أولّا--مستويات اللغة
يقسم اللغويون مستويات اللغة إلى أربعة مستويات:
1. المستوي الصوتي: وفي ذلك يرون أن الأصوات لها دلالات نفسية وإيحائية، فيربطون بين الحروف الصفيرية كالسين والصاد والزاي بمعان مثل الخلسة والدس، فنراها في كلمات مثل "جاسوس، يستر…"، في الإنجليزية مثل spy, sneak….
2. المستوى اللفظي: ويعتبر تحليل اللفظ من أخطر قضايا الترجمة، سواء في فهمه أو في إيجاد المقابل له. فمن جهة فهم اللفظ فهما جيدا يمكن لغير المتمكن من اللغة الوقوع في أخطاء فادحة، ولنأخذ مثلا لفظ "كافر" في البيت الثاني من البيتين:
يا ليل طل، يا شوق دم، إني على الحالين صابر
لي فيك أجر مجاهد، لو صح أن الليل كافر.
ويتساءل المرء، ما علاقة الليل بالكفر والإيمان؟ ويزول اللبس حين نعرف أن فعل "كفر" هي في الأصل تعني الستر، وهو معنى قريب من cover في الإنجليزية. وبهذا الفهم فقط يمكن للمتلقي أن يشعر بالطرافة في استخدام "مجاهد"، في تحمل معاناة طول الليل مع "كافر".
وبناء على ذلك فإن من معاني "كافر" في اللغة العربية "زارع"، لأنه يكفر الحب في الأرض، وهو المعنى المقصور من الآية الكريمة: "كمثل غيث أعجب الكفار نباته".
3. المستوى الأجرومي (أو التّركيبي): ويقصد به طريقة تركيب الجملة، كأن تكون مبنيا للمجهول أو للمعلوم. وللمستوى الأجرومي أهمية في تحليل السياقات اللغوية المختلفة، فكثيرا ما نجد للسياق القانوني "مزاجا" أجروميا يختلف عنه في السياق الديني أو العلمي، وهكذا. ومن واجب المترجم أن يحاول الحفاظ على الطبيعة الأجرومية الغالبة للنص الذي يعالجه طبقا للغته هو وليس للغة المصدر.
4. المستوى الدلالي: ويقصد به المعاني التي يحملها النص، وليس من شك في أن تحليل الألفاظ هو الخطوة الأولى في الوصول الى المعنى المقصود، ولكن الأمر أوسع من ذلك، فقد يكون المترجم فاهما لمعنى الألفاظ، ولكنه غير واع لما تحمله من دلالات أكثر عمقا من المعاني المباشرة، ولنتتبع على سبيل المثال دلالات عبارة "صلي على النبي" في المواقف المختلفة:
• معنى ديني مباشر،
• افتتاحية للحديث (كأن تكون بداية لرواية حكاية)،
• للصلح بين متشاجرين،
• للتعبير عن الإعجاب.
ثانيا: ترجمة المعنى Semantic Translation والترجمة التواصلية Communicative Translation
حين يصوغ كاتب نصا علميا أو قانونيا، فإن الخيارات المتاحة أمامه للتعبير عن المعنى تكون محدودة للغاية، فكل لفظ يدل على معناه الاصطلاحي دلالة تامة. وفي هذا الحالة تكون الترجمة أمرا شبه آلي. أما حين يتدخل الإبداع في الصياغة، فإن الترجمة تأخذ أبعادا أخرى. فالكاتب المبدع لا يكتفي بالتعبير عن المعاني المباشرة، بل يحيطها بإيحاءات ودلالات خفية.
ومعنى الدلالة التواصلية هي ببساطة أن يضع المترجم قارئه في نفس الموقف النفسي والعقلي الذي يكون فيه قارئ النص الأصلي. ويستغل الكاتب أحد المستويات اللغوية في حرفته الإبداعية، وهو أمر يجب على المترجم الكشف عنه لتحقيق نفس الغرض الذي وصل إليه الكاتب الأصلي. لنأخذ مثلا العبارة التالية، وقد وردت في رواية أدبية على لسان فتاة تشاهد قاتل والدها، و كانت قد اشتركت في الإيقاع به، وهو مقبوض عليه: "He must be sent to justice!"
وتقودنا ترجمة المعنى إلى: "يجب أن يقدم للعدالة". على أن الترجمة التواصلية تؤدي بنا إلى ملاحظة ورود أربعة حروف صفيرية، وهو ما يوحي بما تحمله الفتاة إزاء قاتل والدها من تشفّي. هذه الملاحظة تشير إلى تفضيل الترجمة التالية: "يجب أن يُرسَل للقصاص".
ومن أطرف الأمثلة على استخدام الدلالة الصوتية تصور الموقف الآتي الذي جاء في أحد الأفلام المصرية: مجموعة من الفتيات بصدد خلع ملابسهن للنزول للبحر، فتقول إحداهن وهي تخلع رداءها: "حكموا علينا ما نقلعشي، ماحناش قالعين". ومن المهم ملاحظة أن الفتاة تنطق حرف القاف بصورته الفصحى، بل وبصورة مبالغة فيها، فما دلالة ذلك؟ من الواضح أن الفتاة تقصد السخرية ممن يتحدثون بهذه الطريقة، ولا يخفى على القارئ أنهم رجال الدين، وحين تترجم العبارة ترجمة تقتصر على المعنى المباشر يضيع عنصر السخرية، بينما هو المقصود الحقيقي من العبارة.
ثالثا: القابلية للترجمة
بناء على قدر الخروج على المعنى المباشر لإحاطة المعنى بمؤثرات سيكولوجية تتراوح القابلية للترجمة من صفر (استحالة الترجمة) إلى مائة بالمائة (ترجمة كاملة)، وفيما بين الطرفين تتراوح القابلية للترجمة بحسب درجة الإبداع في النص.
وتكاد تكون الترجمة الكاملة مقصورة على النصوص العلمية الأكاديمية والنصوص القانونية المجردة. أما الترجمة المستحيلة فتكون في العبارات التي تقوم على التلاعب اللفظي، مثال ذلك العبارة: "دعوني فإني آكل العيش بالجبن". فلفظ "الجبن" يحمل تورية لا يمكن أن نجد لفظا في لغة أخرى يحملها.
رابعا: الأمانة الوظيفية Functional Fidelity والأمانة الشكلية Formal Fidelity
يدور نقاش حاد بين الأمانة في الترجمة كنقيض للإبداع فيها، ومن ثمّ فإن الترجمة الإبداعية كثيرا ما يشار اليها على أنها خيانة، وهذا الرأي مُؤَسَّس على المنطق التالي:
• الأمانة في الترجمة تؤدي إلى ترجمة حرفية
• يتطلب الإبداع البعد عن الترجمة الحرفية
• إذن، الإبداع في الترجمة خيانة.
وحلاّ لهذه الإشكالية التي تنقلب فيها الحقائق، فتوصَمُ الصفة الإبداعية للمترجم بهذه التهمة الشائنة، اقترحت في مؤتمر التعريب الذي انعقد في 2001 بالمجلس الأعلى للثقافة مفهوم "الأمانة الوظيفية ومفهوم "الأمانة الشكلية". وهذه التفرقة مبنية على المنطق التالي:
• الترجمة ليست نشاطا يجري في برج عاجي، بل نشاط إنسان هادف.
• الأمانة الشكلية تعني الأمانة تجاه النص، ومن ثم تقوم على تصور انقطاع الصلة بين المترجم والقارئ
• الأمانة الوظيفية تعني تحقيق الهدف الذي من أجله تكون الترجمة.
ولنضرب لذلك مثلا، لنفرض أن شركة تنتج مواد التجميل النسائية، أصدرت نشرة دعائية لترويج منتجاتها، وتريد ترجمته في بلد شرقي.
من المحتمل جدا أن ما يسبب رواجا لهذه السلعة في المجتمعات الغربية يكون مستهجنا في المجتمعات الشرقية المحافظة. فلو أن المترجم تمسك بالأمانة بالمعنى الشكلي لبارت البضاعة، ولكان المترجم قد ارتكب خيانة إزاء عميله الذي طلب منه الترجمة. وعلى ذلك فإن الخيانة تكون مرتبطة بالأمانة الشكلية وليس الأمانة في الترجمة بصفة مطلقة.
وفي كتابه “Becoming A Translator” (المؤلف Douglas Robinson، الناشر Routledge)، جعل المؤلف الأمانة مع العميل – وهو نفس المعنى الذي أقصده من مفهوم الأمانة الوظيفية - عنصرا من عناصر ما أسماه "الاعتمادية reliability"، وضرب أمثلة مشابهة للمثال الذي ذكرته. ويقصد المؤلف بالاعتمادية كل ما يرفع ربح المترجم من حرفته، كاستخدام الأجهزة المتطورة والالتزام بالمواعيد، بالإضافة إلى تحقيق الغاية من الترجمة من وجهة نظر العميل، وهو المفهوم الذي أطلقنا عليه "الأمانة الوظيفية".
خامسا: المواءمة الحضاريةCultural Adaptation
يترتب على مفهوم الأمانة الوظيفية أن يقوم المترجم بعملية موائمة بين المعطيات الحضارية لمجتمعه وعناصر النص الذي يتصدى لترجمته.
فمن جهة قد لا يكون ما يتضمنه النص ملائما للقارئ المستهدف. لنفرض أن قصة أجنبية احتوت على عبارات تهاجم الدين الإسلامي، فهل يتمسك المترجم بالأمانة الشكلية فيثير قارئه بدلا من أن يمتعه. ومن جهة أخرى قد لا يكون الأسلوب الذي لجأ إليه الكاتب ليثير مشاعر معينة لدى قارئه غير مجد لدى القارئ المستهدف، مثال ذلك أن يحتوي على ما يعتبر سبابا في مجتمع النص المراد ترجمته، ولا يعتبر كذلك في مجتمع القارئ المستهدف، فكلمة "ابن الكلب" مثلا لا يصلح مقابلا لها "son of the dog" حيث إن الكلب من الحيوانات المحببة في المجتمع الإنجليزي، ولا يتخذ مادة للتحقير، ولكن البديل المقبول هو الخنزير.
بل قد تختلف مدلولات الكلمة داخل مجتمع لغوي واحد، فكلمة "لبؤة" تستخدم لمديح النساء في المجتمعات العربية عدا المجتمع المصري، فهي كلمة تعتبر من قبيل السب المعاقب عليه قانونا. ويدلنا ذلك على أن القارئ المستهدف يجب أن يكون دائما في ذهن المترجم حين يقوم بالترجمة.
ومن جهة ثالثة فقد يختلف مدلول العبارة من موقف لآخر، فعبارة "اتكل على الله" قد يقصد بها المعنى المباشر، كما قد يقصد بها في مواقف الشجار معنى مناقض تماما، ومن ثم فقد يترتب عليها رد فعل مناقض لرد الفعل إزاءها في الحالة الأولى. فإذا ما تغافل المترجم عن هذا الفرق، وترجمها ترجمة مباشرة في الموقف الثاني خرجت ترجمته تحمل تناقضا غير مفهوم.
(منقول)