نحو استراتيجية قومية
للترجمة في الوطن العربي
-الترجمة عامل توحيد قوي-
مقدمة:
التفكير في الترجمة باعتبارها عامل توحيد قوي يتطلب إعادة واستئناف النظر في القضايا التي تشكل العناصر الجوهرية لهذه الفرضية وهي الترجمة باعتبارها عملية ثقافية كبرى تجري في السياق العام للثقافة العربية وتشكل نسقاً أساسياً من أنساقها، والثقافة العربية باعتبارها الإطار الكلّي الذي يتوزع على مجموعة أنساق تتآزر –لكي تكون إثراءً لهذه الثقافة أو توليداً لإشكالياتها. وموضوعة الوحدة والتوحيد القومي وكل مايمكن اعتباره مرتكزاً أو محوراً يمكن البناء والتأسيس عليه لرسم الصورة الجديدة للأمة العربية الواحدة وكل مايمثل دفعاً لعملية التوحيد القومي.
وبناءً على ماتقدم يصبح المطلوب التفكير في الترجمة باعتبارها الأداة –الموضوع الذي يتم من خلاله التواصل مع الثقافات الأخرى وهي بهذه المثابة تعتبر عنصراً جوهرياً في فهم الآخر واستيعاب ثقافته واستلهام إبداعاته وتوظيف ذلك في عملية المعرفة والنهضة القومية.
إننا إذن نجدد النظر في أطروحة توظيف عملية الترجمة في التوحيد القومي ونجد الحديث عنها باعتبارها تشكل مسألة أساسية في تجديد الفكر العربي وإثرائه وذلك لأسباب وجيهة ومتعددة أصبحت موضوعاً جوهرياً في الحوارات الراهنة حول واقع ومستقبل الثقافة العربية وارتباط ذلك بالنهضة وسبل مقاومة الغزو الثقافي والاختراقات المتنوعة ودور الثقافة العربية في إعادة الاستقرار والتوازن للإنسان والعقل العربي حتى يبدو مؤهلاً لمواجهة تحديات المرحلة القادمة.
إشكالية الترجمة
لعبت الترجمة وما ارتبط بها من بحث وتعريب ومثاقفة وإعادة تكوين للفكر العربي دوراً بارزاً في مجال الثقافة العربية، وأنشأت لها مكانة مميزة داخل هذه الثقافة بحيث ساعدت على تشكيل الفكر العربي تشكيلاً عقلانياً وحداثياً عندما ارتبطت الترجمة بعملية نهضة علمية –معرفية كبرى ولم تكن مجرد عملية ثقافية مجردة كما أنه تم الإقدام عليها باعتبارها خياراً حضارياً وقراءة وتحدياً للآخر ومحاولة عقلانية لاختراق فكره ومعطياته المعرفية والعلمية بغية فهمها وتجاوزها أو على الأقل التحاور المتكافئ معها.
ولابد من التفريق بداية "ونحن نتحدث عن توظيف جديد للترجمة في خدمة التوحيد القومي" بين حركة ترجمة أقدم عليها العرب وهم في لحظة تفوق وتقدم علمي وحضاري وكانت بهذه المثابة خياراً نهضوياً مسؤولاً وبين حركة ترجمة في لحظة وعي بالتأخر وأصبحت تشكل ضرورة معرفية وقومية وفي مدار من التراجع والانحدار والتبعية السياسية والثقافية والاستسلام أمام معطيات الحضارة الغربية. كما لابد من الإشارة إلى أن الوعي بأهمية الترجمة قد ظهر في مراحل مختلفة من مراحل التطور الثقافي العربي وكانت هناك محاولات ودعوات لرسم استراتيجية قومية للترجمة إلا أن عوامل مختلفة وضاغطة وتشوهات ثقافية كثيرة برزت في الأفق الثقافي العربي "في لحظة انسداده" وعطلت هذه المحاولات أو جعلتها تبقى أسيرة المؤتمرات والندوات المغلقة ولم تؤسس فعلاً ثقافياً قومياً تراكمياً يتيح المجال للبناء عليه وتطويره.
في اللحظة الثقافية العربية الراهنة التي تتلبد في أفقها غيوم التحديات لابد للترجمة أن تكون نسقاً بارزاً من أنساق تطوير الثقافة العربية وتجديدها ولن يتسنى لها احتلال مثل هذا الدور إلا بارتباطها باستراتيجيات ثقافية قومية ولابد أن تنبثق عنها باعتبارها أداة مثاقفة وحوار مع الآخر وثقافته لكي تشكل في محاولة تجديد حضورها ووظيفتها إجراءً معرفياً جديداً للثقافة العربية أو انطلاقة جديدة لها تعيد بناء وتوحيد كافة الخيارات الثقافية المتاحة لحماية ذاتها ودورها ومعطياتها التوحيدية والوقوف بوجه محاولات تهميشها وشرذمتها أو تقليص دورها في استنهاض الموقف القومي والإشارة إلى وجوده واستمراره.
فالترجمة لابد أن ترتبط بحالة ودائع نهضوي وبوظيفة قومية استنهاضية توحيدية باعتبارها عملية ثقافية كبرى ارتبطت في تاريخ العرب بتحدي الآخر ومحاولة فهمه وقراءة ثقافته وفكره في هذه المثابة كانت ولاتزال أداة لحوار الثقافات وتعميق الأبعاد الحضارية للفكر العربي.
إلى هنا نتوقف لكي لا نكرر الكلام حول أهمية الترجمة قديماً وحديثاً أو لكي لانعيد إنتاج مقولات مكررة ومكرسة وجرى الحديث عنها في كتابات وندوات سابقة لكي نصل إلى قضية جوهرية قوامها:
أن هناك فجوة هائلة بين ماتنتجه ثقافتنا العربية وثقافة الغرب بحيث أن الأمر أصبح يتطلب تفكيراً جدياً ومسؤولاً في هذه المسألة المعرفية الهامة وحيث أن ذلك يستدعي ترجمة آلاف الكتب في مجالات المعرفة المختلفة والتي شكلت القطيعات الكبرى في مجال الفكر الغربي وتمتد على مدار مئتي عام حتى تستطيع ثقافتنا أن تقف وثقافة الغرب على صعيد متكافئ وحتى نتمكن من الإعلان عن اندماجنا في مسائل العصر وإشكالياته.
هذا التخلف الثقافي وتحديداً في مجال ترجمة الأفكار التي أصبحت تشكل الفضاء الذي تحرك فيه الفكر طوال القرن العشرين، لايمكن تجاوزه إلا من خلال تفكير استراتيجي قومي يحدد المجالات التي يجب على الثقافة العربية أن تترجمها وتستوعبها حتى تخرج من إعاقتها المعرفية وتعانق قضايا العصر.
إن كل ماتقدم يقدم الإيحاءات الضرورية لكي تبدأ فينا عملية مراجعة نقدية كبرى لمسألة الترجمة في الوطن العربي وتجديد الحديث عن دوافعها القديمة وإسهامها في تكوين الفكر العربي والتركيز على سياقات الترجمة التي جاءت بدوافع جمالية حيناً أو أيديولوجية حيناً آخر والقصور الكبير في الترجمة التي انطلقت من دافع معرفي ونهضوي، وتجديد وظيفتها وربطها بغايات توحيدية –نهضوية-
وأي مراجعة لواقع الترجمة لابد أن تقودنا للحديث عن قضية فوضى الترجمة في الوطن العربي وتأثيراتها السلبية على مجمل الثقافة العربية.
وموضوع فوضى الترجمة يوقفنا بالضرورة أمام مسألة الاستباحة القطرية للثقافة وضعف التوجه والبعد القومي فيها والذي جاء نتاجاً طبيعياً للسياسات القطرية التي استسلمت تماماً لمعطيات الحاضر الراهن وابتعدت حكماً وخياراً عن الربط بين التوجهات الثقافية للقطر ومحددات الثقافة القومية وضروراتها.
والفوضى في مجال الترجمة يمكن تناولها من عدة زوايا وعلى مستويات مختلفة للحد من آثارها ووقف تأثيراتها السلبية على الثقافة القومية ويمكن البدء بـ:
-التنسيق العربي الثنائي والجماعي في مجال الترجمة.
-وضع خطة عمل لنقد وإصلاح واقع الترجمة في الوطن العربي.
-الوصول إلى استراتيجية قومية للترجمة في الوطن العربي.
وهذا التدرج يمليه الواقع القطري الراهن الذي أصبح لايقبل على التوجهات القومية بصيغتها الشمولية والجذرية ويقبل دفعاً للحرج بإجراءات وسيطة وأولية قد تصل إلى مآلها النهائي إلى صيغ استراتيجية شمولية.
نقول ذلك ونحن نفكر بالنداءات والندوات السابقة التي لم توفق في تحقيق نجاحات لافتة على صعيد التنسيق ووقف الفوضى واستنهاض حالة معرفية جديدة في مجال الترجمة ومن خلالها:
إذن لابد على هذا الصعيد من تحقيق الأمور التالية:
1-نقد وتحليل واقع الترجمة في الوطن العربي.
2-قراءة الخارطة العالمية للفكر لتحديد الحلقات الضرورية التي يجب ترجمتها بغية تشكيل الفكر العربي المعاصر عقلانياً وحداثياً ولردم الهوة بين فكرنا وفكر الآخرين.
3-إيجاد نمط من التنسيق بين مراكز الترجمة في الوطن العربي لوقف فوضى الترجمة.
4-وضع استراتيجية عقلانية للترجمة بحيث تضع أمام المترجمين العرب الأهداف القومية والمعرفية الضرورية لعملية الترجمة ومايجب أن يشكل غاية نهضوية للترجمة.
5-وضع قضية الترجمة في مدارها الثقافي الحقيقي باعتبارها أداة وعنصراً من العناصر الهامة لتجديد الثقافة واللغة العربية والحوار مع الثقافات.
ب-واقع الثقافة العربية والتحديات التي تواجهها
إننا نتحدث عن الترجمة باعتبارها نسقاً أو سياقاً من سياقات الثقافة العربية، ولذلك فإن حديثنا عن إشكاليات الترجمة يصبح مجزوءاً إذا عزلناه عن أزمة الثقافة العربية وتعاملنا بانفصال عنها، فالترجمة بهذه المثابة تمثل انعكاساً لواقع الثقافة العربية الراهن ولا تشكل مجالاً خاصاً يمكن تناوله بمعزل عن هذه الثقافة فهي (أي الترجمة) عملية ثقافية كبرى في سياق الثقافة العربية.
الثقافة العربية بواقعها الراهن تواجه تحديات متعددة خارجية وداخلية.
التحديات الداخلية تتمثل بـ:
-الأمية.
-الاستباحية القطرية.
-القصور الذاتي.
الأمية:
نصف أبناء الأمة العربية أميون (مع ملاحظة أنماط جديدة من الأمية لدى بعض قطاعات الشعب العربي الذي تعرض للحروب والحصار).
فكيف يمكن أن نتحدث عن ثقافة عربية قومية في مناخ من الانقطاع والعطالة الفكرية والأمية والجهل؟ إنها مسألة يجب أن تبدأ منها البدايات إذا أردنا التفكير بالثقافة باعتبارها عاملاً قومياً معنوياً هاماً للتوحيد وصياغة العقل والوجدان القومي الموحد.
الأمية بإمكاناتها السلبية النابذة تقلص مجال تأثير الثقافة والتواصل الثقافي لابل إنها تنتج جمهوراً مؤهلاً لالتقاط هجمة الغزو والاحتراق الثقافي، وهي أمية كما نرى تكبر وتتضاعف ولا تتقلص. هذا إذا اقتصرنا الحديث على الأمية التقليدية دون الأمية الأكاديمية والتعليمية السائدة والشائعة.