لابنها وأصرت على عدم العودة الى ذاك المعتوه.