رحلة العلامة من الصوت إلى الرمز (3/2)
د. محمد ربيع
رحلة رسم الأصوات الآتية:* ينطق الناس ألفاظ لغتهم بيسر وسهولة، منتقلين من نطق صوت إلى آخر ومن مقطع إلى غيره، دون أن يدركوا مقدار تأثر كل صوت منها بما يجاوره، قبله أو بعده، ومن غير أن يعوا مدى تشكل كل مقطع من الألفاظ تبعاً للمقاطع الأخرى فيه أو في الألفاظ الملاصقة له. إذ ينطقون مثلاً فيما يعرف في الدور الهجائي ب (النون)، غير متنبهين إلى أن المتكلم لا يمكن له بحال أن يأتي بهذا الحرف الممثل به في جميع الألفاظ المشتملة على النون بشكل واحد مطلقاً. بل صورة النون صوتياً في (نمر) تختلف اختلافاً جذرياً عنها في (يستنشق، عنبر، ينأى، ناظر، نداء، ينفجر، ينبر، نادي، من لا يدري، من رأى،.. إلخ). غير أن العقل (وهنا نتقاطع مع رحلة اللغة من العقل إلى اللسان) يعمد إلى معاملة صور النون كأنها سواء. وهذا الجزء من "الهجاء" الذي يدمج صور النون مثلاً في صورة واحدة هو الجزء المتحقق بالقوة لا بالفعل. أما المتحقق بالفعل صوتياً ويعجز الدور الهجائي عن نقله رسماً كما هو فيتمثل في صُوَر النون الكثيرة جداً، مظهرة ومقلبة ومخفاة ومدغمة، ومتأثرة بتفخيم الحركة أو ترقيقها التالي لها أو السابق عليها، وتكون درجة ترقيق الحركة أو تفخيمها خاضعة أيضاً للملاصق لها سبقاً أو لحاقاً، وهكذا. فإذاً ليس لدينا صوتياً نون حقيقية واحدة يمكن الاتفاق على صورتها ومن ثمَّ الاتفاق على رسمها، بل لدينا صور عديدة وتنوعات لها، كل منها في سياقه وفي مكانه من اللفظ.ومن أجل هذا التفصيل الذي تقدَّمَ فرَّق علماء اللسانيات اليوم بين (الفونيم phoneme) بوصفه الصورة (العقلية) للحرف عموماً في هيئته المطلقة غير المتحققة في الواقع، وهو ما يسمى ب (الحرف) كالنون مطلقاً والميم مطلقاً والباء، .. إلخ، وبين (الألوفون All phone) بوصف كل ألوفون تنوعاً واحداً من تنوعات الحرف لا يتحقق إلا في موضع محدد من كلمة ما معينة، وهو ما سمي قديماً عند بعض اللغويين العرب ب (الصوت) في مقابل (الحرف).والرسم الكتابي لا يمكن له بحال من الأحوال أن يفرد لكل (ألوفون) رمزاً خاصاً به. إذ من المحال أن يخصص لكل موقع تقع فيه النون مثلاً رمز خاص مخالف لنون أخرى في موقع آخر، فضلاً عن إمكان إدراك المتكلم الفرق الواضح بين كل تنوع وآخر. ولهذا لا تعترف الكتابة إلا برسم الفونيم (الحرف) فقط. فهي إذن لا ترسم ما ينطق فعلاً، بل ترسم الصورة العقلية المطلقة الجامعة لأسرة الفونيم بكاملها. وتخضع الكتابة في هذا الجانب لسيطرة قوة العقل الخفية في الجمع بين عدد من الصور الحادثة في هيئة صورة واحدة متخيلة غير واقعية. ومن المعلوم أن الرسم الإملائي العادي لا يسعف في تقديم الوصف العلمي الدقيق لأصوات اللغة، ولهذا تلجأ الكتابات العلمية التي تُعنى بتقديم وصف كامل مفصل لأصوات لغة ما إلى إملاء خاص باستعمال ما يعرف ب (الأبجدية الصوتية الدولية)؛ من أجل وصف كل ألوفون على حدة عن طريق تخصيص رمز خاص به.ويعجز الرسم الإملائي أيضاً عن تمثيل التنوعات الصوتية المصاحبة لأصوات اللفظ الرئيسة، كالنبر (Stress)، والتنغيم (Intonation) والترقيق والتفخيم، والتنوعات الصوتية اللهجية، والإمالة، والإشمام، والروم،.. إلخ. وقد تبذل الكتابة جهوداً مستميتة لسد هذا العجز، كاللجوء إلى علاقات الترقيم المبينة للوقف والاستفهام والتعجب ونحوها، غير أنها لا يمكن أن تنجح في ذلك بصورة نهائية. ولهذا السبب لم يكتف القراء في قبول القراءة الصحيحة بالقراءة من المصحف المكتوب، بل اشترطوا تلقي القراءة بالمشافهة؛ لعدم كفاية الرسم الكتابي مهما كان متقناً في نقل الهيئة الصوتية الكاملة للقراءة بمظاهرها المتنوعة المختلفة، مادام ذلك يتعلق بنص القرآن الكريم الذي ينبغي نقل تلاوته كما وردت وتليت صوتياً.لقد لحظ بعض علماء العربية أن الحرف الهجائي ليس هو صوتياً في مختلف المواضع التوزيعية التي يرد فيها مفرداً ومركباً، متقدماً حرفاً آخر معين أو متأخراً عنه، وإن كانت الصور جميعاً لا يمثلها غير رمز كتابي واحد. ومن نماذج النصوص الدالة على إدراك الظاهرة ما ذكره ابن جني من أحوال الحرف الساكن في كتابه (الخصائص)، وهو قوله: "الحرف الساكن ليست حاله إذا أدرجته إلى ما بعده كحاله لو وقفت عليه؛ وذلك لأن من الحروف حروفاً إذا وقفت عليها لحقها صويت ما من بعدها، فإذا أدرجتها إلى ما بعدها ضُعف ذلك الصويتُ وتضاءل للحس، نحو قولك: (اح اص اث اف اخ اك) فإذا قلت: (يحرد ويصبر ويسلم ويثرد ويفتح ويخرج) خفي ذلك الصويتُ وقلَّ، وخفَّ ما كان له من الجرس عند الوقوف عليه". (58/1). ومنه على سبيل المثال أيضاً ما أورده هو أيضاً في شأن الفروق بين أنواع الحركات التي لا تشبه الصورة منها في موضع الصور الأخرى التي تتحقق في المواضع الأخرى المختلفة. (انظر 336/3 337).إن ما سبق عرضه من المظاهر الصوتية الكثيرة التي يعجز الرسم الكتابي عن تمثيلها فيغيّبها قسراً بالضرورة يعد جزءاً فقط إلى جانب أجزاء أخرى مما تفقده العلامة في رحلتها من النطق إلى الكتابة. ولابد هنا من الإشارة إلى أننا نلحظ كذلك إلى جانب فقد أجزاء مهمة من العلامة في هذه الرحلة شيئاً من تغيير وجه العلامة وتبديل صورتها عن طريق كتابتها. ذلك أن الكتابة شبه ثابتة عند مستوى اصطلاحي معيَّن لشكل العلامة، في حين أن العلامة التي يمثلها ذلك الرسم الاصطلاحي متحركة متطورة بتطور النطق في المراحل التعاقبية عبر الأزمنة وفي مختلف الأمكنة. فيكون الرمز الكتابي في حقيقة الأمر ممثلاً لحالة نطقية محددة في زمن محدد في مكان محدد (أي: لغة أو لهجة مفترضة لجماعة معينة في وقت ما)، ثم يتجاوز النطق الصوتي ذلك إلى حالة أخرى في مقابل ثبات الرسم على حاله، فيمثل الرسم عندئذ حال اللغة في عمومها لا لغة جماعة محددة. ولهذا السبب ظهر إلى الوجود في إملاء لغات الشعوب كلمات لا يطابق إملاؤها نقطها. وهي ظاهرة حتمية مادام أمر النطق إلى تطور، ومادام المتكلمون ينطقون المفردة بطرق أو لهجات متعددة. أما إذا حافظ المتكلمون في نطق المفردة على اتباع مستوى مشترك معين متفق على هيئته (كمستوى الفصحى في العربية مثلاً) فإن فجوة عدم المطابقة بين الرمز الكتابي وما يقابله من الصوت تقلُّ قليلاً، وإن كانت لا تمُحى كلياً.ومع أن العربية بصفة خاصة قد يبدو عليها أنها بالنسبة إلى غيرها من اللغات، كالانجليزية مثلاً، أقل درجة في المخالفة بين حروف المكتوب وأصوات المنطوق، مقارنة بالهجاء الغريب لكلمات انجليزية مثل (right, debt, laugh, psychology, rough. night) والذي يسمونه (الهجاء المجنون)، ومع أن العربية في الوقت نفسه بالمقابل تحتاج في أكثر من موضع من هجائها المتسع من أجل تحديد الطريقة القريبة من النطق المعين الصحيح إلى أن تُكتب بالحروف اللاتينية التي تُرسم بها الانجليزية وبعض اللغات الأخرى، فإنها في حقيقة الأمر في هذه السمة على وجه الخصوص تحديداً تؤكد حقيقتين أشرتُ إليهما في السطور السابقة، إحداهما: ثبات المكتوب وسكونه في مقابل تطور المنطوق وحركته، والأخرى: قدرة المكتوب على التخفي وإيهام القارئ بصحة تمثيل ما ترسمه اليد لهيئة ما ينطقه اللسان. وسيكشف إيضاح ارتباط هاتين الحقيقتين باللغة العربية ملامح ما نحن بصدده هنا.إن نظام الرسم الإملائي المتبع في العربية يقود القراء إلى جملة من الأوهام الخاصة به، بالإضافة إلى الأوهام التي تؤدي إليها الكتابة عموماً في جميع اللغات. فهو إلى جانب اشتراكه مع غيره من أنواع الرسم الإملائي لسائر اللغات في مسألة الاقتصار على رسم الحرف لا الصوت، فيعدُّ لذلك السبب مغيراً وجه اللغة، وإلى جانب القصور عن تمثيل النبر والتنغيم والوقف.. إلخ، والاستعانة بدلاً عن ذلك بعلامات الترقيم والفصل أو الوصل الخطي بين المفردات، ونحو ذلك من الإشارات غير الوافية، ينفرد إلى جانب ذلك كله ببعض الخصائص الموهمة. إذ إن الإملاء العربي كما هو معلوم يعتمد على رسم الحروف الصوامت (Consonants) المكونة للجذر، ويتجاهل الحركات (الصوائت Vowels)، القصيرة منها بصفة شبه دائمة، والطويلة أحياناً. (وسأبين لاحقاً أثر هذا النظام في تشكل التصور المعين عند علماء العربية لطبيعة صوت الحركة نفسه من حيث هو صوت يدخل في تكوين بنية اللفظ). وبما أن الصوائت هي أكثر الأصوات عرضة للتطور والتنوع اللهجي فإن استبعادها من الرسم يسهم في استيعاب الرسم الواحد لكثير من التنوعات، دون تأثير في شكل المرسوم. وقد أسهم بلا شك ثبات المرسوم على هيئة مستوعبة عدداً من التنوعات اللهجية مع ثبات النموذج الفصيح للكلمة (أي: بوحدة نطق الكلمة على هيئتها المعتاد على نطقها بها في الفصحى) في قيام القارئ بسد النقص الحاصل في الرسم الكتابي بما يختزنه في ذاكرته من النطق الفصيح الموحد. هذا في حين يظن أكثر قراء العربية أن ما يتحقق لهم من تعرف على الصورة المنطوقة بسهولة لما يقرؤون إنما هو من خلال مجرد رؤية الرمز الكتابي دون تدخل من أطراف أخرى، مع أن الأمر في حقيقته لم يكن على هذا القدر من السهولة إلا عن طريق اختزان نموذج موحد معتاد عليه في المستوى الصوتي المنطوق، متعارف على طرق انتقال النبر بين المقاطع واتصال أجزاء الكلمات بعضها ببعض وبأجزاء الكلمات الملاصقة لها أو انفصالها عنها. ولذلك يجد الكاتب صعوبة في كتابة النص العامي، ويجد قارئه قدراً مماثلاً من الصعوبة في التعرف على النطق العامي الصحيح في لهجة ما محددة لما يكتب، وربما احتاج القارئ والكاتب على السواء إلى رموز كتابية إضافية تعين على تقريب الصورتين الواحدة من الأخرى. وليس ذلك إلا بسبب غياب الصورة المسموعة الموحدة.قد تجد مثلاً كلمة على وزن لا يحتاج في الفصحى إلى ضبط بالشكل؛ لأن له في الأذهان صورة لا يشركه فيها غيره كوزن (مفعول) بفتح الفاء وسكون العين، ولكن بلهجة عامية محلية، فلا يُدرى كيف تُنطق حتى يضاف إليها من الحركات ما يوضح نطقاً ما أو نطقين أو أكثر لها. فنحو (محبوب) تُنطق في بعض اللهجات كالفصحى، وفي لهجات بالبدء بالساكن، وفي لهجات بالابتداء بما يشبه همزة الوصل، وفي لهجات توصل بنحو همزة الوصل إن هي التصقت بكلمة قبلها. ففي عبارة (الطفل محبوب) يمكن تقريب نطق بعض اللهجات برسمها (الطفل امءحَبوب) بتحريك اللام وتسكين الميم وفتح الحاء. مع الأخذ في الحسبان أن حركة اللام ليست فتحة خالصة ولا هي بالكسرة الخالصة. وهمزة الوصل يُستغرب رسمها في مثل هذا الموقع، ولكن لا يمكن تصور المنطوق بغيرها. وهكذا. وهذا يبين أهمية تأكيد صعوبة كتابة العاميات المحلية لفقدان شرط الاتفاق المسبق على الهيئة الموحدة للنموذج الصوتي تبعاً لتعدد النماذج واختلافها باختلاف الأقاليم. ويكشف من جهة ثانية أن ذلك نابع من أوجه النقص التي تحيط بالمستوى الكتابي في تمثيله للمستوى الصوتي، وأن سبب عدم الإحساس بأوجه النقص تلك فيما نقرؤه بالفصحى هو أن المسكوت عن رسمه في الفصحى مائل في العقول متصوَّرٌ في الأذهان.أما التباعد بين صورتي المنطوق والمكتوب في اللغات التي تعتد برسم الحركات الطويلة والقصيرة (الصوائت) فواضح أن الفروق اللهجية والتطورات النطقية التي تصيب الصوائت في المقام الأول هي المسؤولة عن سرعة المباعدة بين المستويين. هذا إلى بعض التطورات الطبيعية التي تصيب بعض الصوامت اختفاءً وظهوراً وتغييراً بسبب إتاحة الفرصة لتداخلات لهجية بصورة أسرع مما يحدث في العربية. يقابل ذلك وحدة في التمثيل الكتابي كما مرَّ.ولعل فعل وهم الكتابة المنوَّه عنه أعلاه، والغفلة عن إدراك حتمية خداع الكتابة وعدم وفائها بما يبدو ظاهرياً أنها تفي به، واستحالة مطابقة المنطوق للمكتوب مطلقاً، قد غاب أغلبه عن أذهان الداعين في أواسط القرن العشرين إلى إصلاح الكتابة العربية عن طريق إضافة رموز خاصة بالحركات في ضمن الرموز الرئيسة للفظ أسوة باللغات الأخرى. ذلك أن عدم إدراج الحركات القصيرة في ضمن رموز الكلمة في العربية، مع ماله من عيوب ظاهرة، يحقق لها ميزة تفتقدها اللغات المعتدة بإدراجها، هو قدرة الرسم الواحد على استيعاب تطور النطق دون تغيير، هذا إلى تمكُّن الكاتب من كتابة الكلمة دون حفظ هجائها المعين مثلما يحدث في الانجليزية. ويحقق هذا النظام الإملائي قدراً من الإيجاز والاقتصاد؛ إذ يمكن اللجوء إلى إثبات الحركات القصيرة فقط عند خوف اللبس وتركها عند أمنه. ثم إنه تبعاً لقيام العقل بحفظ نموذج معين للحرف (مكتوباً أو منطوقاً) في وضع ما وتعميمه له في الأوضاع الأخرى يستحيل أن تتفق صورة المكتوب مفرداً في موضع وموصولاً بغيره في موضع آخر في جميع الأحوال؛ فلذا لا يمكن القول بالمطابقة على إطلاقه حتى لو تطابقت الصورتان في أحد هذه المواضع. لو نظرنا إلى رسم الياء في كلمة (في) إذا قلت: (في بيتنا)، فإننا حتى على فرض مطابقة الرسم للياء المنطوقة قد نجدها في قولنا: (في البيت) لابد أن ترسم مع أنها لا تنطق (إذ يكون النطق بفاء مكسورة بعدها لام ساكنة، أي: فلءلَبيءت)؛ حيث لا يقبل العقل إلا تصوراً واحداً يعممه على جميع المواضع، فإن طابق في مرة خالف في أخرى. ولهذا يمكن أن نقول: إن ما نقرؤه في أحيان كثيرة إنما هو المختزن في العقل لا المكتوب في الورقة.ومن صور الحيل والخدع التي تميل الكتابة إلى إيقاعنا في شباكها دوماً وقد أوقعت في مثلها أسلافنا القدماء كما سيأتي تضليلنا أحياناً عن معرفة موقع الصوت الذي تمثله بالنسبة إلى غيره، أو تحجب في أحيان أخرى عن أعيننا الرؤية الكاملة والمعرفة الصحيحة لطبيعته وخصائصه. فإننا لو تأملنا نظام الرسم في العربية الذي يغفل رسم الحركة منفردة ويضعها فوق الحرف أو تحته لوجدناه في واقع الأمر مسؤولاً عن إيقاعنا جميعاً في قدر غير يسير من اضطراب الرؤية وضبابيتها فيما يخص المعرفة الحقة بترتيب الأصوات التي تشتمل عليها المفردة العربية، والوعي بطبيعة الصوت من حيث كونه أحد مكونات بنيتها. وسيأتي بيان ذلك في الحلقة المقبلة.