اسعد الله اوقاتكم بكل خير. يسعدني أن أنضم الى هذا التجمع الذي يعد من الاماكن الجيدة لتبادل الأراء و تلاقح الأفكار وتقاسم الخبرات . ويحضرني هنا قول الشاعر :
و أعظم ما يكون الشوق يوما اذا دنت الخيام من الخيام
أما أنا فأقول : وأعظم مايكون العلم يوما اذا دنت العقول من العقول
يسعدني أن أنثر كنانتي بين أيديكم و أقدم لكم مقالة ، سبق و أن نشرتها ، تتحدث عن البرغماتية في الترجمة. أتمنى ان تكون مفيدة
برغماتية الترجمة
يعد مصطلح البرغماتية ((pragmatics من أكثر المصطلحات تداولا في اللغويات وعلم الترجمة والأدب كذلك. وقد ظهرت البرغماتية في علم الإشارات الذي وضع أساسه كل من الفيلسوف الأمريكي بيرس الذي أسماه (Semiotics) واللغوي المعروف سوسير الذي أطلق عليه (semiology) وذلك في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. يعنى علم الإشارات بدراسة الإشارات والنظم التواصلية وخصائصهما ووظيفتهما في المجتمع. والإشارة هي كل ما يحمل دال يشير إلى مدلول ، أي أنها تتكون من دال ومدلول. والإشارة قد تكون كلمة أو حركة يد أو الإشارات التي تستخدم في الحركة المرورية وغيرها الكثير. إذا ما قصرنا الحديث هنا على اللغة ، فان لسوسير تشبيه لطيف للكلمة ، فهو يقول أن الكلمة تشبه الورقة ، كما أن للورقة جهتان فللكلمة كذلك وجهان ، فإذا ما قمنا بعملية قطع للورقة فان كلا الجهتين ستتعرضان للقطع. وجهتا الكلمة هما الدال والمدلول. وبالمناسبة ، فهذا الفهم اللغوي لماهية الإشارة يتعارض مع مفهوم الإشارة في الفلسفة والمنطق (كارناب) اللذان يقدما الإشارة كمعبر مادي أحادي التكوين يشير إلى مادة أخرى.
تدخل الإشارة ( الكلمة) في ثلاثة أنواع من العلاقات (حددها موريس) ، من بينها العلاقة البرغماتية التي تعني العلاقة بين الكلمات وبين من يستخدمها (سواء كان متحدثا أو مستمعا ، كاتبا أو قارئا) أي كل ما يتصل باستيعاب الكلام وتفسيره.
من مثالم الأبحاث العلمية العربية في اغلب المجالات هو عدم الاهتمام بالنقل السليم للمصطلحات الأجنبية إلى اللغة العربية. هناك شروط معروفة لاشتقاق المصطلحات (بالتحديد تركيبة المصطلح) منها على سبيل المثال: ١) موافقته لقواعد اللغة ، ٢) إمكانية أن يشتق منه كلمات أخرى ، ٣) الوضوح الدلالي ، أي إمكانية تكوين تصور مبدئي عن المفهوم الذي يعبر عنه المصطلح عن طريق تركيبة المصطلح. إذا أخذنا على سبيل المثال مصطلح "البرغماتية" ، نجد انه ينقل إلى العربية باستخدام المصطلحات التالية : التداولية أو الذرائعية. أما هذا الأخير فاني أرى فيه تطرفا اشتقاقيا! فهو برأيي غير مناسب على الإطلاق. فيما يتعلق بالتداولية فهي لا تعكس بشكل واضح ماهية البرغماتية. ولهذا فإنني اعتقد انه من الأنسب استخدام مصطلح "البرغماتية" في اللسانيات إلى أن نجد مصطلحا مناسبا.
فيما يتعلق بالبرغماتية في مجال علم الترجمة فهي تعرﱠف بشكل عام بالتأثير على متلقي النص المترجم. ولابد هنا أن نقف عند كلمة "التأثير". فلا يجب أن يفهم التأثير هنا بالمعنى المباشر للكلمة ، أي إثارة مشاعر معينة لدى الملتقي كالحزن أو الفرح أو التعاطف ، لأن هذا الأمر ليس من مهام المترجم ، بل من مهام كاتب النص الأصلي. فكاتب النص الأصلي قبل أن يبدأ بكتابة النص يضع له ما يسمي بوظيفة النص الأساسية (dominant function) التي تكون تأثيره المحتمل. وهي ، أي وظيفة النص ، تأتي تنفيذا لمقصد كاتب النص (intention) وبناءا على ذلك يقوم باستخدام الاستراتيجيات الكتابية التي تساعده في تحقيق مبتغاه. وهنا من حق الكاتب على المترجم ، أن يقوم ، أي المترجم ، بالمحافظة على مقصد الكاتب والتأثير المحتمل للنص . فإذا فشل النص في تحقيق أهدافه فان اللوم في هذه الحالة يقع على كاتب النص الأصلي وليس على المترجم. وجدير بالذكر ، أن التأثير المحتمل للنص ، وهو ما يطلق عليه التأثير البرغماتي أو التواصلي ، لا يقتصر فقط ، كما ذكر أنفا ، على مفهوم التأثير بالمعنى المباشر ولكنه يختلف باختلاف طبيعة النص. فالنص الأدبي يفترض به أن يؤثر على القارئ تأثيرا فنيا جماليا ، أما النص العلمي فانه يؤثر تأثيرا عقليا ، أي أنه مصدر للمعلومة. وهنا بالتحديد تكمن مهمة المترجم غير السهلة : وهي أن ينقل النص الأصلي بتأثيره البرغماتي (وهذا يتطلب تحليا دقيقا للنص) إلى المتلقي ثم يترك له حرية التعامل مع هذا النص. ونخلص هنا إلى نتيجة مفادها أن : المترجم ينقل التأثير ولا يؤثر! وقد يقع التأثير وقد لا يقع! ولهذا أطلق عليه "التأثير المحتمل".
وقد بالغ بعض علماء الترجمة الذين قالوا بأنه يجب أن يتطابق تأثير النص الأصلي على متلقيه مع تأثير النص المترجم على قارئه. إن هذا الأمر في غاية الصعوبة ، لأنه حتى النص الأصلي الموجه لأبناء الوطن الواحد والثقافة الواحدة سيثير ردات فعل مختلفة. فمن باب أولى ألا تتطابق أراء أناس ينتمون إلى ثقافات مختلفة. وأنا هنا لا أنفي عدم إمكانية تطابق ردات فعل متلقي النص الأصلي والمترجم تماما ، قد يحصل هذا الأمر إذا تطابقت توجهاتهم الفكرية والشخصية.
المقصود ببرغماتية الترجمة ، كما أرى ، هو : أن يكون متلقي ((receptor النص المترجم على نفس مستوى متلقي النص الأصلي من ناحية فهم النص ، أي يجب على المترجم أن يقوم بإيصال النص (بكامل محتوياته المعلوماتية و البلاغية والأسلوبية) إلى المتلقي بطريقة مفهومة وواضحة (باستخدام الوسائل الترجمية المختلفة) كما فهمه المتلقي الأصلي للنص. ولهذا أقترح أن يتم نقل مصطلح "البرغماتية" في مجال علم الترجمة إلى اللغة العربية باستخدام المصطلح التالي : " تكافؤ الاستيعاب".
وختاما أقول ، إن الترجمة هي قواعد ونظريات ومعايير ومهارات ، أي أنها علم وليست "فنا وذوقا" فقط كما يقول بعض زملائنا المشتغلون بالأدب!