مانديلا.. رمز إفريقيا في كل العصور (4).. لحظة تحدي العنصرية PDF طباعة إرسال إلى صديق
الاثنين, 19 أغسطس 2013 17:47
..ليس من السهل التوفيق بين النضال السياسي والوظيفة لأن مانديلا بعد حصوله على الإجازة في القانون في حاجة إلى تدريب في مكاتب المحامين التي يحتكرها البيض، وفي ضوء هذه الممارسة اكتشف بأن تلك المكاتب “كانت تفرض رسوما على زبائنها الإفريقيين في القضايا الجنائية والمدنية تفوق بكثير تلك التي تفرضها على زبائنها البيض”..
أ ـ ميدان الحرية أو “فريدام سكوير” في جوهانسبورغ:
لاشك أن سقوط الدكتور”زوما” في انتخابات رئاسة المؤتمر الوطني الإفريقي الذي كان يفضل النضال في إطار القوانين السارية المفعول، بينما رابطة الشباب استطاعت أن تحول الحزب إلى حركة شعبية برئاسة الدكتور “دجيه أس موروكا” لأن الحزب الوطني الحاكم تجاهل المطالب التي تدعو إلى إلغاء القوانين العنصرية، فنظم الدكتور موروكا تجمعا في “فريدام سكوير”، ميدان الحرية لتحضير التحرك الجماهيري، وتحدث مانديلا لنقابة عمال النسيج لمواجهة عنف السلطات بغير العنف لضمان نجاح العمل السياسي على طريقة الماهاتما غاندي أي “الستياغراها”، وهو المنهج الذي يسعى لتحقيق النصر من خلال الإقناع. إن هذا الأسلوب في العمل يتحرك بثقافة التحدي لأن “قوة الدول في مثل هذه الحالة تفوق بكثير قوتنا، وأي محاولة من طرفنا في استخدام العنف ستقابل بالسحق وعليه أصبح اللاعنف ضرورة عملية أكثر منه خيارا نفضله”، وأيدهم ابن غاندي مانيلا لـ “رئيس تحرير صحيفة” إنديان أوبنيون ومن أبرز أعضاء المؤتمر الهندي الإفريقي في جنوب إفريقيا.
إنطلقت حملة التحدي كمرحلة أولى على مستوى الأفراد بعدم احترام القوانين العنصرية مثل دخول المناطق المحظورة دون رخص كمقصورات القطارات وقاعات الانتظار ومكاتب البريد المخصصة للبيض، وكمرحلة ثانية على مستوى الجماعات بتنظيم الاحتجاجات الوطنية والإضرابات. ونجحت لأن قادتها كانوا في الصفوف الأولى، “وارتفعت عضوية المؤتمر الوطني الإفريقي بمعدل مذهل من عشرين ألف إلى مائة ألف عضو”، خاصة بعد اعتقال مانديلا ورفاقه في 30 جويلية 1952، ولكن هذا الحراك السياسي لا يخلو من أخطاء مثل ما حدث مع “موروكا” رئيس المؤتمر الوطني الإفريقي الذي فضل “مصالحه الشخصية فوق مصالح الحزب والشعب”، ومع ذلك صار “السجن بعد حملة التحدي وسام شرف يفتخر به الإفريقيون”، بعدما كان وصمة عار في أذهانهم، وهنا نقف عند هذا التواصل النضالي بين جنوب إفريقيا والجزائر من خلال إلياذة مفدي زكرياء عندما يقول:
يا سجن ما أنت؟ لا أخشاك تعرفني .. .. من يحذق البحر لا يحدق به الغرق
إني بلوتك في ضيق وفي سـعة .. .. وذقت كأسك ولا هـم ولا حـنق
إنها الروح الإفريقية التي تجعل القيود منطلقا للتحرر، وهذا ما عجل بالتغييرات في قيادة الحزب في ديسمبر 1952 فالزعيم القبلي “ألبرت لوتولي”، صار رئيسا للحزب الوطني الإفريقي الذي كان يتقاضى مرتبا من الحكومة كزعيم قبلي وطلبته منه في مرحلة معينة أن يختار بين عضوية الحزب والمرتب، فاختار الحزب الوطني الإفريقي، وأصبح مانديلا نائبا له من بين النواب الأربعة، لأنهم أدركوا بأن أخطر لحظات الحظر أن يصل المرء “إلى الإيمان بأن مصدر الظلم لم يعد في الخارج بل في داخله هو نفسه”، وعندما شرعوا بتهديد الحكومة العنصرية بأن حظر الأفراد من الاجتماعات سينتقل إلى حظر الأحزاب بما فيها الإفريقي والهندي مثلما فعلت مع الحزب الشيوعي، اقترح مانديلا خطة عمل سميت باسمه وكذلك عرفت “بالخطة الميمية” وتقوم على تبليغ قرارات الحزب للقاعدة دون عقد اجتماعات من خلال الخلية (تضم عشرة بيوت) والوحدة (تشمل أكثر من عشرة بيوت) والمنطقة (تمثل جميع البيوت) وشرع في تطبيقها بتنظيم سلسلة من المحاضرات مثل: عالم اليوم، وكيف نحكم؟ وحاجتنا للتغيير.
ب ـ مانديلا المحامي:
ليس من السهل التوفيق بين النضال السياسي والوظيفة لأن مانديلا بعد حصوله على الإجازة في القانون في حاجة إلى تدريب في مكاتب المحامين التي يحتكرها البيض، وفي ضوء هذه الممارسة اكتشف بأن تلك المكاتب “كانت تفرض رسوما على زبائنها الإفريقيين في القضايا الجنائية والمدنية تفوق بكثير تلك التي تفرضها على زبائنها البيض”، باستثناء بعض المكاتب المتعاطفة أو المساندة للمؤتمر الوطني الإفريقي مثل مكتب “هيلمان وميشيل”. وبعد النجاح في شهادة التأهيل كمحامي اشتغل مانديلا في مكتب “أتش امبزنر”، الذي كان “من طليعة أعضاء الحزب الشيوعي ومن أقوى المناصرين لحقوق الإفريقيين”، فاكتسب خبرة كافية ليفتح مكتبه في أوت 1952، ويعترف في هذا المقام بدور سكريتيرته “زبيدة باتيل” زوجة صديقه “قاسم باتيل” عضو حزب المؤتمر الهندي، في نجاحه لتجربتها في جلب الزبائن وعلاقتها مع الدوائر القضائية.
بدا لمانديلا من الضروري تدعيم مكتبه، فاستدعى صديقه “أوليفر تامبو” للعمل سويا وهكذا صار المكتب باسم “مانديلا وتامبو”، ونال الحظوة والمكانة الرفيعة عند الإفريقيين، لأنه “المكان الذي بعث في أنفسهم شعورا حقيقيا بالفخر لوجود رجال من جلدتهم قادرين على تمثيلهم أمام المحاكم والقضاء”. ورغم الاستفزازات العنصرية داخل وخارج المحكمة، لأن المحاماة في جنوب إفريقيا “تعني العمل في نظام قانوني يحط من قدر العدالة والقانون ولا يحترم المساواة بل يشرع لعكسها”، فقد كسب العديد من القضايا، باستثناء تلك التي تتعلق بتجاوزات الشرطة، لأنه من الصعوبة بمكان إثبات إعتداءاتهم على الأفراد لتحايلها في “حجز الضحايا مدة كافية حتى لاندمال الجروح واختفاء آثار الضرب”.
إن هذه الصورة النضالية لمهنة المحاماة ستظهر مرة أخرى في ميدان الحرية “فريدام سكوير” في مدينة صوفياتاون إحدى مدن ضواحي المناطق الغربية لمدينة جوهانسبورغ، لتعبئة الجماهير ضد قرار الترحيل لمناطق مخصصة للسود بتنظيم المؤتمر الوطني الإفريقي مساء كل يوم أحد تجمعات وفق شعارات: “لن نرحل” و«صوفياتاون وطننا ولن نرحل عنه أبدا”، بل إن مانديلا تجاوز في خطابه النضال السلمي إلى المواجهة الثورية، وكلفه ذلك بموجب قانون مكافحة الشيوعية أمرا ينص على استقالته من الحزب الوطني الإفريقي وتحديد إقامته في جوهانسبورغ، بل تقدمت الجمعية القانونية في أفريل 1954 بطلب إلى المحكمة العليا بشطب اسمه من قائمة رجال القانون المعترف بهم، وهكذا اكتشف بأن “التضامن في إطار المهنة يتجاوز الفروق العرقية حتى في جنوب إفريقيا العنصرية”، فدافع عنه رئيس نقابة المحامين “ولتر بولاك” ورئيس مكتب محاماة من أكبر المكاتب في جوهانسبورغ “وليام أرونسوهن” دون مقابل ونجح في رد طلب الجمعية القانونية وإلزامها بدفع مصاريف القضية.
وفي المقابل نجحت الحكومة العنصرية في ترحيل سكان صوفياتاون، لأن مقاومة مانديلا ورفاقه لم تكن قادرة على مواجهتها، لأن شعاراتهم المؤثرة والفعالة في التجنيد تحولت إلى عائق لعدم تنفيذها. وأمام هذا الإخفاق حدثنا مانديلا عن قيمة التعليم في بناء شخصية الإنسان، ولهذا كان من الطبيعي أن يصدر الحزب الوطني الحاكم عام 1953 قانون البانتو ليكرس التفرقة العنصرية، فلم يجد مانديلا ورفاقه سبيلا إلا أسلوب مقاطعة المدارس لمواجهة هذا القانون الجائر، وإن لم تنجح حملتهم في التخلص من قانون البانتو فقد أزعجت الحكومة ودفعتها إلى تعديله، إذ لم يعد تنظيم التعليم على أسس قبلية بل وفق معايير الجودة للبيض والتعليم الناقض للسود. ولكن هذه الاستراتيجية ستكون وراء “نشأة جيل سود السبعينيات في جنوب إفريقيا وهو أعنف جيل وأكثر الأجيال تمردا عرفته البلاد في تاريخها. فعندما بلغ أطفال تعليم البانتو العشرينات من العمر ظهرت أكبر انتفاضة شعبية في جنوب إفريقيا”. وفي ضوء هذا السياق الاحتجاجي تطور الوعي السياسي لدى أعضاء المؤتمر الوطني الإفريقي ليشمل جميع أبناء جنوب إفريقيا البيض والسود من خلال مؤتمر الشعب كإطار لتوحيد “جميع المستضعفين والقوى التقدمية”. ومثل هذه الرؤية أثمرت مجلس العمل الوطني الذي اشتغلت على إصدار “ميثاق الحرية” الذي كان شأنه شأن “إعلان الاستقلال الأمريكي وإعلان حقوق الإنسان الفرنسي والإعلان الشيوعي. وهو يضع في المقام الأسمى إبطال التمييز العنصري وتحقيق المساواة في الحقوق بين الجميع، ويرحب بجهود جميع أنصار الحرية للمشاركة في بناء مجتمع ديمقراطي لا عنصري في جنوب إفريقيا”.
إن هذه الجهود النضالية لم تمنع مانديلا أن يتذكر تقصيره تجاه واجباته العائلية، فقرر السفر إلى مدينته ترانسكاي، ثم نحو قريته “قونو”، حيث تعيش أمه بمفردها، ورغم محاولاته في إقناعها أن تعيش معه في جوهانسبورغ، فقد فضلت الريف الذي كانت تحبه. وهذا الموقف أثار في ذاته تساؤلات حول قيمة النضال السياسي بالمقارنة مع رعاية الإنسان لأهله، واتجه لزيارة أمه الثانية أرملة السلطان القاطنة في مدينة مكيكيزويني، فأدرك في هذا الانتقال بأن مغادرته لهذه الأمكنة ساهم في تطوير شخصيته التي ظلت في هذه الرحلة تمارسها السياسة في كل لقاء أو نقطة توقف حل بها لأن “المناضل تصاحبه أفكار النضال أين ذهب وأين حلّ”. ولهذا كان من البديهي أن يقدم تقريرا إلى لجنة العمل التابعة للمؤتمر الوطني الإفريقي عن الأوضاع السياسية والاجتماعية لتلك المناطق. وفي دوائر هذا الصراع النفسي والسياسي، وجد مانديلا في رياضة الملاكمة بديلا للعمل النضالي بعد استلامه للقرار الثالث في مارس 1956 لحظره عن النشاط السياسي لمدة خمس سنوات، لأن الملاكمة رياضة تمتاز بالمساواة بين اللاعبين إذ في الحلبة ليس هناك أي اعتبار لرتبة أو عمر أو لون أو مال”، فركز اهتماماته على التدريب لأنها وسيلة ممتازة للراحة والتنفيس من الإرهاق وتوتر الأعصاب ومرافقة ابنه “تيمبو”، الذي صار ملاكما وهو في العاشرة من عمره.
جامعة وهران—أ. د. صايم عبد الحكيم