الهوامل والشوامل: لأبي حيان التوحيدي ومسكويه:
من الأعمال المميزة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، ومن مخلفات أزهى عصور هذه الحضارة ( القرن الرابع هجري)، يبرز إلى السطح كتاب( أو كتابا): الهوامل والشوامل، بعد أن ظل لردح من الزمن مغمورا منسيا، فكان نتيجة عمل مشترك بين شخصيتين مميزتين: أبو حيان التوحيدي، وابن مسكويه فلنتعرف قليلا على المؤلفين والمؤلف:
I – أبو حيان التوحيدي:
من الشخصيات النادرة التي تثير الفضول والاستغراب شخصية التوحيدي، لقد ظل سوء الحظ والبؤس يطاردانه في حياته وبعد مماته، والغموض واللبس يكتنفان جوانب حياته من ميلاده إلى وفاته، ومتناقضات حياته تثير الدهشة وتدعو إلى العجب، ولا أجد مصطلحا يمكن أن نصنف من خلاله حياة هذا الرجل بكل مراحلها وأحداثها الغنية، أفضل من مصطلح الاختلاف المؤدي إلى التناقض الصارخ بخصوص الأحكام المتعلقة به، وسنرى بعضا من مظاهر هذا الاختلاف بقليل من التفصيل:
I -1- اسمه: هو علي بن محمد بن العباس، كنيته أبو حيان التوحيدي مع أنه لم يتزوج مطلقا، ويلقب لدى الناس بالتوحيدي، والسبب كما يرى بعضهم، أن أباه كان يبيع نوعا من التمر ببغداد اسمه التوحيد، أما ابن حجر العسقلاني فيرى أن هذا اللقب يحتمل أن يكون نسبة إلى التوحيد أي (2) الدين. ولكن لم يثبت لأحد السبب الحقيقي.
كان التوحيدي متكتما على حياته الخاصة أشد ما يكون التكتم، فلم يتعرض في عديد مؤلفاته لا من قريب ولا من بعيد إلى أصله أو نسبه أو ظروف نشأته وأسرته، ربما لشعوره بالخجل أو النقص، وهو الطموح الذي أراد بلوغ أعلى المناصب يكون قد خشى أن تستغل هذه النقطة ضده، لقد كان في الشاعر جرير خير عبرة يمكن أخذها، كيف لا؟. وقد قارع بأبيه عطية (80) شاعرا، منهم الأشراف وذو الحسب والنسب والجاه والنفوذ فغلبهم جميعا.
(1)- ليس هذا بمستبعد، فللمتنبي بيت يذكر فيه التوحيد على أنه تمر حلو:
يترشفن من دمي رشفات هن فيه أحلى من التوحيد.
(2)- يذكر المعتزلة خمسة أصول لهم، إن انتفى شرط واحد لم يكن الواحد معتزليا، 1- العدل 2- التوحيد. 3- الوعد والوعيد. 4- المعتزلة بين المنزلتين. 5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الفلسفة العربية الاسلامية ( المشائية الشرقية): أرتور سعد بيف وتوفيق سلوم. دار الفارابي. لبنان. ط2. 2000. ص 32- 33.
I- 2- مولده ووفاته: يرى السندوبي أنه ولد سنة 312 هـ: أما زكي مبارك فقال: << لا تسألني متى ولد ولا أين ولد، فذلك رجل نشأ في بيئة خاملة لم تكن تطمح في مجد حتى تقيد تاريخ ميلاده>> (1)
أما وفاته، فقد اختلف فيها الباحثون اختلافا بينا امتد على حوالي نصف قرن من سنة 360 هـ إلى سنة414 هـ.
فالسيوطي مثلا يرى أنه توفى في 380 هـ، وزركوب الشيرازي يضع سنة 360 هـ.(2) وكلا الرأيين مجانب للصواب لأن أبا حيان كتب رسالة إلى القاضي أبي سهيل علي بن محمد رمضان سنة 400 هـ. كما أنه بيض مسودات رسالة الصديق والصداقة في رجب سنة 400 هـ. ويرى القزويني أنه توفى في 414 هـ. (3)
ويوافقه المؤرخ أبو العباس أحمد زركوب في رواية غير الأولى. وهي أن الشيخ أبا الحسن بن أحمد شيخ مشايخ عصره، رأي أبا حيان في منامه، فسأله ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لي على رغمك. وفي اليوم التالي، طلب من أصحابه أن يحملوه إلى شيراز، ليزور قبر التوحيدي ، ووضع لوحا على قبره مكتوب عليه : هذا قبر أبي حيان التوحيدي توفى سنة 414 هـ (4) . كان حيا إذن سنة 400 هـ والأرجح أن القزويني محق.
I-3 نسبه: هو عند ياقوت الحموي شيرازي الأصل (5)، وقيل نيسابوري وقيل واسطي، أي أنه فارسي. لكن هناك أدلة تثبت أنه عربي: أحصاها- ونذكرها بتصرف – أحمد محمد الحوفي:
- ليس من مؤلفاته ما يشير إلى فارسيته، لا من قريب ولا من بعيد ولو كان فارسيا لصرح بذلك وباهى به فعصره العصر الذهبي للفرس. وقد كانت صلته بأمرائهم ووزرائهم في ق 4هـ أمله وهدفه.
(1)- أبو حيان التوحيدي، أحمد محمد الحوفي، مكتبة نهضة مصر . ج1.ص24، ولهذا نجد كتب التراجم والسير تهتم بوضع زمن الوفاة أكثر من عنايتها بزمن الميلاد.
(2) – م.ن .
(3) – مقدمة الهوامل والشوامل . تحقيق أحمد أمين والسيد أحمد صقر.
(4) – أبو حيان التوحيدي: الحوفي ج1 ص 25.
(5) – ن.م.
- يظهر من راسمه ولقب كنيته أنه ليس فارسيا.
- صرح مرارا بجهله للفارسية . ولو كان فارسي الأصل لنشأ على معرفتها (1).
- في كتاب المقابسات سئل عن أفضل الأمم، فتعصب للعرب ، ورد على الشعوبية، إذ مدح العرب في جاهليتها وإسلامها وأثنى على أخلاقها وطباعها و لغتها – وعجب أشد العجب من الجيهاني إذ سب العرب في كتابه وتناول أعراضهم وحط من قدرهم ، فرد على تهجمه بمثله، وتنقص الفرس وسفههم ونال منهم (2).
I -4 عمله: يبدو من عديد أقواله أنه لم يكن راضيا بحياته ولا بعمله، ولم يذكر هو أو غيره إلا مهنة الوراقة والنسخ ببغداد ، قبل أن يرحل إلى ابن عباد وقد كانت مهنته هذه والتي تضجر منها أيما تضجر منبعا هاما من منابع ثقافته الواسعة فإذا كان الجاحظ قد اشتهر بأنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويجلس فيها للقراءة والنظر، فإن أبا حيان لم يكن مضطرا إلى ذلك.
لقد كان التوحيدي رجلا من العامة ، بل من أبسط العامة ، أمضى حياته في فقر مدقع و معيشة ضنكة. ومع ذلك كان رجلا فريدا و ظاهرة لم تتكرر، بقدراته الفكرية و موسوعيته اللتين أعجزتا الكثيرين عن اللحاق به. فعلى الرغم من وضعة المادي المتردي، إلا أنه لم يقعد عن طلب العلم و الاستزادة منه ، يقول الحموي
شيخ في الصوفية ، و فيلسوف الأدباء و أديب الفلاسفة ، و محقق الكلام ومتكلم المحققين وإمام البلغاء و عمدة لبني ساسان ، فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء و فطنة و فصاحة و مكنة و كثيرا لتحصيل العلوم في كل فن حفظه ، واسع الدراية و الرواية) (3) . تطلعنا حياته أنه درس وتمكن من علوم عدة و ربما لم يند عنه إلا الطب والكيمياء والرياضيات فلقد كان واحدا من أعضاء مدرسة السجستاني في بغداد، وكان أعضاؤها يتباحثون في مختلف شؤون الفكر،
(1) – من الحوادث التي يثبت جهله للفارسية. قوله في البصائر والدخائر ص 87: " إن ابن عباد سأله إذ قدم عليه: أبو من؟ فقلت: أبو حيان فقال: بلغني أنك تتأدب . فقلت تأدب أهل الزمان فقال أبو حيان ينصرف أم لا ينصرف؟ فقلت إن قبله مولانا لا ينصرف .فلما سمع هذا تنمر وكأنه لم يعبه وأقبل على واحد إلى جانبه وقال له بالفارسبية : سفها على ما قيل لي" . ابو حيان التوحيدي أحمد محد الحوفي ص ج1. ص 27.
(2) – م.ن. ص 26-27.
(2) – م.ن.ص 29.
من المنطق والفلسفة في أمور الشريعة والأدب، يجتمع أعضاء هذه المدرسة العلمية في بيت أبي سلميان السجستاني (1)، رئيس المدرسة وشيخها ، حيث يكون الرأي الفصل فيها له ، درس أبو حيان إذن:
- الفلسفة: على يد أبي زكريا يحي بن عدي المنطقي (2) (ت364)، كما يخبرنا أنه قرأ كتاب النفس لأرسطو على يد السجستاني ، كما كان على صلة بنقلة الفلسفة اليونانية إلى العربية ، خاصة زعيم المناطقة آنداك أبو بشر متى بن يونس القنائي (ت 398) ، والذي تجدر الإشارة إليه أن التلمذة آنداك ، كانت تجعل وفي كثير من الأحيان – الأستاذ والتلميذ رفيقين أو صاحبين ، طبعا درجة الصحبة تختلف بحسب الطباع والأمزجة والمشاركة في هموم الحياة ومصاعبها خاصة، وبين أن هذا من الوسائل الفعالة والناجعة في عملية التعليم والتعلم باعتباره يجعل التعلم مقترنا بالجانب الحقيقي للعلم فتصبح حياته كلها كتابا يقرؤه التلميذ ، فإما أن يكون القدوة الصالحة وإما العكس.
الفقه والحديث: ذكر السبكي انه درس الفقه الشافعي على يد القاضي أبي حامد المرورزي (ت 362)، وسمع الحديث من أبي بكر الشايشي (ت 366)، وأبي سعيد السيرافي (3) (ت368) وهو في رأي الشافعية أحد المحدثين في عصره فقد روى عنه كثيرون (4).
النحو واللغة: درسه على يد أبي سعيد السيرافي، ويبدو أنه يقدره كثيرا ، يقول عنه : الإمام وشيخ الدهر والعديم المثل والمفقود الشكل ...إلخ ، وأيضا على يد علي بن عيسى الرماني وقد قرأ شرح كتاب سيبويه (للسيرافي) . ولم يكن للتوحيدي مذهب خاص مستقل في النحو، ولكن مؤلفاته ملئ بعديد المسائل اللغوية (5) وعلى كل سنرى أن لغة التوحيدي فيها من الخصوصيات ما يجعلها علامة مميزة له وحده.
- علم الكلام: ذكر ياقوت الحموي أنه محقق الكلام ، ومتكلم المحققين، ووصفه السبكي بأنه
(1) – كتاب الامتاع لأبي حيان التوحيدي بين سلطة الخطاب وقصدية الكتاب – مقاربة تداولية – واتيكي كميلة، دار قرطبة للنشر والتوزيع .ط1 2004 .ص 47.
(2) – يقول عنه القفطي : " إليه انتهت الرئاسة ومعرفة العلوم الحكيمة في وقته" .م.ن.ص 49.
(3) – نحوي وأديب ومتكلم ، هو الطرف الممثل للنحو العربي في مناظرة المنطقي متى بن يونس ممثل المنطق اليوناني وطبعا المناظرة
وصفها بدقة التوحيدي ونستطيع أن نستنتج ميله الواضح إلى أستاذه الذي يحبه السيرافي.
(4) – أبو حيان التوحيدي أحمد محمد الحوفي .ج1.ص33
(5) – حدث أبو حيان قال: قال الصاحب بن عباد يوما : فعل وأفعال قليل ، وزعم النحويون أنه ما جاء إلا زند وأزناد ، وفرخ وأفراخ ، وفرد وأفراد ، فقلت له ، أنا أحفظ ثلاثين حرفا كلها فعل وأفعال ، فقال هات يا مدعي، فسردت الحروف، ودللت على مواضعها من الكتب" رسالة العلوم 202 ملحقة بالصداقة والصديق ، عن كتاب أبو حيان التوحيدي للحوفي. ج1. ص 32.
متكلم صوفي ، ورأى العسقلاني أنه سمي التوحيدي نسبة إلى التوحيد المأخوذ من قول المعتزلة، ولئن تحدث في أمور فلسفية بل وعلوم إلهية – خاصة كتابه الإشارات الإلهية - فإنه لم يجر قلمه إلى ما هم فيه من متاهات وجدالات عقيمة ، بل بالعكس نجد عديد الأقوال تبين زرايته بالمتكلمين وانتقاصه طريقتهم في البحث والاستدلال ، وفضل الفلسفة على ذلك (1).
ومن مظاهر قدرته على الكلام (أقصد علم الكلام) أستنتج اغلب الدارسين أنه كان من مجموعة إخوان الصفا، فهذا زكي مبارك يقول:
: " وينبغي أن نشير إلى أن التوحيدي كان من أنصار إخوان الصفا ، و لكنه كان يتستر اتقاء سخط الجمهور، وكانت طريقته في تأييدهم إن ينطق الأشخاص بعبارات مريبة " (3)
- الشـــــعر: نجد في مؤلفات التوحيدي زخما من الشواهد الشعرية المنتقاة كما انه خبير بأساليب الشعراء، عارف بمسالكهم حيث وصف لابن السعدان في الامتاع و المؤانسة عددا منهم وهو مع دلك ليس شاعرا. قال: " لست من الشعر والشعراء في شيء، وأكره أن أخطو على دحض لا أحتسي غير محض"( 4)
(1) – لعل من الأسباب التي جعلت التوحيدي كذلك، انتماؤه إلى مدرسة السجستاتي الفلسفية ، فقد فصلت هذه المدرسة بين الدين والفلسفة ، وأعطت لكل منهما مجالا، في حين نجد مذاهب أخرى: منها من حكم العقل في الدين ، ومنها من حاول إقامة الدين وفق الفلسفة...
من الأقوال التي تبين ما ذكرنا : أنه سأل أبا سليمان المنطقي عن الفرق بين طريقة المتكلمين وطريقة الفلاسفة، فأجابه بأن طريقة الفلاسفة أمدح وأقوم ، ولم يعلق التوحيدي ويبدو أنه رضي بذلك وقال في المقابسات ص 224: " ... ثم قال (أبو سليمان ): وكان شيخنا حي بن عدي يقول : أني لأعجب كثيرا من قول أصحابنا إذا جمعنا وإياهم مجلس: نحن المتكلمون ، ونحن أرباب الكلام ، والكلام لنا ، بنا كثر وانتشر وصح ظهر ، كأن سائر الناس لا يتكلمون ، أو ليسوا أهل الكلام ؟ لعلهم عند المتكلمين خرس أو سكوت ! أما يتكلم يا قوم: الفقيه والنحوي والطبيب والمهندس والمنطقي والمنجم والطبيعي والإلهي والحديثي و القوفي...." ن.م، ج1 ص 39.
(3)- النثر الفني في القرن الرابع، زكي مبارك 2/ 193 نقلا عن: ن.م . ص 40.
(4) الإمتاع والمؤانسة، التوحيدي1/ 134. نقلا عن ن. م. ص 42.