بسم الله الرحمن الرحيم
المتثائبون
1_
تم تكليفي باختيار أكثر الميادين التي يستخدها أهل المدينة في يومهم وعلى مدار كافة الأيام ، ولأني المسئول التنفيذي قمت بوضع خطة تزامنية من أجل الانتهاء من الدراسة في أقل وقت ممكن ، ويكون ذلك بعمل إحصاء دقيق لعدد كبير من الميادين التي تكتظ بها المدينة ، ومن ثم اختيار أكثرها استعمالا وازدحاما ، وكانت المفاجأة المذهلة ، فبعد أن فحصت تقرير المجوعات التي أشرفت على دراسة الميادين وجدت أن الميدان الكبير هو أكثرها استعمالا وازدحاما ، ووجه العجب أن هذا الميدان من أجمل الميادين ناهيك عن اتساعه الكبير ، ويمتاز بسلاسة المرور المثالية ، هذا غير وجود المساحات الكبيرة المتسعة التي تمكن الناس من الاستراحة فيه ، بل وتتخلله شبكة من الممرات والطرق المتقاطعة والمنتظمة إلى حد كبير ، لدرجة أنني شخصيا كنت أستبعد دخوله ضمن أكثر الميادين ازدحاما فهو لا يبدو عليه أي ازدحام في أي وقت ، ولقد ذهلت بالفعل ، ولكن هذه نتيجة الدراسة التي قمت بالإشراف عليها والآن لابد ان أعطي النتيجة للوزير ، وبذلك ينتهي دروي .
أثارت هذه الدراسة فضولي ، وقررت متابعة الميدان بنفسي يوميا لأرى ما الذي يفكر فيه المسئولون ، وشغلتني بعض الأمور لأيام قليلة ، وأثناء مروري في المدينة قررت المرور من الميدان الكبير ، وعند الدخول في الشارع المؤدي إليه ظهر أمامنا مايشبه الازدحام على غير العادة ، أوقفنا السيارة ، ونزلت مترجلا حتى وصلت إلى الميدان ووجدت الازدحام حقيقيا والناس ينظرون إلى أعلى ويتثائبون ، يدخلون الميدان كحالي نشيطون ثم ينظرون لأعلى وفجأة يبدءون في التثاؤب ذلك ما عرفته فيما بعد ، فقد دخلت الميدان شغوفا مذهولا ولكني سرعان ما كنت أحد المتثائبين .
2_
تم تكليفي لأكون ضمن فريق إحصائي لعمل دراسة عن كثافة المرور في الميدان الكبير ، ولم أعرف السبب ولا يهمني أن أعرف ، فلدي أعمل أقوم به لا أكثر ، ولكني كنت سعيدا للغاية ، لأني ضمن فريق الميدان الكبير وليس أي ميدان آخر ، فأنا أحب الميدان الكبير وكثيرا ما أتعمد المرور منه ، لما فيه من روعة المناظر واتساعه وسهولة الحركة فيه ، وهو دائما نظيف هادئ ، في الحقيقة أنا في نزهة ، وسيكون العمل فيه بالطبع أقل من غيره من الميادين ، ومع بدء العمل ومرور الوقت وجدنا أن الأمر في غاية الصعوبة ، وبدت الأرقام كارثية ، والأعداد لا يمكن أن تكون على هذه الحال ، ولكننا نلتزم بما في أيدينا من إحصائيات ، وانتهى عملنا وسلمنا التقرير النهائي بعد المدة المقررة .
أثناء ذهابي إلى العمل في الصباح تعمدت المرور من الميدان الكبير ماشيا على الأقدام فنظرت لأعلى كما ينظرون ويومها ازداد عدد المتثائبين واحدا .
3_
سلمني الوزير التقارير الإحصائية عن أكثر الميادين ازدحام ، لقد كانت لدي فكرة لا أعرف كيف ستكون نتيجتها فهي قائمة على الحدس على غير ما تعودنا في حياتنا ، والغريب أن الفكرة لاقت قبولا لدى الحكومة كما أخبرني الوزير بنفسه ، فهو يثق في قدراتي ويستشيرني في كثير من قراراته ، ولأنه وزير التخطيط كلفته الحكومة بحل هذه المشكلة المؤرقة ، ولأنني المستشار الطبي له لم يجد بدا من استشارتي ، ولكني ذهلت لما قرأت التقارير ، فقد ثبت أن الميدان الكبير أكثر المياديين ازدحاما وكثافة ، ولم يكن يخطر في بالي هذا الأمر فأنا شخصيا أحب التمشية في الصباح في هذا الميدان فهو أكثر من مجرد كونه ميدانا ، وطالما أن الدراسات تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الميدان الكبير هوأكثرها ازدحاما فسوف يقع عليه الاختيار وتنفذ الفكرة فيه ، ونفذت الفكرة في الليل .
وفي الصباح مررت بالميدان كالعادة ويومها ازداد عدد المتثائبين واحدا .
4_
كوزير مسؤول ومكلف من الحكومة بمتابعة هذه الفكرة أعطيت الأمر للمستشار الطبي بالتنفيذ ، وتابعني بالتقارير اليومية .
لقد كانت فكرة مذهلة : الناس يعانون من العمل وهم لا يشعرون ، ومتوسط الأعمار بدأ في التناقص ، ولا يدرون ما معنى الراحة ، ولم ينفع معهم شيء ، الجميع أصابه الداء ، ولا يقدرون على الراحة ، ولا يفكرون فيها ، عندهم حمى العمل ، فكر المستشار الطبي في حل من الطبيعة أن نختار أكبر الميادين وأكثرها ازدحاما ونضع فيه صورة كبير متحركة لوجه رجل مقبول الطلعة يتثاءب على نحو بطيء ، كبيرة جدا ، عالية التقنية ، قوية الإضاءة ، موضوعة في أبرز الاتجاهات .
ذهبت بنفسي إلى الميدان الكبير فهناك حالة من العشق المتبادل بيننا ، ويومها ازداد المتثائبون واحدا .
5 _
استيقظت في موعدي ، وسارت حياتي بشكل طبيعي ، وأسرعت إلى عملي فرئيسي المباشر لا يتهاون في الأخطاء ، وكالعادة اخترت الميدان الكبير لأمر منه إلى محل عملي ، لا أعرف كيف سيكون يومي إذا لم أمر فيه ، أو أتنزه نزهة صغيرة لدقائق قبل الوصول إلى عملي ، خاصة أنه مليء بالخضرة وجميل وفيه متسع لكل واحد ، ورغم ذلك فهو( رائق ) .
دخلت إلى الميدان ونظرت إلى أعلى ويومها ازداد عدد المتثائبين واحدا .
لن أعود إلى المنزل ، وعلى أن أواجه رئيسي في العمل .
6_
لا يمكن أن أصدق ما حدث لي ، كيف هذا ؟ أكاد أجن ، بعد كل هذا العمر والانتظام في العمل أذهب متأخرا ، وبلا سبب ؟!!! لا يمكن أن أقول إن هذه الحادثة هي السبب ، لا يمكن .. لا .. لا . . لا يمكن . ولا يمكن أن أفكر في الرجوع فكيف سأقضي يومي بلا عمل ؟!! كيف تكون الحياة بلا عمل ؟!! لا .. لا يمكن أن أعود ، ولن أمر من الميدان الكبير مرة أخرى ، وسأقطع علاقتي به وأتخلى عن حبي له ، المهم العمل والانتظام والنظام .
الآن سأواجه مرؤوسيَّ بكل شجاعة وبكل ثبات ، وسأكمل عملي اليومي ، ولن أفصح أبدا عما حدث لي ، وسأتحمل كل ما يحدث لي ، ولن أرد على أي استنكارات ، ولن أهتم بنظرات اللوم والاستنكار ولن أكون واحدا آخر من المتثائبين .
هذا أمر عجيب يبدو أنني أول من وصل كالعادة ، ولكن الساعة تشير إلى وقت متأخر بما يقارب الساعتين ، هناك شيء غير طبيعي ، ما الخطأ ؟ ربما يوجد شيء لا أعرفه ؟ أو أن الساعة مخطئة ؟ أو أن هذا هو الوقت الجديد للعمل ؟ نعم نعم يبدو أن شيئا ما حصل للكون وأصبح الوقت ذا أبعاد جديدة ، على كل حال الجميع بدأوا يتوافدون ـ بعدي كالعادة ـ ماذا سأفعل الآن : أحاسبهم على الـتأخير ، أم أتركهم ؟ ماذا لو أن هذه هي التوقيتات الجديدة ، حينها سأبدو مغفلا ، وأكون آخر من يعلم ، الحل : سأترك الجميع على حاله ، على شرط أن يتخلوا عن مظاهر الكسل البادية عليهم ، وهكذا يبقى العمل على حاله .