الومضة الشعرية.. كتابة مختصرة لحياة مختصرة قراءة في البوح الأنثوي اليمني
عمار زعبل الزريقي
الخميس 28 يونيو-حزيران 2012
لأن الحياة تتقدم وتتسارع، فكذلك اللغة وإبداعاتها في تطور ومواكبة فإبداع الإنسان يتطور بتطور حياته.. والشعر هو المعنيّ هنا في هذه المقاربة التي نسقطها على الواقع الشعري اليمني في جانبه الأنثوي الصارخ، الذي يؤمن إيماناً خالصاً بالحركة والإبهار، يبتعد اليوم في تنوياعته عن الجمال الجامد، والطبيعة الصامتة ويتحرك مع الحياة صوب الحرية والانعتاق...
والشعر الحر، أو قصيدة النثر بالأحرى”free verse” وهو الشعر الحر الطليق وهو آخر ما وصل إليه الارتقاء الشعري ..فكان المتنفس الكبير للخطاب الأنثوي اليمني لما تحمله من تنوع وإثراء في التكنيك الشعري ..والذي منه الومضة أو الدفقة الشعرية والتي ظهرت كتعبير عن روح العصر، الذي صار كل شيء فيه مستعجلاً وسريعاً وكأنه ومضة خاطفة لا تدوم طويلاً، ولكن أثرها يبقى مشعاً لأنها تعبر عن رؤى الشاعر وعالمه مهما تعقدت تلك الرؤى ومهما تعددت الألوان والملامح...
وعندما نمعن البحث في أركيلوجيا النص الأنثوي اليمني ونفكك معطياته لنكشف عن البؤر الجمالية والدلالية لنكشف عن مدرك ووعي اشتغالات النص الحديث نجد الومضة الشعرية حاضرة وبقوة في المنجز الإبداعي مع خاصية التكثيف والتصادف الملغز والمفارقة...
فهذه سوسن العريقي في ديونها “أكثر من اللازم” نجد العلاقة واضحة بين الذات الأنثوية وبين الكلمة المبدعة تتمثل في لحظة شعورية حيث تقول في “الجسد الومضة”:
تفيأت في رحاب حلم
مد ذراعيه وحيداً إلي
الشهقة تهيئ
للمسافات التصاقاً
يحقق، يمطر
تداعيات مزهرة
فأنها ومضة تستنطق الذات في رعشة خاطفة كالبرق اختصرت مسافات متباعدة في لحظة من لحظات حلم، ولقد أنجزت الشاعرة في ومضتها كثافة الإيحاء وقدرت الومضة أن تشع وميضاً سحرياً اتقد في لحظة خاطفة في أرجاء الروح والبوح، واستجابت لها النفس أو الذات في تداعياتها المزهرة...
وعند رحلة الذات والحفر فيها لإخراج الجمال الكامن فيها وتحويل الكلمات المنبعثة إلى إحساس وشعور فيه ربما من البوح والجنون معاً.. لحظات ترتفع فيها الأنوار ساقطة على البياض، متمردة على الممكن واللاممكن، فالشاعرة هدى أبلان في “نصف انحناءة” تعلن ذلك وتصور لقطتها المشعة لتعبر عن ذاتها نحو الآخر وربما كينونتها نحو الوجود:
أنا جمرة
أطفأني الله في ماء عينيك
وخلفني دخان
لتقرر وجودها الملتصق بالآخر ومعانتها ومكابداتها في إيجاد كينونتها التي ضاعت منها فغيرت عن ذلك متحدية”أنا” ومعلنة وجودها على رغم محاربة الآخر لذلك ..وهناك بعد دلالي آخر فيه من التضاد بين التوقد “جمرة” والانطفاء وإن غدت دخاناً ربما تذروه الرياح رياح الرجل ومن مخلفاته...
وكثيراً ما تلجأ الشاعرة اليمنية إلى الوميض النصي أو الاشتعال البرقي بأن تجعل النصوص متقدة فتوفر مساحة للحركة التأويلية وهو البحث عن نقاط التفاعل بين المنشئ أولاً الذات الأنثوية التي تستفز كل حواسها فتظهر كأنها حاملة لآلة تصوير فتلتقط لنا الصور متتابعة تحصي لنا زوايا الرجل المتلقي ثانياً فتظهر براعتها ومهارتها في الالتقاط فهذه ابتسام المتوكل تقتنص صورتها متكئة على كاميراتها الحساسة فتلتقط التفاحة من فيه رجل:
تفاحة
تعلمنا السقوط
تفاحة تكشف أسراره
لكن رجلاً
كل تفاحة
يسجنها فيه
وهي صورة التفاحة التي تعيد المتوكل التقاطها بدفقة شعورية واحدة قامت على فكرة واحدة قام عليها النص كله واتسمت بالاختزال وبفلاش قصير تشكل بلمحة واضحة وسريعة...
إنه القلق قلق الحياة، الوجود،الخوف، الشقاء، الآخر، من مفردات الخطاب الأنثوي يتكثف كثيراً في ضغط المفردة إلى حدودها القصوى”كنت لي” نص لنادية مرعي في أزاهير العطش ..يظهر ذلك التكثيف في دفقات متتابعة ومنصهرة معاً:
زوبعة
نار
بركان شقاء
ما استطعت ...عني ابتعد
إنه حينما ابتذر الرب
في الخلق فطرية
كنت لي
صورة واضحة للعلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة وما تختزل من مفارقة ما يعتمل في الذات الأنثوية من متضادات ومفارقات تكثف من الحالة الشعورية زوبعة وهي الريح التي تثير الغبار،وترتفع نحو السماء صورة معبرة تتعالق مع النار والبركان وما إلى ذلك من الإحساسات نحو الرجل في لحظة عارمة من القلق والشعر كما قلنا قلق وخوض معركة قد لا تنتهي إلا بانتهاء الحياة فهو ينتصر حيناً حين يعود من قلقه، إذ هو تعاطف مع الوجدان وتعالق مع الأفكار المنبعثة من الأعماق”بركان شقاء” ما استطعت ..عني ابتعد.
فنلاحظ أن مثل هذه النصوص التي تحمل الدهشة وتركز على المعاني معتمدة على الإيجاز الحافل بالمضمون والرمز الذي يقبل التأويل فهي قصائد دائمة التخلق بقابليتها على التحرك في الزمكانية بسبب طاقتها الفاعلة المكتنزة بديناميتها والمتولدة في ذاتها النصية كي تستفز العقل وتنبش المكنون الفكري للمتلقي فنجد أنفسنا في معركة لا متناهية من الكلمات في سبيل إثبات الكينونة.. فقصيدة الومضة جاءت سعياً لكسب معركة التلقي وإثبات الذات الأنثوية المبدعة وإن كانت المعركة في زمن عزف الناس فيه عن القراءة فهذه الشاعرة المبدعة ليلى إلهان في ديوانها “قليلاً ما أكون” نرى الاكتمال والنضج من خلال صمت نصوصها وضجيج دلالتها في الوقت نفسه فهي تعمل وفق ميكانزيمات لغوية تسيطر عليها مثل سيطرة الرسام المتمكن على حاملة ألوانه فيعمل في بث الروح والضوء على لوحاته...
الوجوه التي غادرتني
ذات مساء
هي الأخرى
لاذت بالموت
إنها عدسات قد ثبتت في كثير من الزوايا فتظهر صور متعددة على المخيلة في صنيعة ومضات”وجوه” تغادر ذات مساء وذلك اللوذ والارتماء في أحضان مجهول التقطته الصورة المتمكنة والخاطفة كالموت نفسه فاستخدمت الشاعرة المفردة المعبرة عن المعنى الذي يدور في ذهنها عن الأشخاص الذين غادروها ولم يشكلوا علامة فارقة في حياتها وهو نوع من المواجهة للفوضى الحياتية التي ربما تعيشها الذات الأنثوية في وسط جحيم ذكوري يتسلط عليها بشخوصه وطقوسه المتمكنة هنا بالموت والعدم وهو نوع من الاحتجاج الذي سار عليه الديوان كله ليعطي صورة موحية عن البوح الأنثوي في اليمن وهو يعيش صراعه مع الحياة في صور متلاحقة أكثر حضوراً وإبهاراً في مشهد البوح الانثوي اليمني...