كان لهذه العلوم وغيرها الأثر الكبير في:
- تكوين شخصية نهمة، كلما حصلت على طرف من العلم قالت هل من مزيد.
- اتساع أفق مؤلفاته وانفتاحها على العالم، وغناها بالملاحظات والأحداث وأسماء الشخصيات واحتوائها على آراء عدة ومضاداتها...
- إثراء وتقوية جانب مهم من شخصيته: السؤال والتساؤل أننا نكاد نؤكد أنه لا توجد شخصية عربية إسلامية صبغ هذا الملمح جل أعمالها، وأصبح من العلامات الخصوصية لها.
لا تتوقف المتناقضات في حياة التوحيدي عليه هو شخصيا. لقد انسحبت لتطبع الجو السياسي والثقافي للعصر الذي عاشه.
I- 5 - عصره السياسي والثقافي: ( وهو عصر مسكويه أيضا):
I- 5-1الواقع السياسي والاجتماعي: عاش أبو حيان في القرن 4 هـ حيث كان الضعف السياسي، والشتات الرهيب يلفان الدولة الإسلامية، فالخلفاء أصبحوا ألعوبة في يد الأتراك والفرس، الذين زاد نفوذهم وأصبحوا هم الحكام الحقيقيين وما الخلفاء إلا واجهة يبدلونها أو يكسرونها ساعة يشاؤون.(1) وحتى حين بقائهم لم تعد لهم هيبة خلفاء بني العباس الأولين إنهم رموز للمنصب الديني ولكنهم محرومون التوقير والاحترام، لقد انصرفوا إلى اللهو والترف والمجون بينما تركوا مقاليد الحكم في يد الشاء: " أصبح العرش موضع سخرية في الداخل، وهدفا لطمع المغيرين من الخارج. ولم تعد بغداد المدينة القادرة على صد هجمات المغيرين، بل تدهورت الأخلاق فيها ولعبت الدسائس و الإضطرابات دورا خطيرا " (2) . فانقسمت الدولة إلى دويلات، كانت الحروب والثورات شعارها والدسائس و المكائد وسائلها (3) ، وفي مقابل هذا الضعف الداخلي كانت الأطماع الخارجية تزداد خاصة من الروم. الذين وجدوا فرصة للثأر والانتقام ومحاولة استرداد ما ضاع منهم على يد المسلمين، أيام كانت الوحدة تلفهم والشهامة والشجاعة العربيتين يملآن قلوبهم.
(1) – يطلعنا التاريخ كيف قتل المتوكل سنة 247 هـ ، بعد تآمر ابنه المنتصر مع الأتراك عليه وهم الذين خلعوا المستعين ابن المعتصم
سنة 252 هـ، وقتلوا المعتز بعد أن ظربوه وأقاموه في الشمس سنة 255 هـ ، وخلعوا المهتدي وأسروه حتى مات سنة 256 هـ.
وقتلوا المقتدر قتلة شنيعة ورموا جثته سنة 320 هـ، وخلعوا القاهر وسملوا عينيه وحبسوه سنة 322 هـ، وسملوا عيني المتقي لله
وخلعوه سنة 323 هـ ". أبو حيان التوحيدي . الحوفي ص 12.
(2) – الدولة العباسية. حسن خليفة ص 13. نقلا عن ن.م.ص 13.
(3) – " استولى ابن رائق على البصرة وواسط، واستبد البريدي بالأهواز، واستقل بويه بفارس والري والجبل واصفهان من 320
هـ.447 هـ. وانفرد الديلم بطبرستان وجرجان وكرمان وقامت الدولة السامنية في خرسان وما وراء النهر 261هـ.389هـ ثم
خلقتها الغزنوية بالهند وأفغنستان، أقام بنو حمدان ملكهم في الموصل وديار بكر ومضر وربيعة 317هـ- 394هـ . واستقل
الأخشديون بمصر 323هـ - 375 هـ ثم خلفهم الفاطميون وصارت اليمامة والبحرين بيد القرامطة، وظهر الفاطميون بالمغرب
وافريقية سنة 267 هـ ثم بمصر و الشام من 357هـ- 567هـ. واستقل عبد الرحمان الناصري بالأندلس، وإذن فلم يبق للخليفة
العباس إلا بغداد وملحقاتها" ن.م.ص 10.
وهذا قول لأبي حيان يبرز فيه التردي والانحطاط آنداك: " سفكت الدماء واستبيح الحريم وشنت الغارات، وخربت الديارات، وكثر الجدال ، وطال القيل والقال، وفشا الكذب والمحال، وأصبح طالب الحق حيران، ومحب السلام مقصودا بكل لسان وسنان، وأصبح الناس أحزابا في النحل والأديان ، فهذا نصيري وهذا أشجعي، وهذا جارودي، وهذا قطعي، وهذا أشعري، وهذا خارجي، وهذا شيعي..........و هذا رافضي. ومن لا يحصي عددها إلا الله الذي لا يعجزه شيء" (1).
ونخلص إذن: أن الوضع السياسي ومثله الاجتماعي كانا: كارثيين.
I -5-2 الواقع الثقافي والعلمي: من حسن حظ الناس، أن الحركات الأدبية والعلمية لا تتمشى مع السياسة مشي التلازم والاطراد ، ويحصل لها ما حصل لها، لأن الأحداث السياسية قد تعتمد المفاجأة، وقد تعتمد التمهل، أما الحركات العلمية فإنها أبدا ماشية مع الزمن مشي الهدوء، لهذا كان الوضع:
سياسي/ اجتماعي متردي مزري – علمي / ثقافي نشيط ومزدهر
هذا لجملة أسباب نذكر منها:
- إن الحكام المستقلين فتحوا الأبواب أمام العلماء والأدباء.
- محاولة تقليد الخلفاء العباسيين الأولين، مع عظمة هؤلاء وسطوتهم على النفوس كهارون والمأمون...إلخ
- إضفاء هالة من الأبهة والمجد والاحترام عليهم وبالتالي الشرعية ولما لا، ليزداد احترام الناس لهم ، وإقبالهم عليهم ومساندتهم إياهم.
وقد يكون السبب أبسط وهو البحث فيهم عن مصلحتهم، فالعلماء والأدباء خير من يستشار أو يوظف في تلك الفترة مثلا كان من الوزراء أنفسهم من كانوا أدباء مقتدرين: ابن العميد، ابن عباد، ابن سينا، ابن مسكويه....إلخ فعموما تميز الوضع الثقافي بما يلي:
اشتهرت المدن بالعلماء، فبعدما كانوا يكنون بحرفهم أو حرف آبائهم أصبح العلماء يكنون بالمدن
- التي اشتهروا فيها: ( بغداد، حلب، قرطبة، القاهرة، اصفهان، همدان، نيسبور....
- ازدهر عهد الترجمة كثيرا، وخصوصا في الجانب الفلسفي، (الذي كان محتشما قبلا) على يد: متى بن يونس، وأبو زكريا يحي بن عدي وأبو اسحاق علي بن زرع.... لاحظ أن هؤلاء الأعلام على صلة وثيقة بأبي حيان التوحيدي وكذلك ابن مسكويه.
(1)- الإمتاع والمؤانسة ، التوحيدي 2/77-78 نقلا عن الامتاع والمؤانسة بين سلطة الخطاب وقصدية الكتابة واتيكي كميلة ص 27-28.
- أصبح القرن الرابع الهجري أزهى عصور الحركات العلمية، ففيه اكتملت علوم عدة وتنوعت: الفلسفة، الطب، التاريخ، الكيمياء، الطبيعيات...إلخ.
- عرفت اللغة العربية ازدهار لا مثيل له، فقد كانت لغة القرآن ، الفقه، والحكومة والدواوين والأدب...إلخ.
- ربما كان القرن الرابع هجري أكثر عصر ظهرت فيه كوكبة لا مثيل لها من العلماء والفلاسفة والأدباء طوال تاريخ الدولة الإسلامية: فمن الكتاب: الخوارزمي وبديع الزمان الهمداني، وابن العميد والفتح بن خاقان، ومن الفلاسفة: الفارابي ابن سينا، أبو هلال العسكري، الثعالبي....إلخ
اعتقد أبو حيان أنه وبعلمه الذي لا يحد، وبإقبال الحكام والوزراء على تبني العلماء والأدباء- مقابل خدمتهم طبعا أنه سيجد ضالته ويحقق الأمل الذي عاش من أجله حياته مكافحا لتحقيقه. لهذا ما كان أبو حيان يستقر في مكان، لقد ظل ينتقل عند هذا وذاك لطلباته، ودون أن يغفل في أثناء ذلك على الاستزادة العلمية، فكان التوحيدي أكثر من اتصل بالوزراء فهل نال عندهم بغيته؟
I -6 صلاته بالوزراء:
I -6-1 ابن العميد: هو ابن العميد الصغير: أبو الفتح علي بن محمد بن الحسين الملقب بذي الكفايتين، كفاية السيف و القلم، (1) وليس الفضل بن العميد (الأب) كما ذهب إلى ذلك ياقوت الحموي في معجم الأدباء. وضع فيه التوحيدي هو وابن عباد فيما بعد كتابا مهاجما (2) فيه هو: مثالب الوزيرين ( أو أخلاق الوزيرين). لم ينل الحظوة عنده لأسباب أهمها:
- كل من الرجلين معتد بما يملك: التوحيدي بعلمه وتصوفه، وابن العميد بملكه وأدبه.
- تلقائية التوحيدي، وعدم إجادته طرق التعامل مع الطبقة الأخرى.
(1) – أبو حيان التوحيدي الحوفي. ج1 . ص53.
(2) – من بين ما صور التوحيدي به ابن العميد: أنه بخيل، ماجن، صاحب لهو، حسود ظلم حقود، معتد بنفسه.
I -6-2 ابن عباد: هو اسما عيل ابن عباد، كان كاتبا لأبي الفضل وهو وزير، ثم كتب لمؤيد الدولة ابن ركن الدولة البويهي و هو أمير، ولما تولى مؤيد الدولة بعد أبيه، استوزر أبا الفتح (ابن أبي الفضل) بن العميد، ثم استوزره الصاحب وحكمه في أمواله، وهو الذي لقبه بالصاحب أيام إمارته لأنه كان يصحبه ويأنس به، وقيل لأنه صحب ابن العميد، فلما مات مؤيد الدولة مكن الصاحب لأخيه فخر الدولة أن يملك البلاد، فنصب الصاحب على الوزارة وبقي كذلك وزيرا حتى توفى سنة 385 هـ (1).
كان ابن عباد هذا عظيم القدر عند العامة والخاصة، كريما جوادا خاصة للشعراء المادحين، وكان مولعا بالقراءة والكتابة، وقد رأى الحسن البيهيقي مكتبة الصاحب لمدينة الري فقال: إن فهرس كتبها في عشر مجلدات !! (2) .
إذ كان الرجل على هذا القدر من المهابة والخير، لماذا لم ينل أبو حيان عنده مراده؟
- عدم لباقة أبي حيان مع الوزراء، فقد روى أنه مدح أبا الفتح أمام ابن عباد، مع علمه بالعداوة الشرسة بين الرجلين.
- كان يتجرأ عليه في مجلسه، يرد عليه ويمازحه ولم يكن الصاحب يريد ذلك (3).
- إنه لم يكن يعرف ما يدور في قصور الأمراء والوزراء من دسائس، لذلك تجده يتضجر و يتأفف مما كلفه به ابن عباد أمام الناس. فقد شكا لبعضهم أنه توجه لابن عباد ليتخلص من " حرفة الشؤم"، فوجدها أمامه فربما وصل الخبر إلى ابن عباد خصوصا والتوحيدي اعتذر عن النسخ لأنه يخاف على بصره من الضياع !! فكانت النتيجة أنه عاد إلى بغداد خاوي الوفاض، بغير زاد ولا راحلة، ولم يعطه في مدة ثلاث سنوات درهم واحد ولا ما قيمته درهم واحد (4)
(1) – من معجم الأدباء /ج6 .172.250 نقلا عن ن.م. ص55.
(2) – ن.م. ص56.
(3) – من ذلك : " حدث أبو حيان قال لابن عباد يوما : يا أبا حيان من كناك بأبي حيان؟. قلت: أجل الناس في زمانه وأكرهم في وقته. وقال: ومن هو؟ ويلك. قلت : أنت. قال: ومتى كان ذلك؟ قلت: حين قلت يا أبا حيان من كناك بأبي حيان فأضرب عن هذا الحديث وأخذ في غيره مع كراهة ظهرت عليه.
(3) – م.ن.ص 54 من بين ما دافع به ابو حيان عن نفسه قوله: " ... وما ذنبي يا قوم إذ لم استطع أن أنسخ ثلاثين مجلدة من هذا الذي
يستحسن هذا الكلب – يعني ابن عباد- حتى كأني" قلت كان النظام مأبونا، أو مات أبو هاشم في بيت خمار، أو كان عباد معلم
صبيان..." م.ن.ص 65.
I -6-2 ابن سعدان: هو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان ، وزير صمصام الدولة ابن عضد الدولة من سنة 373 هـ. ثم قتله صمصام الدولة سنة 375 هـ. (1)
ويبدو أن سوء الطالع ظل يلاحقه، فبد أن كانت أموره جيدة في البداية مع الوزير، إذ سامره ونادمه، ونسخ له كتاب الحيوان للجاحظ ,ألف له رسالة الصديق، نراه قد بدأ يشكو إهمال الوزير، ويتضرع إلى صديقه أبو الوفاء المهندس – الذي كان واسطة الوصل بينه وبين الوزير – لإصلاح الأمور. وربما كان للسانه سبب في ذلك، فقد تناول ندماء الوزير بالدم والسخرية ( أبو علي عيسى بن زرعة، ابن عبيد الكاتب، أبو القاسم الأهوازي، مسكويه...) والمصيبة الأكبر هي مقتل ابن سعدان بعد مؤامرة دبرها عبد العزيز ابن يوسف، فتولى الوزارة هو، ونكل بكل أعوان ابن سعدان، والتوحيدي لم يكن نديما له فحسب، لقد سبق له وأن دم ابن يوسف شر ذم. (2)
I -6-4 مسكويه: سنتحدث عنه فيما بعد ، ويبدو أنه حتى هذا لم ينل عنده بغيته.
خلاصــه: لم ينل التوحيدي حاجته المادية من اتصاله بالوزراء ، سواء لعيوب في تصرفاته أم لتحامل عليه من الوزراء بسبب تصوفه وعلمه، ولكنه لم يخرج بخفي حنين نهائيا، كانت اتصالاته هاته تجاربا أثمرت عدة كتب قيمة:
- ابن العميد وابن عباد مثالب الوزيرين
- ابن السعدان رسالة الصداقة والصديق، 40 ليلة من المسامرات هي التي أجبره ابو الوفاء المهندس فيما بعد على تدوينها له، فكانت هي كتاب الإمتاع والمؤانسة.
- مسكويه الهوامل والشوامل.
إضافة إلى ذلك: استطاع التوحيدي سبر أغوار النفس البشرية من خلال كثرة الشخصيات التي عرفها فاكتسب قدرة على تصوير الإنسان: - تصويرا خارجيا: شكلا /فيزيولوجيا/ لباسا/سكنا...إلخ
- تصويرا داخليا: أخلاقا/ نفسيات / ذهنيات... إلخ
فهل بعد هذا يقول التوحيدي أنه لم يستفد شيئا من اتصالاته تلك؟!!.
(1) – م.ن.ص 68.
(2) – قال فيه ابن يوسف أخس خلق الله ، وأنتن الناس، وأقدر الناس، وأقذر الناس، لا منظر ولا مخبر، وكانت أمه مغنية من أهل البيضاء، وكان أبوه من أسقاط الناس ونشأ مع أشكاله ، ثم إن الزمان نوه به، وكذلك يرتفع الساقط إذا ساعده الجد" ! الامتاع والمؤانسة. 3/231. م.ن. ص73.
I – 7- عقيدته: وقف علماء أجلاء موقفين متناقضين متضادين من دين هذا الرجل، فمنهم من شهد بحسن إسلامه ومنهم من اتهمه بالكفر والزندقة.(1)
- فهذا العالم اللغوي ابن فارس يقول: إن الصاحب أراد قتله لما ظهر له من قلة دينه وورعه وقوله في الشريعة ما لا يجوز، ويذكر أن الوزير المهلبي كذلك طلبه ليقتله ولكنه فر. وهذا ابن الجوزي (ت 597 هـ) يقول قولا اتبعه غيره كثيرون: " زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، والتوحيدي، وأبو العلاء المعري، وشرهم على الإسلام أبو حيان: لأنهما صرحا وهو مجمج ولم يصرح" (2) وبذلك قال الذهبي (ت 848)، ومن المحدثين نجد محمد كرد علي في أمراء البيان.
وبالمقابل شهد ياقوت الحموي بصدق إسلامه: " هو صوفي السمت والهيئة، متعبد، والناس على ثقة من دينه" (3) وابن السبكي يدافع عنه: " لم يثبت عندي إلى الآن من حال أبي حيان ما يوجب الوقيعة به. ووقفت على كثير من كلامه، فلم أجد إلا ما يدل أ نه قوي النفس مزدريا بأهل عصره، ولا يوجب هذا القدر أن ينال منه هذا النيل" (4) وهذا أحمد زركوب يقول :" إنه الإمام الموحد، العالم، الواسع العلم، ليس له شبيه للمكاشفات الإلهية والدراية بالتوحيد".
والحقيقة أن أدلة القائلين بزندقته تبدو غير موضوعية (5)، ولنقل أنها ربما كانت مكائد وشهادات زور ضد رجل، اعتز بنفسه وبعلمه خاصة، انتقاما منه، ورغبة في تحطيمه، حتى لا ينال مكانته المستحقة تاريخيا. وسوف نرى فيما بعد أن الرجل استطاع أن يؤسس اتجاه خاص به خاصة في الجانب الأدبي.
من بين ما اتهم به كذلك : الوضع: بسبب الرسالة التي روى التوحيدي أن أبا بكر وعمر أرسلاها إلى علي حينما تأخر عن بيعة أبي بكر، فجاء علي وحاورهما وحاوراه، وكان أبو عبيدة بن الجراح حامل الرسالة الشفوية إلى علي وهي رسالة طويلة ذكر أبو حيان أنه سمعها من القاضي أبي حامد المروروزي (ت 362 هـ) . وكالعادة وقف الباحثون منها موقفا مريبا: منهم من صدق بصحتها، ومنهم من أنكر وقال هي من وضعه، ومنهم المحايد، على أن أسبابا، تاريخية وإسنادية وعقدية وأسلوبية جعلت المنكرين أكثر.
(1) – على الرغم من تهجم التوحيدي على المتكلمين وزرايته بطريقتهم، إلا أن الباحثين وجدوا أدلة تثبت أخذه بهادئ المعتزلة:
كالتوحيدي والتعطيل ( تجريد الذات الإلهية من الصفات)، بالإضافة إلى هيئته و سيمته و تقشفه، وقد كان المتصوفة أنداك يرمون
بالريبة ويتهمون بالزندقة ببساطة. ربما كان تصوفه وهيئته سببا لاتهامه .
(2) – أبو حيان التوحيدي الحوفي ج1. ص 91 .
(3) – ن.م .
(4) – ن.م . ص91- 92.
(5) – لا يوجد في مؤلفات التوحيدي ما يدل على إلحاده، فهو يعظم القرآن الكريم والرسول (صلعم)
- لم يغال التوحيدي في تصوفه شأن المتكلفين .
- نعلم أنه نقبل على الدنيا، راغب في متعها والصوفيه عكس ذلك.
I- 8 - الجانب النفسي لشخصية التوحيدي: يبدو أن أبا حيان لم يتمتع بأخلاق عالية تعادل علمه الواسع وأدبه الجم، فكان إنسانا عاديا يعتريه الضعف أكثر مما تعتريه القوة، ويقع في الخطأ أكثر مما يقع في الصواب، كان إنسانا فريدا ومميزا في علمه ولكنه لم يعتقد أن هذا العلم هو أثمن ما يكسبه إنسان، فتراه يلهث وراء الدنيا طالبا الجاه والنفوذ، إذ اتصل- أكثر من غيره- لوزراء لم ينل عند معظمهم إلا الأسى والحسرة، ورغم ذلك لم ييأس، ولم يقنع ولم يرض بحياته بل لم يتعظ بعلماء أجلاء كانوا يشاركونه البؤس والفقر المدقعين لكنه أبى مشاركتهم الصبر والرضى بالنصيب، فهذا أبو سليمان المنطقي- وقد كان يحترمه ويحبه كثيرا- وذاك أبو بكر القومسي وصفه التوحيدي بأنه كان بحرا عجاجا وكان من الضرر والفاقة بمنزلة شديدة.
كان التوحيدي مقتنعا انه من حقه الحصول على متاع في الدنيا ولما لا منصبا يليق بمكانته العلمية فعصره عرف الكثير من الأدباء والعلماء والفلاسفة الذين تبوؤوا منزلة سياسية مرموقة ولم يكن يرى في نفسه أقل شأنا منه، ولكن سوء الحظ أضف له عدم لباقته وجهله بالطرق الديبلوماسية في معاملة الطبقة الأخرى، علاوة على سلاطة لسانه وانتقاصه للأخرين كما يقول الحموي: " سخيف اللسان قليل الرضا عند الإساءة إليه، الذم شأنه والثلب ذكاءه...." (1) كلها كانت أسباب في فشله الذريع في وطره، وكل ذلك أثر- إن صح التعبير زاد تأثيرا- في تكوين شخصية :".. مليئة بالتناقض، قلقة، معذبة،..." (2)
فمن جهة فقد الثقة في الطبقة الحاكمة عموما. ومن جهة أخرى كان يزدري الطبقة العامة و يعتبرهم شرا لابد من الإبتعاد عنه : " التصدي للعامة خلوقة، وطلب الرفعة بينهم ضعة، والتشبه بهم نقيصة، وما تعرض لهم أحد إلا أعطاهم من نفسه، وعلمه، وعقله، ولوثته ونفاقه، ورياءه أكثر مما يأخذ من إجلالهم، وقبولهم، وعطاءهم، وبدلهم (3).
أصبح التوحيدي وحيدا غير منتم إلى أية جهة، ولم يسعفه الحظ لأن يكون أي علاقة إنسانية سوية. لم يكن زوجا ولا أبا ولا صديقا... كل ذلك خلق له نوعا من الغربة أو الاغتراب، في هذا المجتمع الذي نبذه فنبذه التوحيدي، وأنكره فأنكره وثلبه هو وأهله. يقول التوحيدي:" بارت البضائع وغارت البدائع، وكسر سوق العلم وخمد ذكر الكرم،
(1)- معجم الأدباء. الحموي 15 – 6 نقلا عن ن. م ص
(2)- الاقتراب عند ابي حيان التوحيدي : دراسة فلسفية من خلال الفكر الوجودي حسن محمد حسن حماد مجلة فصول أبو حيان التوحيدي.
ج1 المجلد 14 العدد 3 خريف 1995 ص 7.
(3)- الإمتاع والمؤانسة . التوحيدي 1/225 نقلا عن : أبو حيان التوحيدي .الحوفي . 109.
وصار الناس عبيد الدرهم بعد الدرهم (1) وعن غربته يقول: " ... فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسا بالوحشة، قانعا بالوحدة، معتادا للصمت، ملازما للحيرة، محتملا للأذى، يائسا من جميع ما ترى... (2) كانت غربته إذن شاملة كاملة، والأصعب فيها أنها نفسية، كان غريب في بلاده وبين الأهل : " وقد قيل الغريب من جفاه الحبيب، وأنا أقول بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب... بل الغريب من إذا رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه (3) .
كل هذه العوامل مجتمعة ولدت في التوحيدي نزعة النفي والاغتراب كتفسير نفسي للمكانة العلمية العالية بمقابل المكانة الاجتماعية المتردية، وفي هذا الصدد يذكر وليد منير – والمصطلح له تحليلا ذكيا: " ... وقد يتصل النفي Négation بالسلبية Négativisme على نحو من الأنحاء، حيث تمثل السلبية اتجاها يتسم بفقدان التعاون والامتثال والخضوع ، نتيجة للتعارض الناشئ بين المعايير المفروضة والمفهوم الذاتي أو القيمة أو المكانة، كما تتصل السلبية بالاغتراب Aliénation الذي يعني في أحد مستوياته انفصال الفرد عن المفهومات والمبادئ السائدة، كما يعني في مستوى آخر انعدام القوة Pawer leassness بما هو الشعور بفقدان التأثير في المواقف الاجتماعية المحيطة (4).
يظهر هذا التحليل صادقا على التوحيدي باعتبار:
- فقدانه سبل التواصل مع الآخرين (أي آخر: قريب أو بعيد...).
- إحساسه باليأس والإحباط والسلبية، يظهر في كثرة تشكيه من الزمان و ظروفه، ولقد أطال في شكواه في عديد مؤلفاته حتى إن مسكويه قرعه على ذلك.
- إقدامه على عمل لا يخلو من الغرابة والعجب، لقد أحرق كل كتبه في أواخر حياته غير نادم ولا آسف عليها "... لقلة جدواها، فضن بها على من لا يعرف قيمتها بعد موته، ولأنها لم تنله المثالة والرياسة بين الناس..." (5).
(1)- م.ن ص 110-111.
(2)- الإمتاع والمؤانسة بين سلطة الخطاب وقصدية الكتابة : كميلة واتيكي. ص 69 (الصداقة والصديق 109-110) .
(3)- ن.م ص 70.
(4)- نزعة النفي عند أبي حيان التوحيدي. عن البعد النفسي والاجتماعي في الرؤية الصوفية. وليد منير . مجلة فصول أبو حيان التوحيدي.
المجلد 14 العدد الثالث. خريف 1995 ص 80-81.
(5)- البصائر والذخائر للتوحيدي، ص135، عن ابو حيان التوحيدي، الحوفي .