تغريبُ النَّص الأدَبي العَربي وَحُمَّى الْمَنهَج النقدِي
أكيد أن الوهم النقدي الشائع حول النص الأدبي والمنهج النقدي، قد نال من مسيرة الحركة النقدية في البلاد العربية نيلاً شنيعاً وعنيفاً، ويكفي شاهداً ودليلاً على هذا القول، ذلك الخلط والإلتباس الذي دبَّ سريعاً في جسد العديد من الكتابات، التي يحسب أصحابها أنها تنبض بحياة النقد الأدبي، في حين أنها مخنوقة بصنيعهم، فلا هوية بقيت من نصيبها، ولا ماهية فضلت من حظها على الساحة الثقافية، فكيف يا ترى سيجيب من أضاعوا النص الإبداعي العربي وغربوه، وأتلفوا المنهج النقدي وشوهوه، إذا ما الحياة النقدية في بلادنا العربية سئلت بأي ذنب وئدت..؟
إن كل من له غيرة شديدة وصادقة على الروح الإبداعية في سائر العالم العربي، لا شك أنه يطمح إلى تكسير ذلك الوهم النقدي، الذي استنزف كثيراً من الجهود هباءً، إذ متى كان المنهج النقدي من طينة، والنص الإبداعي من طينة أخرى مغايرة..؟ وبأي يقين ينادي البعض بإقامة قطيعة إبداعية بين العمل الأدبي والمنهج النقدي المعتمد لقراءته..؟
هذا سهم منبعث من قوس المتاهة الوهمية، التي اطمأن بها وسكن إليها كثير من نقاد الأدب العربي القديم والحديث على حد سواء، منذ زمن غير بعيد، حتى أن معظم إفرازات الحركة النقدية موشومة وملغومة بآثار تلك المتاهة، التي حان وقت اقتلاع جذورها الواهية، واجثتات شجرتها التي ما لها من قرار، لأنها بدءً وانتهاءً زبد سيذهب جفاءً آجلاً أم عاجلاً، ولا يسع متتبع الحركة النقدية في البلاد العربية إلا أن يحسم بهذه الحقيقة أمر جدال طال واستطال بغير طائل.
ثم إن لكل ذي بصيرة الحق في أن يسأل عما إذا كان النقاد العرب المحدثون يضعون نصب أعينهم، عند كل ممارسة نقدية، الأسئلة النصية والمنهجية ..؟
من المؤكد أن الإجابة على هذا السؤال ستكون بالنفي، إذ أن كثيرا من الأبحاث والدراسات، وكذا الإسهامات المقالية الموصوفة عادة بالنقدية، تعتبر شاهد إثبات على ما يعانيه وجه النقد الأدبي العربي الحديث من شحوب وتجاعيد دامية، ومن أجل إشراقة نقدية عربية، لا مفر من المناداة بصحوة نقدية متميزة وفاعلة، ولتحقيق هذا الحلم الجميل، يجب أن يمتد الحوار وتتسع دائرته لتشمل كل الطاقات المعنية والمنشغلة بواقع النقد الأدبي العربي الحديث، والطموحة إلى ميلاد إشراقته المرتقبة، وإلى تحقيق حياة ثقافية غير مستعارة، نابعة من رؤى إبداعية واعية، ولها من المناعة الذاتية اللازمة ما تميز به السليم المعافى من السقيم المعتل.
كفانا تغريباً للنص الأدبي العربي .. كفانا هذياناً بحمى المناهج النقدية الغربية، فقد غدت الممارسة النقدية في البلاد العربية مسكونة بكل ما هب ودب من الملفوظات .. لا أدعوها بالمصطلحات .. لأن المصطلحات لها تاريخ وجذور ودلالات قائمة الأركان، فنحن نرى اليوم أن من (النقاد) ما لا هم ولا انشغال له سوى التهافت على الإستهلاك الساذج للمفاهيم الغربية، والهضم العسير لما يفد على الساحة النقدية العربية من تراكيب أجنبية مزجية وغير مزجية .. عار هذا الصنيع وقبيح مشين...
فما الذي حدث يا ترى..؟ لقد أتى على الحياة الأدبية العربية حين من الدهر، ولى مع مضي السنوات السبعينية، كان لها فيه صيتا قويا وذكراً مذكوراً، باعتبار ما تم من المحاولات المكثفة والجادة، من أجل إرساء أرضية متماسكة، تقوم عليها نظرية أدبية نقدية عربية، وقد شكلت هذه الغاية الهاجس الأساس، والقلب النابض للإرث الأدبي والنقدي العربي.
فما الذي حدث وأناخ بكلكله على الحركة النقدية العربية، حتى تخلفت عن المسير، وضاعت بين ركام الضوضاء أغلب خلاصاتها الشرعية..؟
سؤال محموم وخبره معلوم، ما دامت طائفة كبيرة من (نقاد الإبداع الأدبي) قد تنكرت لأهم مكونات ودعائم الحياة النقدية العربية الحديثة الأصيلة، وتجاهلت نصيحة أو على الأصح استنكار الشاعر أبي العلاء المعري، إذ يقول:
وقبيح بنا وإن قدم العهـــــــــــــد * هوان الآباء والأجـــــــــداد
سر إن اسطعت في الهواء رويداً * لا اختيالا على رفات العباد
ثم إن ذات الطائفة انصرفت عن إنتاج المناهج النقدية العربية وتطويرها، وأقبلت على شحن (أعمالها النقدية) بإفرازات مدارس النقد الغربية، فساء حال نشاطها بهذا الداء لضعف مناعتها الثقافية، ولما ضنت على شفائها بالدواء، صارت فريسة سهلة هينة لظاهرة شاذة، لن أكون مبالغا إذا ما دعوتها "الغزل الإصلاحي العقيم"، لأن بالفعل ثمة من النقاد من يتغزل بالملفوظات الغربية تغزلا عقيما، على الرغم من كونها لا تمت للوسط الإبداعي العربي بأية صلة، فترى (الناقد) المتغزل منهم يحشد ما امتدت إليه ذاكرته من تراكمات اصطلاحية .. متراكبة متنافرة، ثم يظل يقحمها بوجه وغير وجه أو مناسبة في ما يخط بيمينه، من مبتداه إلى منتهاه، وكل رجائه أن يظهر بالمتميز المتعالي أمام غيره في اللقاءات والنوادي الثقافية، متناسيا أن اللغو هدر وعبث، وأن الثرثرة منعدمة الجدوى والأثر الفاعل، وأن هذه الحال من قبيل الرداءة والهزال.
وهل يعقل أن يقال غير هذا في أعمال ينفر قلبها من قالبها، وأحاديث تضيق روحها بمنطوقها ..؟ بل بأي وجه سنلتمس العذر لـ (ناقد) يلقي بوابل من الملفوظات الدخيلة، بعضها يمسك عنيفا برقاب بعض، فإذا بها تلفظ خلقا غريبا مشوها، لا يعترف له النقد الأدبي العربي بأصل، ولا يقر له بمقام ..؟
وحتى تتحقق للحركة النقدية العربية صحوتها المنشودة، وهويتها الإبداعية المتكاملة، لا بد من حوار متواصل بين ذوي التخصصات .. حوار يجمع الأديب، والناقد، والمؤرخ، واللساني، والمسرحي، والسيميائي وغيرهم، ثم لا بد من إضافة جد هامة، يمكن إيجازها في ضرورة الحوار الذي يجب أن يجمع كل من ذكرنا سلفا بالقارئ المتلقي، وما نستشرفه في المستقبل القريب، هو أن تعود إلى الواقع الأدبي والنقدي العربي ملامحه ومعالمه الأصيلة، وأن يسترد وضعه ومكانته وحجمه الطبيعي.
عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
السندباد