الأدب والفن بين التأصيل والتأسيس
أنموذج الفن الروائي منهاجا ورصيدا
سعيد الكرواني/المغرب
إن ما ينبغي أن تعتمده الرواية الإسلامية من أبعاد فنية وجمالية وموضوعية لا يجدر إلا أن تمتاح من عدة مناهج تصب في المنهج الشمولي الذي سأحاول تبيين معالمه من وجهة نظري المتواضعة .
و يتعلق الأمر بمناهج ثلاثة وهي:
ـ رؤيا العالم لـ "لوسيان غولمدمان" بالنظر إلى إغراء العنوان وإيهامه ، فضلا عن تقاطعه مع غيره من الرؤى .
ـ والبنيوية عموما على اعتبار قضية إرداف الخاص و العام في الصعيد ذاته .
ـ الإيماء إلى المنهج الجنسي الذي عمت به البلوى ، مما لا ينبغي أن يعني أبدا أن كل ما تعم البلوى به قد يقبل عند الجميع.
ولم أقتصر على تلك المناهج إلا لأنها كافية في نظري لبسط المراد بالنظر إلى العموم والخصوص الكائن بينهما بله التشابك بين رؤاها.
لأقبل ـ جزءا أو كلا ـ ما حقه القبول، وأرفض ما حقه الرفض حسب ما نتصور أنه المنهاج الإسلامي في الفن و الأدب.
أما عن "غولدمان" فـ"سيقال: إن الأمر يتعلق بفكر لا إنجازي، لكن أي فكر لا يبدو كذلك يظل فكرا إلى آخر المطاف دون أن يصبح أيديولوجية؟
إن سوسيولوجية الأدب عند "غولدمان" ليست وصفا فحسب أو نقلا لألفاظ واضحة أو رمزية ضمن خطاب آخر، خطاب تجريدي، ولكنها البحث الصعب الذي يرمي إلى مواجهة ذلك التباين المتباعد دوما عن تجديد يصاغ وراء الأفكار المعبر عنها قصد إثبات هويته" .
حتى إذا حصل الاتفاق في الوضوح والرمزية بين المنهج العربي ورؤية العالم في هذا الصدد، فإن الاختلاف حول المذهبية الماركسية يعد ضربة لازم.
بمعنى أنه إذا كان هناك التقاء بين هذه الرؤية والنظرة الشاملة إلى الله جل جلاله، والحياة، والأحياء في تصور الأدب الإسلامي ذي المنهج الشمولي، فإن الاختلاف وجب حقا على مستوى العقيدة أو المذهبية إذا جاز أن نستعيض بها عما يسمونه اصطلاحا بالأيديولوجية . ذلك بأن الماركسية غير الإسلام، ويختلفان اختلافات جوهرية معلومة أبرزها النظرة المادية الصرف إلى الأشياء ؛ وإلا فإن الإسلام يشمل المادة والروح معا.
على حين لا حرج علينا أن نقبل الوضوح باعتباره عاملا مشتركا بين المنهجين ، بل قد يعد من الناحية الموضوعية روحا لمعطيات الفن الإسلامي عموما بالنظر إلى قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم) ؛ مما لا يعني أن الرمز الشفاف المستسلم للقارئ بله الناقد بمفاتيح مضيئة سياقا وسباقا مما يدعو إليه الأدب الإسلامي المعاصر .
و أما عن البنيوية وما بعدها والقصور البادي فضلا عن عدم البراءة الشكلية، فإن ذلك كله يدعو إلى التثبت قبل الإفادة من هذه المناهج على وجه العموم، إلا ما استيقنا أنه لا يخالف ما ندعو إليه في الشكل والمضمون، أو الفن والموضوع.
ثم ألا يجدر بنا أن نستنبت المناهج في أرضنا ؟ لماذا ـ إذاً ـ الجري وراء الآخرين حتى فيما لفظوه ، واكتشفوا غيره كمثل ما بعد البنيوية ، مع العلم أن "ما بعد" هذه عندهم تفيد نسخ ما قبلها ، على حين يصر بعض ذوينا على اجترار قديمهم رغم أنف الحداثة التي إليها يدْعون.
ومع ذلك لا بد أن نقر أن للاستنبات والاستنباط أصحابه من أهل الذكر، لأن المجال فتح ـ وينبغي أن يبقى مفتوحا قابلا للاجتهاد المحفوف بالخطأ والصواب ـ لمن يحسن ولمن لا يحسن حتى إن بعض الإخوة كتب كتابا أراد أن ينتصر فيه لنظرية النظم معتمدا إياها في النقد الأدبي، وكان موفقا في الجانب النظري، إلا أنه مع الأسف أخفق إخفاقا ذريعا في مستوى التطبيق حيث طفق في دراسة النصوص بطريقة مسمارية ـ سمّها إن شئت ـ أو هيروغليفية معمورة بالدوائر والمستطيلات والبيانات وما إليها مما يفقد التواصل ويغيب النظرية المدعاة .
هذا بعض ما عنّ في هذه السانحة عن التأصيل ذي العلاقة بدراسة المناهج جميعا ونخلها حتى يتسنى الرفض أو القبول. وقد اكتفينا بالإشارة السريعة إلى العنوانات الثلاثة من بنيوية، وبنيوية تكوينية، ومنهج جنسي لدِلالتها على غيرها.
أما القصد من التأسيس كما هو معلوم عند أهل هذه الصناعة فإنه ليس كصنوه التأصيل ، ذلك بأن التأصيل هو البحث عن القواعد مجتمعة أو متفرقة لإسناد أحد الموضوعات ذات الأهمية ، في حين نجد أن التأسيس يحاول إعادة إنتاج المعرفة قصد إضافة معينة أو تجميعا لشتات مجموع من المفردات المتفرقة بطريقة مبدعة لإعادة تركيب المعنى الجديد المراد.
بناء على هذا فإن التأصيل يقتضي منا أن نبين عوار المناهج التفكيكية جميعا إذا ما طبقت في المجال الأدبي والفني، فكيف إذا استثمرت في محاولة إيجاد الاختلاف في القرآن الكريم وعلومه؟
و من أعجب ما قرأت في هذا الصدد حوارا لأركون وأدونيس في مجلته مواقف حيث اتفقا على أن النص الثاني ـ بزعمهما ـ يشوش على النص الأول ـ كأن لهما غيرة على القرآن الكريم ـ ولكن حقيقة الأمر تفصح عنها سفسطتهما المسماة بالعلمية والموضوعية ، حيث طفق يكيل المدح أحدهما للآخر ، وتعجبا كيف اتفق كل على حدته على هذا الأساس من موقعه أو معركته كما يحبان أن يدّعيا.
اتفقت كلمتهما على أن قول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْءَانَ، خَلَقَ الاِنْسَنَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) ، كما في النص الأول ، حتى إذا قال النص الثاني: "إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْراً" ، إذاً فالقرآن ـ بوساطة العلاقة المتعدية ـ سحر ، و ها نحن أولاء ندعو بدعوى الجاهلية الأولى من أن القرآن سحر أو شعر أو كهانة أو غير ذلك كما يخرصون.
والملحوظ أنهما يقصدان المعنى الحقيقي لا المعنى المجازي الذي يشير إليه الحديث الشريف ، هذه واحدة.
أما الثانية فإننا نقول لهم: حين تريدون إزاحة النص الثاني ليبرز التناقض على أشده في النص الأول، وتذهب أسباب النزول وما إلى ذلك من علوم آلية مساعدة، فإنكم تفعلون دون حياء. وحين تريدون أن تعتسفوا على النص القرآني تستخدمون ما تدعون إلى عدم الاتكاء عليه.
و إلا فمن من العلماء والأدباء والمهتمين من يصدق خرافة قتل الكاتب بما توحي به من أبعاد ذات خطر كبير على رؤية الفن الإسلامي عموما؟
كما كثر اللغط وتعددت المناهج التي لا تستحق مجرد الحديث عنها لولا الضرورة الملحة في كشف فساد بضاعة القوم ومن تبهعم.
فهناك منهج يدعى المنهج الجنسي/ Erotique، واسمه دال عليه ، وقد تم اعتماده في الشعر فضلا عن الرواية ، ونحن لا نستحيي في نبذ مثل هذه الإبداعات الزائفة المزيفة التي تحب أن تشيع الفاحشة في الناس . وإن كنت أقارع أصحاب هذه الدعايات، فإني أعجب لمن اتبعهم ظنا منه أنه يناصر الإبداع.
فقد سبق أن كتبت شيئا عن نجيب الكيلاني- رحمه الله تعالى - فأبنت عن بعض الصور الخادشة للحياء حيث صورها بقلمه الجميل ، إلى الحد الذي يدغدغ شعورك ، فانبرى لي أحد الإخوة الذي أصر ألا يكتب عني شيئا بعد إلحاح إلا مدافعا عن الصور الغريبة التي لا تليق بالأدب.
هنالك ظهر لي أن أسر إليه ومن معه أن الفيصل هو عدم قدرة تصوير بعض الروايات سينمائيا، وإلا فإن الدعوة إلى الأدب ستكون لاغية.
وبالصدد ذاته أحب أن أقول: على الأدباء أن يولوا وجوههم شطر السينما والمسرح ناقلين فنون وموضوعات الروايات والقصص، كما يطالبون المسؤولين بربط التعليم بالشغل.
ثم إني سائل هذا الأخ ومن معه: هل بالإمكان قبول نقل رواية فيها لقطات جنسية خادشة للحياء؟ وهل يسوغ للممثلين أن يقوموا بما يقوم به غيرهم خاصة إذا كانوا ملتزمين، هذا بغض النظر عن الخلاف الحقيقي حول اللباس الشرعي وظهور المرأة على خشبة المسرح أو السينما سيان؟ وإن كنا نرى بأن مسرح الحياة الكبير لا ينبغي أن يختلف عن الخشبة أو السينما إيمانا والتزاما واحتسابا ، فالحلال مسوغ فيها جميعا، والحرام حرام فيها جميعا .
وعودا على بدء؛ إن المنهج الشامل والمتكامل يقتضي منا جملة من الأعمال في النظر والتطبيق حتى يتأصل على أساس متين، وذلك بعد تركيم العديد من الروايات ذوات القيمة الفنية العليا في الأشكال والمضامين من حيث وجب على الكتبة في هذا المجال أن يستفيدوا من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ومن طرائق الروائيين الغربيين خاصة في الجوانب الشكلية البريئة التي تنتصر للفضيلة وتخاصم الرذيلة والإباحية.
وعلى الناقد البصير الذي لا يجامل ولا يحابي أن يبين كيف أنه من العار أن نتحدث عن الكيلاني- رحمه الله تعالى- بما هو فارس الرواية والقصة حقا ، مثله في ذلك كمثل نجيب محفوظ - رحمه الله تعالى - في الرواية العربية بما حققاه من ركام مكنهما من المكانة التي يستحقانها عن جدارة وتحقيق؛ مما لا يمنع أن أعمالهما في حاجة إلى المزيد من النقد والتمحيص.
على حين لم يكتب عماد الدين خليل إلا رواية تاريخية واحدة لا يمكن معها أن تدخله في عداد الروائيين بما أنه أدلى دلوه في كثير من التخصصات أحسن في جلها. الشيء نفسه فيما يتعلق بفريد الأنصاري رحمة الله تعالى عليه حيث كتب كتابة صوفية لا ترقى إلى مستوى الرواية المنشودة ، حيث اشتبهت كتابته الصوفية شعرا ونثرا ورواية لا تكاد تميز بينها الذائقة الأدبية النقدية .
في الختام أحب أن أهمس في أذن المهتمين بأن قصة يوسف عليه السلام والقَصص القرآني جملة، ومحطات من السنة والسيرة، وبعض من روايات الغرب تحت مظلة الإسلام الظليلة القائلة بالكلمة الحكمة، وكيف أنها ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها وأحق، قمينة برفد التصور الشامل المتكامل الذي نصبو إليه في تأسيس وتأصيل الرواية الأدبية إبداعا ونقدا وتنظيرا؛ وإلا فلا شمولية أو تكامل، ومن ثم فلا إبداع!