التــداوليــــة
منهج لساني و استراتيجية لتحليل الخطاب
إعداد : سعد بولنوار
ماجستير دراسات نقدية معاصرة
1- توطئة :
تعد المناهج المعاصرة من الأهمية بمكان , أن صارت تستشعر كنه الأدب و اللغة بما يقارب المفهوم العــلمي, وذلك في تناولها للقضايا بدقة و وضوح , وتعد التداولية - باعتبارها استراتيجية هامة في تحليل الخطاب - أقدر و أصلح هذه المناهج بما تتيحه من إجراءات فعالة وهذا يعني " الجمع بين المنهج البنائي الوصفي و المنهج التفسيري .... لأننا نحتاج إلى تفسير الظواهر الثقافية أكثر من وصفها , وأن الوصف وحده يعزل الأثر الأدبي عن المجتمـــع والتاريخ" , أي أن العمليـــة الإبداعية أو اللغوية لا تتحــقق إلا في ظل تواصــل حقيقي بين باث ومتلــق - ولا أقصد بالحقيقي التواصل العيني لكن أن يكون المؤلف من ضمن اعتبارات الناقد - فضلا عن طبيعة الأثر الأدبي أو النص " لأن أي عملية تواصلية لا تكاد تتم في غياب الشروط التداولية فملفوظات الخطاب لا تنفصل هي الأخرى عن أسيقة التلقي : ومنها الباث والمستقبل والجمهور والنسق وشكل الخطاب والمقام والقناة والموضوع والغرض ومفتاح التقويم " , وعلى هذا الأساس يمكن أن نلج إلى الجانب النظري لهذا المنهج من خلال أصوله الفلسفية و روافده المنهجية التي بني عليها , وكذا ما يسهم من الوجهة اللسانية في صقل بعض المفاهيم التداولية .
2 - الأصول والمنطلقات :
2-1 - الإطار الفلسفي :
تعتبر الفلسـفة التحليليـة المنبع الأول الذي انبثقـت منه أولى البـوادر التداولية , والمتمثلة في : " الأفعال الكلامية " , وهذه الفلسفة تفرعت عنها فلسفات أخرى ساهمت في بلورة النظرية التداولية بصـورة عامـة .
وكان الفيلسوف الألماني ( غوتلوب فريجه ) رائد هذا الإتجاه من خلال التحليلات اللغوية التي أجراها على العبارات اللغوية وعلى القضايا مميزا فيها بين " مقولتين لغويتين تتباينان مفهوميا و وظيفيا وهما : اسم العلم و الاسم المحمول , وهما عماد القضية الحملية " وذلك في كتابه : أسس علم الحساب فاسم العلم في نظر ( فريجه ) هو الذي يشير إلى فرد معين أما المحمول فإنه يقوم بوظيفة التصور , وقد اعتبر الفلاسفة أن ما جاء به ( فريجه ) يعد انقلابا جديدا وذلك بما يتجلى في رؤيته الدلالية التي تميز بين اسم العلم و الإسم المحمول وبين المعنى والمرجع ، كما ربــط بين مفهومين تداوليين هامين همـا : الإحــالة والإقتـضاء ، ويمكن إجمال مفهوم الفلسفة التحليلية في جملة من المطالب و الإهتمامات والتي تتلخص في ثلاثة :
- ضرورة التخلي عن أسلوب البحث الفلسفي القديم وخصوصا جانبه الميتافيزيقي .
- تغيير بؤرة الإهتمام الفلسفي من موضوع (( نظرية المعرفة )) إلى موضوع (( التحليل اللغوي )) .
- تجديد وتعميق بعض المباحث اللغوية , ولا سيما مبحث (( الدلالة )) ، والظواهر اللغوية المتفرعة عنها وقد تفرعت الفلسفة التحليلية إلى ثلاث اتجاهات وهي :
- الوضعانية المنطقية Positivisme logique , بزعامة رودولف كارناب.
- والظاهراتية اللغوية Phénoménologie du Langage , بزعامة إدموند هوسرل.
- وفلسفة اللغة العادية Philosophe Du Langage Ordinaire , بزعامة فيتنغشتاين
وما يهمنا في هذا الصدد هو هذا الإتجاه الأخير الذي يصب في المنحى التداولي ، باعتبار أن ظاهرة الأفعال الكلامية ما هي إلا نتاج تولد من النقد الذي وجهه ( لودفيغ فتنغشتاين ) للمبادئ التي قامت عليها الوضعانية المنطقية , وكـذلك " الحديث عن طبيعة اللغة المعنى في كلام الرجل ( الإنسان ) العادي " , فالمعنى هنا ليس ثابتا إذ أنه يتغير بحسب مقامات الأحوال , وهو الأمر الذي أسهم في نشوء عدة قضايا لغوية من أهمها : الإحالة , والاقتضاء* , و الاستلزام الحواري , ومفهوم الافتراض المسبق . و من جهـة أخرى نجد أن للمفاهيم التداولية الأخــرى أصولا فلسفية رصينة , فقد انبثقت " نظرية المحادثة " من فلسفة ( غرايس ) التي يدور موضوعها في " مبدأ التعاون "وما ينجر عنه من مسلمات حوارية , وولدت " نظرية الملاءمة " من رحم علم النفس المعرفي حيث أنها تفسر الملفوظات , وظواهرها البنيوية في الطبقات المقامية المختلفة .
2 – 2 – المناهج النقـــدية و اللسانية :
أثارت قضية الدليل في المنحى اللساني والسيميائي الكثير من الدراسات والجدل حول طبيعة تشكل عناصره وكذا الوظيفة التي يؤديها هذا الدليل في نظرهم , وعلاقة الدليل بالفكر والمرجع , ولا مناص من الرجوع إلى التصورات الجادة التي عبرت عن آراء أصحـابها , ومن هذه التصورات , تصـورات من (ش . س . بيرس ) و ( شـارل موريـس ) و ( كــ . بوهلر ) , وهي بالإجمال أرضية صلدة لتشكل المفاهيم التداولية باعتبارها منهجا لسانيا قبل أن تكون منهجا نقديا لتحليل الخطـاب .
2 – 2 – 1- تصور ( ش . س . بيرس ) :
أسهم الفيلسوف الأمريكي ( شارل ساندرس بيرس ) بقسط وافر في بلورة النظرية التداولية وذلك من خلال فعالية الذوات في رؤيتهم للـعالم , والإدراك الحاصل عن هذه العلاقة عبر رؤية كونية شــاملة , وذلك من خـلال ثلاث مراحل مرت بها هذه النظرية :
1- مرحلة الاستلهام من الكانطية ( 1851- 1870 ) , وهي المرحلة المتميزة بمراجعة المقولات الكانطية في سياق منطق أرسطي ثنائي .
2- مرحلة منطقية صرفة ( 1870- 1887 ) وفيها يقترح " بورس " تعويض المنطق الأرسطي بمنطق العلاقات , هذا الأخير الذي سيصبح مرتكز تصوره الثلاثي لمراتب العلامة .
3- مرحلة سيميوطيقية ( 1887 – 1914 ) , وفي هذه المرحلة سيطور " بورس " نظريته الجديدة حول مراتب العلامة , من خلال كتاباته في هذه الفترة , والمعتبرة اليوم المرجع الأساسي في نظريته السيميوطيقية , وعلى الأخص منها : رسائله إلى "الليدي ويلبي " ( L.WELBY ) : 1903 – 1911 , والمقالات المنتقاة .
وبهذا الطرح يمكننا أن نعتبر أن هذه المراحل الثلاث إنما تتمثل في فلسفات إتكأ عليها التنظير البرسي , فمن الفلسفة التطورية إلى الواقعية وصولا إلى الفلسفة البراغماتية , و أساسها يكمـن في معارضــة الواحدية ( Monisme ) , و الثنـائية ( Dualisme ) ، وذلك " انطلاقا من أن الفكر ليس معرفة خارج الموضوع المراد معرفته ( شيئ / طبيعة ) ولكنه سيرورة في الأشياء , في تطور خلاق معها " , ويمكن اختزال الدليل إلى ثلاث محاور رئيسية نستخلصها من قول ( بـرس ) نفسه :
" الدليل أو الوحدة الممثلة Representem ( الماثول ) هو شيء موجود ههنا من أجل شخص ما لغرض ما , وذلك على نحو من الأنحاء , والدليل هذا يتوجه إلى شخص ما , أي أنه يحدث في فكر هذا الشخص دليلا مساويا أو قد يحدث فيه دليلا أكثر تطورا , وهذا الدليل المحدث ( بفتح الدال ) أسميه : مؤول الدليل الأول Interprétant ( المؤولة ) , والدليل موجود هنا من أجل شيء ما : هو موضوعه وهو موجود هنا من أجل هذا الموضوع لا من حيث كل علاقاته بل من حيث إحالة على نوع من الفكرة التي أسميها أحيانا قاعدة الوحدة الممثلة Base De Representem " ، محددا في هذا صيغ الوجود التي تتمثل في :
1- الأولانية : هي نمط الوجود الذي يقوم على واقع كون : موضوع / ذات (Sujet ) هي موضوعيا كما هي , دون اعتبار أي شيء آخر , إنها وجود الشيء أو الذات في ذاتها .
2- الثانيانية : هي نمط الوجود الواقعي الفعلي المتجسد ( المتعلق بمقولتي الزمان والمكان ) والوجود المتجسد يرتبط ويتعلق بعالم الموجودات , من هنا فالثانيانية تعني صيغة الوجود المتعلق بما قبله .
3- الثالثانية : هي نمط الوجود المتوقع بناء على كون الحدث أو الشيء المتوقع الوجود محكوما بقانون يضبطه , والقول بالقانون يعني إمكانية التعميم .
وهي فروع تناسب حسب ترتيبها , الأبعاد الثلاثة للدليل : 1- الممثل , 2- الموضوع – 3- المؤول .
2– 2 – 2 : تصور (شارل موريس ، المولود عام 1901 ) :
وكما هو معلوم , فقد بسط ( شارل موريس ) الكثير من آراء ( بيرس )كما طور بعض مفاهيمه النظرية , ومن ذلك رؤيته للتصنيف الوارد في الثلاثية السالفة الذكر بالمعاني التالية ( إيقون , مؤشر , رمز ) " أصـل هذا الاختزال ليس هـو ( بيرس ) بل ( شارل موريس ) منبع كثير من التبسيطات ، المنتشرة بين السيميوطيقيين داخل وخـارج الولايــات المتحدة" . وهذا ما يتجلى بوضوح تام في أعماله التي تدرجت في بعث طروحاته المتسمة بالجدية "تأسيس نظرية الدليل ( 1938 ) التمييز بين التركيب ( دراسة قواعد توافقـات الأدلة ) والتداوليـة ( دراسة قواعد استعمال الأدلة على اعتبار الدوافع ) " .
ومن هذا المنطلق فإن الأمر يقتضي أن ننظر إلى الأشياء المدلول عليها والمؤولات على اعتبتار أنها "سيـرورات سلــوك فالجسم من حيث هو جسم يفعل في المحيط وينفعل به , علما بأن وظيفة المحيط وأهميته عاملان حاسمان في إرضاء حاجاته ومن ثم فإن هناك تفاعلا بين هاذين العاملين " , فهو يختلف مع ( بيرس ) في هذا الطابع السلوكي الذي يميز نظريته , و سيرورة الدليل أو ما يعرف بــ Sémiosis ( التسويم ) تحتوي في نظره على أربعة عناصر هي :
- العنصر الذي يقوم مقام الدليل أو " الناقل " Porteur .
- العنصر الذي تتم إحالة الدليل عليه أو " المدلول عليه " .
- عنصر " الأثر " Effet الذي يحصل لدى المرسل إليه والذي يبدو له وكأنه الدليل أو المؤول .
- المؤول Interprète .
وبطبيعة الحال لا يوجد هناك انتظام ما يسهم في تراتبية هذه العناصر عند كل سيرورة سيميائية , فهي تتداخل بصورة لا يمكن الفصل بينها محدثة تعقيدا كبيرا وهذا بدوره يطرح ثلاث توجهات , فالتوجه الأول يكمن في الدراسة التركيبية أي العلاقات التي تنتظم الأدلة فيها ، والثاني يتجسد في العلاقات القائمة بين الأدلة والأشياء التي تحيل عليها وهذا هو البعد الدلالي , ثم عندما نكون في مرحلة شرح وتفسير تأثير استعمال تلك الأدلة نجد أنفسنا في خضم اللسانيات التداولية ، ويمكن تبيان ذلك في هذه الخطاطة :
الأدلة :
الدراسة التركيبية اتجاهات البحث الأشياء المدلول عليها:
الدراسة الدلالية.
المؤولون المستخدمون :
الدراسة التداولية
ومن هذا المنظور , يعتبر ( موريس ) بأن البنية اللغوية أو الأدلة التي نستخدمها ذات ثلاث وظائف أساسية كما سبق وأن رأينا في الخطاطة السابقة وبالنسبة للرؤية التداولية هي عبارة عن نظام من السلوك "في كل مرة يستوجب ( دليل ما ) اتخـاذ موقف لدى المتلقي , سواء كان هذا الموقف إيجابيا أو سلبيا إزاء حدث ما أو شيء ما أو مقام ما "
2 – 2 – 3 تصور الدليل عند ( كارل بوهلر ) :
ينطلق عالم النفس اللغوي الألماني بصورة كلية من لبنات التيار التقليصي البنيوي , بحيث يقف منهجه ضد التقسيم الثنائي للدليل عند( دي سوسير ) وبالمقابل يقترح (كارل بوهلر) في نموذجه التبليغي ثلاث وظائف أساسية للدليل " أيا كانت الكيفية التي نعالج بها الأشياء فإن سييل البحث اللغوي التاريخي يمر عن الفعل اللغوي Acte De Langage بوصفه مصدر كل ما هو تاريخي في اللغة , وهو في حاجة إلى نظرية في النشاط اللغوي " .
فنلاحظ أن الدليل عند (بوهلر ) يتجاوز التصورات السابقة في أنه محور العملية التواصلية ضمن وظائف تعتبر أساسية للنشاط اللغوي في إطار الاستعمال ويمكن تبيان ذلك في هذه الخطاطة :
مرجع
وظيفة التمثيل
وظيفة التعبير وظيفة النداء
المرسل الدليل المرسل إليه
فكما هو مبين يقوم الدليل بتمثيل العالم الخارجي , وبما أن المرسل يستخدمه من أجل الإبانة عن غرضه فإنه يضطلع بوظيفة التعبير , وبطبيعة الحال فإن الدليل يتوخى أثرا على المرسل إليه باعتبار أنه موجه إليه وذلك ما يسمى بوظيـفة النداء .
2-3- النظرية التواصلية :
إن الوظيفة الأساسية لأي لغة من اللغات هي الوظيفة التواصلية بين مرسـل و مرسـل إليه , و على هـذا المبـدأ بنى أغلــب اللسانيين نظرياتهم فيطلق عليها ( رومان ياكبسون ) وظيفة إقامة الاتصال ، ويقول ( أندري مارتينيه ) في هذا الصدد " وفي نهاية المطاف فإن التبليغ أي التفاهم المتبادل هو الجدير بالاعتبار كوظيفة مركزية لهـذه الوسيـلة التي هـي اللسـان " وهـناك من جـعل التواصـل في حـد ذاتـه هو الموضـوع الجـدير بالدراسـة والتنـظير , ومـن هـؤلاء ( يورغـن هابـرماس ) ضـمن ما يسـمى بمـدرســة ( فرانكفـوت ) ويهـدف مشـروع ( هابرمــاس ) إلى " محاولة تحرير المجتمع المعاصر من أشكال العبودية ووطأة الهيمنة وقهر الندرة و الإنفعالات الحادة فإن ذلك يبدأ من اللغة بوصفها تواصلا " , وتنبني فلسفة ( هابـرماس ) التواصليـة من نقـده اللاذع للفيلسـوف الأنطولوجي ( مارتن هيدغر ) والذي يعتبر أن " الوجود الإنساني حوار مع العالم , هذا الحوار عود إلى فكرة التواصل الذي انقطع بزعمه بتأثير بعض الإتجاهات. الحوار يرتبط عند ( هيدجر ) بالإنصـات " , ومن هذا المنطـق يحمـل ( هابرماس ) ( هيدغر ) المسـؤولية الأخلاقية " من خلال عقيدة الصمت المطبق التي مارسها سنوات طويلة , ليختم مقاله بالفقرة الشهيرة ..... أعتقد أنه حان الوقت الآن لكي نفكر مع ( هيدغر ) ضد ( هيدغر )" , ونجد ( هابرماس ) يؤسس مشروعه على عدد من المصالح , وذلك في كتابة ( المعرفة والمصلحة ) والتي تتمثل في" :
1- مصلحة تقنية Intérêt Technique : وتتمحور حول تطبيقات العلم التجريبي لتلبية حاجات مادية معنية
2- مصلحة عملية Intérêt Pratique : وتهتم أساسا بعملية التواصل بين الأفراد وبين الجماعات الاجتماعية المختلفة , وذلك من خلال تأكيدها على اللغة كأداة تواصل و إفهام من الطراز الأول .
3- مصلحة تحررية Intérêt Démancipation : تقوم على ملاحظة الأفعال والأقوال المشوهة المولدة عن ممارسة القوة ومن ثم محاولة التحرر منها ومجاوزتها إلى تأمل ذاتي معبر .
وأضاف ( هابرماس ) على هذا الكتاب كتابا آخر بعـنوان ( نظرية الفعل التواصـلي ) حيث تنـاول فيه مفاهيم العقلانية وكذا تحليل مظاهر العقلنـة في المجتمع المعاصر , داعيا في ذلك إلى عقـل منفتح ، جدي , بإمكانه أن ينظـم العلاقـة بين المعرفــة المجردة و الواقع و يكون بهذا الصنيع قد ساهم في بعث أسس جديدة لأخلاق المناقشة ذلك أن آفاق ما بعد الحداثة تبشر بمرحلة أكثر تعقيدا هي مرحلة الرأسمالية المتقدمة , فهذه العلاقات التي أضفـاها ( هابرماس ) أسهمت بدون أدنى شك في تبلور الخطاب التداولي , ويعلق ( كارل أوتو آبل ) في هذا المساق " بداية , لابد من القول إن نظرية الفعل التواصلي تحتوي بالضرورة , برأيي , على المنطوقات الشاملة الشكلية التي تعمل على توضيح العلاقة الداخلية بين الفهم الممكن لأفعال اللغة , وبين ما يفترض أن تعرفه عن شروط الإمكـان القـادرة على توضيح مزاعم الصلاحة لدى أفعال اللغة " , فالفعل التواصلي هو المرتكز الذي تطور مما تقتضيه المعرفة الإنسانية من المصالح .
3- النظرية التداولية :
يعد الدرس التداولي ثريا جدا , وذلك بما يقدمه لنا من إجراءات سواء على مستوى الاستعمال اللغوي الطبيعي , أو على مستوى الخطاب الأدبي , " وعليه , فإن الحديث عن التداولية وعن شبكتها المفاهيمية يقتضي الإشارة إلى العلاقات القائمة بينها وبين الحقول المختلفة لأنها تشي بانتمائها إلى حقول مفاهيمية تضم مستويات متداخلة , كالبنية اللغوية , وقواعد التخاطب , و الاستدلالات التداولية , والعمليات الذهنية المتحكمة في الإنتاج والفهم اللغويين , وعلاقة البنية بظروف الاستعمال .....إلخ" , و على هذا الاعتبار سيكون طرحنا الذي سنخوض فيه في الأقسام التطبيقية نوعا ما من المقاربة التي تأخذ في اعتبارها هذه العلاقات المختلفة , و سننتناول على حسب الترتيب نمطين من التداولية , يتمثل الأول فيما جاء به ( ج - أو ستين ) و ( ج - سيرل ) , والنمط الثاني يتعلق بتحليل الخطاب ونموذجنا في ذلك بعض النماذج الحداثية و المعاصرة التي تناولت تداولية الخطــابـات .
3 - 1 - التداولية عند كل من ( أوستين وسيرل ) :
يمكننا تلخيص ما جاء به ( أوستين ) في نقطتين اثنتين :
1- رفضــه لثنائية : الصدق والكذب .
2- إقراره بأن كل قـول عبارة عن فعل .
ويبرر ( أوستين ) رفضه هذا لثنائية الصدق والكذب , على قاعدة مفادها " أن هناك جملا ذوات بنية مشابهة لجمل الإثبات والتي يمكن للمتكلم أن يصطنع بها أشياء عديدة : الأمر التقرير , التنبيه ...... إلخ ، غير أن هذا التماثل الموجود في بنية بعض الجمل خـداع .
• آمـرك بالمجيء ( أمر )
• آمـره بالمجيء ( وصف , تقرير، حال ) "
ثم يصل ( أوستين ) إلى نتيجة في أنه توجد جمل وصفية إثباتية أو تقريرية يمكن لها أن تكون كاذبة أو صادقة , وجمل أخرى ذات نمط خاص لا تخضع لهذا المعيار , ويعطيها ( أوستين ) في ذلك أمثلة يبرهن بها على وجاهة طرحة :
• أتمنى لكم سـفرا ممتعا .
• نشكـركم على حسن انتباهكم .
فهذه الأقوال لا يمكن أن توصف لا بالصدق ولا بالكذب , غير أن مآلها هو النجاح أو الإخفاق بحسـب ما يمليه مقتضى الحال , ويعتبر ( أوستين ) هـذه الأقـوال أفعـالا إنجازية والتي يقابلها الأفعـال الخبـرية أو التقـريرية , يقــول ( أوستين )" بالنسبة لهذه الأمثلة فهي توضح لنا بجلاء أن تلفظ الجمـلة ( في سياقات خاصة ومؤكدة ) لا يصف لنا كونها توجب معرفة ما أنا بصدد فعله في معرض الحديث , فلا أؤكد ما أنا أفعله : وهذا هو الفـعل , فأي من الملفـوظـات المستشهد بها لا صادق ولا كاذب " ، بيد أن الأمر يقتضي وجود كيفية اصطلاحـية والتي تستـدعي - بطبيعة الحال - نتيجة اصطلاحية , فالأفراد يتلفظون بعبارات معينة في ظروف معينة وهم ملزمون بالامتثال إلى قواعد الكيفية بطريقـة مخلصة وكاملة , ويمكن لهذه الأقوال أن تكتسي أشكالا مختلفة , وما هو شائع منها والذي يرد بكثرة هو ما يكون المتكلم المفرد هو الفاعل فيه وزمن الفعل هو الحاضر الإشاري من مثل هذه الأمثلة :
• أشكـــرك .
• أعـدك بالمجيء .
ويضيف ( أوستين ) ملاحظة أخرى , بأن هذه الأفعال سواء الإنشائية أو الخبرية غير كافية بالمقدار الذي يحيط بالمعنى القصد إذا لم تقرن بوسائل أخرى قد تساعد في الإلمام بجوانب المعنى , ويذكر في هذا الباب : الصيغة - أو الكيفية - التنغيم والنبر – سياق العبارات الحالية - علاقات العطف- الإيماء والحركة التي تصاحب التلفظ – ظروف وملابسات التلفظ , وهذه كلها جوانب هامة لا يجب إغفالها , ذلك أنها محددات أساسية للمقصد المراد من كل قول أو كلام بجانبيه الداخل لساني / خارج لساني .
3 – 1 – 1 : الفعل الكـــلامي :
إذا اعتبرنا أن أفعال الكلام ما هي إلا وحدات أساسية للتواصل اللغوي , عندها يمكن أن نصف وقائع التواصل المعقدة حسب ما يثيره كل فعل ناتج عن قول معين , وعلى هذا الأسـاس فإن الفـعل الكـلامي " يعني : التصـرف ( أو العمل! ) الاجتماعي أو المؤسساتي الذي ينجزه الإنسان بالكلام , ومن ثم فـ ( الفعل الكلامي ) يراد به الإنجـاز الذي يؤديه المتكلم بمجرد تلفظه بملفوظات معينة " , وهو بهذا المعطى يعتبر النواة المركزية لمفهوم التداول في صورتـه اللغوية , إذ تتركز فيه كل الأنماط الأخرى من الأفعال القولية Actes Locutoires والتي تطمح إلى تحقيق " أغراض إنجازية Actes Illocutoires كالطلب والأمر والوعد والوعيد ..... إلخ " , وهكذا فإن هذا الفعل يلتمس التأثير في المخاطب بغرض تحقيق شيء ما , ويمكننا أن نفصل في تقسيمات الفعل "الكلامي الكامل " على هذا النحو :
أ - فعل القول ( أو الفعل اللغوي ) Acte Locutoire : ويراد به (( إطلاق الألفاظ في جمل مفيدة ذات بناء نحوي سليم وذات دلالة )).......
ب – الفعل المتضمن في القول Acte illocutoire : وهو الفعل الإنجازي الحقيقي إذ (( إنه عمل ينجز بقول ما )) وهذا الصنف من الأفعال هو المقصود من النظرية برمتها ......
ج - الفعل الناتج عن القول Acte Perlocutoire : وأخيرا يرى ( أوستين ) أنه مع القيام بفعل القول , وما يصحبه من فعل متضمن في القول ( القوة ) , فقد يكون الفاعل ( وهو هنا الشخص المتكلم ) قائما بفعل ثالث هو (( التسبب في نشوء آثار في المشاعر والفكر، ومن أمثلة تلك الآثار : الإقناع , التضليل ، الإرشاد , التثبيط ..... )) .
ولم يكتف ( أوستين ) بهذا وحسب ولكنه قام بحصر جميع الأفعال الكلامية فيما سماه هو " وظائف قيم الإنجاز " , وهو ما يقع في خمسة فصائل كبرى يمكن أن نوجزها على النحو الآتي :
- الأفعال اللغوية الدالة على الحكم Verdictifs : قدر حكم على....
- الأفعال اللغوية الدالة على الممارسة Exercitifs : عين , نصح , حذر.
- الأفعال اللغوية الدالة على الوعد ؛Promissifs : وعد، كفل , التزم .
- الأفعال اللغوية الدالة على السيرة Conductifs : شكر , هنأ , لعن .
ووظيفة هذه الأفعال هي ضبط سيرة وسلوك المتكلمين الاجتماعي .
- الأفعال اللغوية الدالة على العرض Expositifs : افترض اعترف , رد .
ويعد مشروع ( أوستين ) في الأفعال الكلامية بالأهمية بمكان , أن كان يزاوج بين القول والفعل في بداية نظريته , غير أنه سرعان ما راح يدعو إلى اعتبار أن كل قول عبارة عن فعل ولا يمكن الفصل في مضامين الفعل وذلك في كتابة الأثير (( عندما يكون القول هو الفعل Quand dire , c'est faire )) .
أما بخصوص تلميذ ( أوستين ) وهو ( سيرل ) فقد ذهب أبعد من ذلك , إضافة إلى شروحـاته الوافية حول الأفعـال الكلامية " ويتأكد الربط بين العبارة اللغوية ومراعاة مقاصد المتكلمين من خلال أعمال ( سيرل ) الذي عمل على متابعة المشروع الفلسفي الذي بدأه أستاذه ( أوستين ) , فقد عد الغرض المتضمن في القولbut illocutoire عنصرا و مكونا أساسيا من مكونات القوة المتضمنة في القول Force illocutoire" فما دام ( أوستين ) قد نظّر للفعل الكلامي فإن ( سيرل ) تابع مشروع أستاذه , إذ اهتم بـ (( القوة الإنجازية )) لذلك الفعل الكلامي , وهو ما عرف بمفهوم المنطق الإنجـازي , ويقترح ( سيرل ) أن هناك طــابعا خاصـا يشمــل بعض الأفعال , وهو ما يدخــل ضمــن (( الأفعال غير المباشرةIndirectes والأفعال المباشرة Direct )) .
وعلى ضوء ما ذكرنا نجده بداية ، يحدد لنا مفهوم القوة الإنجازية بقوله : "إن الهدف أو الوجهة لنمـط معين من الإنجاز , نقول , هو هدفه الإنجازي , إذ أن الهدف الإنجازي يشكل جزء من القوة الإنجازية لكن لا ينبغي أن نخلط بين الأمرين , فهنا على سبيل المثال هدف إنجازي للطلبات التي يمكن أن نعتبرها في الوقت نفسه أوامرا فهي تبحث عن فعل شيء ما للمستمع " ونلاحظ أن القوة التي يقصدها إنما تتركز فيما يحدث لدى المتلقي من تأثير , وهو الأمر الذي لا يمكن أن يحدث بوساطة عنصر واحد إنما هو " تضافر العديد من العناصر وليس حكرا على عنصر واحد بعينه , ومع ذلك فهو دون أدنى شك الأكثر أهمية " , ثم يتناول ( سيرل ) مستويات الاستعمال اللغوي ، فهناك في نظره ما يسميه المعنى الحرفي أو المباشر , وهذا المستوى هو أبسط المستويات لأنه يتناول اللغة العادية ذات المعنى المحدد ، غير أنه ولج مستوً آخر يبدو أعمق من سابقه لهروبه من إمكان التحديد إذ يتعلق بــ " اللا مباشرة ، وما هي الاستعارة وكيف تمتاز في ذات الوقت عن الصيغ الحقيقية وأشكال القول المجازية وما الذي يجعلنا نستخدم عبارات ذوات استعارة بدل استخدام المعاني الحقيقية " ويخلص ( سيرل ) إلى نتيجة مفادها بأن القول الحقيقي يكمن وجوده متى حصل تطابق تام بين معنى الملفوظ وما يقصده المتكلم وما يفهم من قبل السامع ، وتقف الاستعارة على طرف نقيض من ذلك إذ أن حرفية الملفوظ ليست هي المقصودة في ذاتها , إنما المقصود هو ما يفـضي به هذا المعنى الحـرفي إلى معنى آخر بقرينة سياقية ، وهـذا ما تناوله ( عبد القاهر الجرجاني ) في كتابه (( دلائل الإعجاز )) إذ يقول : " تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ الذي تصل إليه بغير واسطة , وبمعنى المعنى أن نعقل من اللفظ معنى , ثم يفـضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر ......" , وطبـعا يربـط ( سيرل ) بين هذه الأفعال الإنجازية و قوتها وبين مفهوم المقصدية إذ يعتبره هدف العملية برمتها , ولذلك سنورد نموذجا لـ ( سيرل ) ويتمثل في مثال (( الوعد )) إذ أننا " نريد أن نقدم هنا مرة أخرى الشروط التسعة لـ ( سيرل ) في شكل مكتمل... ومن ثم نحصل بهذه الطريقة على منطلق أساسي لاعتبارات أخرى حول أنماط قواعد الفعل الكلامي , ويتبين في هذا الصدد أن القواعد التي تشكل الفعل الإنجازي متشابكة على نحو متشعب مع قواعد القول أو القضية " ، وهو ما يقودنا إلى الفهم النظري للعمليات السابقة , ولإتمام العملية على أحسن وجه لا بد من :
حين يعبر متكلم ما ( م ) في وجود مستمع ما ( ع ) بجملة ما ( ج ) فإنه ينبئ المستمع ( ع ) أن ( ق ) بواسطة المنطوق الصحيح ( ج ) صادقة وتامة , فقط إذا توفرت الشروط التالية :
1- الشروط العادية للانطلاق والوصول .
لابد أن لا توجد عوائق بين المتكلمين , إضافة إلى فهم اللغة التي يُتحدث بها .
2- في منطوق ( ج ) يعبر المتكلم ( م ) عن القضية ( ق ) .
إذ أن الفعل الإنجازي له مضمون موضوعي ما يسمى بــ ( قضية ) .
3- باعتبار أن المتكلم ( م ) يعبر عن قضية ( ق ) , فإن ( م ) يخبر بفعل مستقبلي ( ق ) للمتكلم ( م ) .
تحدد أوجه الإنجاز سمات معينة للقضايا التي تتبعها .
4- قد يرى السامع ( ع ) تنفيذ المتكلم ( م ) لفعل ( ف ) أفضل من تركه , ويظن ( م ) أن ( ع ) قد يرى تنفيذ للفعل
( ف ) أفضل من إهماله .
لا يعد المرء بأية أفعال مزعجة للسامع .
5- ليس واضحا سواء بالنسبة للمتكلم ( م ) والسامع ( ع ) , أن ( م ) سينفذ الفعل ( ف ) بصورة عادية .
لا يعد المرء بأشياء بدهية فالموعود به كما يقال دائما هو شيء غير عادي .
6- يقصد المتكلم ( م ) تنفيذ الفعل ( ف ) .
وهذا ما يدعوه ( سيرل ) شرط الإخلاص .
7- يوجد في قصد المتكلم ( م ) أن يلتزم بالمنطوق ( ج ) لتنفيذ الفعل ( ف ) .
وهو ما يسمى لدى ( سيرل ) بالشرط الجوهري لإنجاز وعد .
8- يريد المتكلم ( م ) أن يحدث لدى السامع ( ع ) معرفة ( 1- أ ) وهي أن المنطوق ( ج ) ينظر إليه على أنه قبول للالتزام بتنفيذ الفعل ( ف ) , يريد ( م ) أن يحدث المعرفة من خلال المعرفة ( 1 – أ ) ويكمـن في قصـده أن ( 1 – أ ) بناء على معرفة السامع بالمعنى ( بواسطته ) تقرها ( ج ) .
9- القواعد الدلالية للغة المتكلم بها من قبل ( ج ) والسامع ( ع ) ذات خاصية وهي أن ( ج ) لا تنطق صحيحة ومخلصة
( صادقة ) إلا حين توفى الشروط من 01 إلى 08 .
فالشرطان 08 و 09 يرتبطان بمقصد المتكلم و المحتوى القضوي للمنطوق , وبالتظافر مع الشروط الأخرى نجد أن التأثير الإنجازي قد أحدث لدى السامع ( ع ) من خلال معرفة السامع بمقصد المتكلم تأثيرا تصير بموجبه المعرفة عبر فهم السامع ( ع ) بأن أهمية ( ج ) مقبولة .
ويمكن من خلال ما مر بنا عند ( سيرل ) أن نفترض في حدود الإمكان قاعـدتان مهمتان تدخلان في الإطـار التأسيسي لجميع الأفعال الكلامية وهما : القاعدة القضـوية base propositional ، والقاعـدة التمييزية base distinctive ، وإذا كان هذا هو حال الاستعمال اللغوي البسيط , فما حال الخطـاب الأدبي ذلك أن " الفرضيات المطـورة من قبل ( سيرل ) تسمح بنا بتوجيه نظرة جديدة على الأدب أو على أي حال ما يدخل كموضوع للمنظور التداولي " , فأين المكامن النظرية للتحليل التداولي للخطاب الأدبي - و الروائي منه على الأخص- ؟
3-2 - تداولية الخطاب الأدبي :
تناولت التداولية الخطاب الأدبي , بأنواع متعددة من الإستراتيجيات , لأن المشكلة في الخطاب الأدبي - والروائي خاصة – ليست هي بنيته كما حصل ذلك في لسانيات الجملة ولسانيات النص , ومقايسة إجراءات النمط الأول عـلى النمط الثاني ، ولكن المشكلة أن هذا الخطاب خطاب عدولي يتجاوز صرفية المعنى العـادي إلى مستوى آخر ينفلت فيه المعنى من إمكان تحديده , وبالتالي تتعدد فيها الاحتمالات , وهذا ما أراد ( سيرل ) قوله " نقول بصـورة واضحة بأن كلمـة (( حرفي )) في تعبير (( المعنى الحرفي للجملة )) يكون مجرد لغو , ذلك لأن الأنماط الأخرى للمعنى والتي تتجسد في المعنى الساخر والمعنى الاستعاري والأفعال الكلامية الغير المباشرة و الاستلزامات الحوارية ليست – على نحو متكافئ – تابعـة للجمل ولكن هي تابعة لتلفظ الجمل من قبل المتكلم " , وعلى اعتبار كهذا يمكن أن يكون القارئ هو الفاعل عن طريق تلفظه لعدد كبير من الملفوظات في سياقات متغايرة .
3-2-1- تحليل الخطاب عند ( مانغينو maingueneau ) :
وهو ما نراه جليا عند ( مانغينو ) إذ يعطي الأولوية للقراءة باعتبارها المفتاح المؤدي إلى الفـهم مع اعتـرافه ضمنا بالصعوبات التي تكمن في الخطاب " عموما كل التواصل المكتوب يعتبر هشا لأن المتلقي لا يشـارك في المقـام التلفظي للمتكلم " , وهذا الإفتقار في الخطاب المكتوب عُوض بخصائص الكتابة إذ أن الكاتب يراعي ذلك قصـدا متوخيا من القارئ تعاونا لمعاضدة علامات الترقيم و الكتابة وكذا الحذف الموجود في أجزاء الصفحة المطبوعة أو المكتوبة " فعندما لا يحدث متكلم ما تصويتا لملفوظ ما في الحاضر , أو أن هذا الملفوظ لا يُتداول وسط دورة ضيقة حميمية فإن هذا الملفـوظ لابد و أن يحتوي على كل ما هو ضروري لفك تشفيره ، نحن بحاجة لترقيم دقيق و شفاف عندما لا يشارك القاريء عالم المؤلف " , وهكذا نجد أن كل ما وقعت عليه العين قراءة يعتبر أساسيا للقارئ وذلك دعما لعمـلية الاستكشاف ومحاصرة النصوص نسقا وسياقا , فأول شيء يلاحظ في الخطاب الأدبي هو قراءته من قبل المؤولين , وهذا الفعـل هو الإجـراء التداولي الأساسي عند ( مانغيـنو ) ما يفترض وجود قارئ متعاون ونمـوذجي ويستشهد ( مانغينو ) بقول ( امبرتو إيكو ) في أن ذلك القارئ " إن هو إلا جماع شروط النجاح أو السعادة التي وُضعت نصيا والتي ينبغي أن تستوفى في سبيل أن يؤول نص إلى تأونه الكامل في مضمونه الكامن " , ويضيـف ( مانغيـنو ) على ذلك في أن السيـاق التلفظي يأتي على رأس مكـونات القـراءة , و كذلك الظروف المرتبطة بها , إضافة إلى الجنس الأدبي وكذلك المعرفة المختزنة لدى القارئ التي تسهم في خلق فرضية تأويلية تتجاوز حرفية الملفوظات , وهذا عن طريق المعجم اللغوي الذي يخلق وحدات دلالية توسع من شبكات المعنى أو أنها تساهم في زيادة نسبة المضمرات , و يضرب ( مانغينو ) مثالا بما يتمثل في السيناريو الذي يحدد الأطر التي تسمح للقارئ أن يُكامل معلومات النص في تسلسلات منسـجمة , وبالتالي القبض على التداخلات النصية وتحديد وظائفها المناسبة لها وهذا دون إغفال لمغزى النصوص ، لأن عنوان نص ما يتحدد دائما بمغزاه وطبعا مادام أن الخطاب الروائي حافل بهذه المحددات فحري بنا أن نراعي تشاكلاته المتعددة والتي منـها التشاكلات المجازية والتشاكلات الموضوعاتية إذ نجد "النمط الأول ذو طبيعة اصطناعية في اقترابه من تعدد التجليـات الثقافية ، بينما النمط الثاني نجده أكثر عمقا وتجريدية " , لأن الموضوعة theme تعتير مقولة دلالية لها قدرة الحضور على طول النص وأحيانا على مجمل الأدب.
ويواصل ( مانغيـنو ) طروحاته النقدية بتطرقه لمفهوم الروابط الحجاجية , وهو ما يتمثل في طرق التفاعل المختلفة مع التسليم دائما بتوخي التأثير في الآخر عن طريق ملفوظات منطقية أو موهمة بالمنطقية وهذا الطرح نجد له تنويرا من تنويرات (حازم القرطاجني ) حينما يقول " وإنما يصير القول الكاذب مقنعا وموهما أنه حق بتمويهات واستدراجات ترجع إلى القول أو المقول به ... باعتياد المخاطبات التي يُحتاج فيها إلى تقوية الظنون في شيء" ، ولذلك فإن الحجاج ليس وسيلة إبلاغية فقط ولكن له غاية هامة وهي التأثير في الآخرين وحملهم على الإقتناع برأي ما مدعم بالحجح وقد يحدث العكس فعندما نقول على سبيل المثال (( في الجزائر صحراء رائعة )) فنحن لا نقصد من وراء هذا الملفوظ غرض إخبار الأجنبي بروعة صحرائنا بقدر ما يكمن الهدف الحقيقي إلى دعوة لزيارتها , وإن حدثت الزيارة ، أكون قد أثرت عليه , ومن أنماط الحجاج هناك الشرح والتفسير والتعليل ونرى (حازم القرطاجني ) قد فصل في هذا بقوله " والتفسير أيضا أنواع . فمنه تفسير الإيضاح وهو إرداف معنى فيه إبهام ما بمعنى مماثل له إلا أنه أوضح منه .... ومنه تفسير السبب .... ومنه تفسير الغاية , ومنه تفسير التضمن " , بينما يتحدد مفهوم الحجاج عند ( مانغينو ) في الأفعال اللسانية "من أجل دراسة الحجاج ضمن الأفعال اللسانية الملائمة ، يُجذب الإنتباه مباشرة نحو عدد من الكلمات والتي هي بمثابة روابط دقيقة جدا إذ أن التحليل الدلالي كان يهملها قديما " .
وهذا ما يفتح مجالا آخر , إذ أن الحديث في الحجاج يستدعي بداهة الحديث عن الافتراضات المسبقة والأقوال المضمرة , وقد ذكرنا بأن الخطاب الأدبي هو خطاب عدولي بمعنى إضماري عن طريق تمثيل كلام الشخصيات التي تنتج الأقوال , فكل المؤلفات الأدبية تصبح المتن بالمجاز لتحث القارئ على اصطياد كل ما هو مضمر ، و يحدد ( مانغينو ) العناصر التي تلامس الإضمـار:
- الكفـاءة اللسـانية من أجل الافتراضات المسبقة .
- معرفة قوانين الخطـاب ( والتي تقصي الإطناب مثلا ) .
- المعرفة المتعددة ( الموسوعية ) : معرفة سنن جنس مسرحي ما ، أو معرفة الأخلاق المتعلقة بالزواج في عدد من المجتمعات .
ويلعب الافتراض المسبق دورا جوهريا في بناء الانسجام النصي , ذلك أن أي ملفوظ إلا ويستدعي تكملة ملفوظية أخرى في نص آخر , إذ أن المتلفظ سواء كان راويا أو ساردا أو شخصية من شخصيات رواية ما إلا وله خلفية تتكامل ولحظة تلفظه , وتنبئ من جانب آخر بوجود رابط تكميلي في الملفوظ التالي ، وهكذا حتى ينسجم النص بمتوالياته ومن ثم الخطاب بملفوظـاته .
وتحليل الخطـاب – بطبيعة الحال – لا يتم إلا بمعرفة القوانين التي تؤسس للخطاب باعتباره موضوعا للتحليل التداولي ( خاصة في الخطاب الروائي ) , وكما هو معلوم فإننا لا نتوقع من هذا التداول الخطابي للمتحاورين أن يكون هناك احترام لقواعد التخاطب في حين أنه توجد تواضعات ضمنية , ويمكن لنا إجمال المبادئ الأساسية التي تحدث عنها (مانغـينو) في أن " القارئ والمؤلف يستندان على توقعات النوع الأدبي لما يسمى (( التعاون السردي )) ، بينما يستند حوار المتخاطبين إلى قانون الخطاب " وهذا المبادئ تتمثـل في :
3-2-1-1- مبـدأ التعـاون :
يعتبر هذا المبدأ من المبادئ الأساسية لمفهوم التداول , إذ يساهم في ترقية النشاط الكلامي لدى المتخاطبين واستمراريته "ولذلك فإن كل طرف من الخطاب يعترف لنفسه وللآخر في التناوب على الكلام ولعل انعدام التفاهم بين المتخاطبين مرجعه غياب ذلك الإعتراف المتبادل منذ البداية " ، ويعتبر ( غرايس ) أول من أثرى هذه المسألة من الوجهة التداولية فيما يسمى: الاستلزام الحواري , إذ يعتبر أن أي حمولة دلالية ما إلا وتحمل معنيين , معنى حرفي ومعنى مضمر ( مستلزم ) ومن أجل وصف هذه الظاهرة يقترح ( غرايس ) نظريته في التحادث و التي مضمونها أن كل تواصل كلامي محكوم بمبدأ التعاون , ويقوم هذا المبدأ على أربع مسلمات :
1- مسلمة القدر Quantité وتخص قدر ( كمية ) الإخبار الذي يجب أن تلزم به المبادرة الكلامية ...
2- مسلمة الكيف Qualité ونصّها : لا تقل ما تعتقد أنه كاذب , ولا تقل ما لا تستطيع البرهنة على صدقه
3- مسلمة الملاءمة Pertinence : وهي عبارة عن قاعدة واحدة (( لتكن مشاركتك ملائمة ))
4- مسلمة الجهة Modalité التي تنص على الوضوح في الكلام وتتفرع إلى ثلاث قواعد فرعية :
أ – اِبتعد عن اللبس .
ب – تحرّ الإيجاز .
ت – تحرّ الترتيب .
3-2-1-2- مبدأ الملاءمـة :
يعدُّ هذا المبدأ شرطا ضرورياً لتعديل الكفة بين ما يُقال وما يُقصد وما يُفهم أيضا , ذلك أن الملفـوظ الخطـابي لا بد و أن يُلمّ بمقصد المتكلم دون إضافة أو نقصان ، والمستمع كذلك له أن يأخذ من المستوى الحـرفي والمضمـر للملفوظ بما يقع في حدود الفهم و أن لا يتجاوز ذلك , ونرى (حازم القرطاجني ) قد أوضح ذلك في إحدى إضاءاته فيقول: " وليس يُحمد في الكلام أيضا أن يكون من الخفة بحيث يوجد فيه طيش , ولا من القصر بحيث يوجد فيه انبتار , لكن المحمـود من ذلك ما له حظ من الرصـانة لا تبلغ به إلى الاستثقال وقسط من الكمال لا يبلغ به إلى الإسآم والإضجار ..... فلا شفاء مع التقطيع المخل ولا راحـة مع التطويل / الممل " ،ويُتوخى من هذا المبـدأ إحداث جملة من الشروط التي لا يتم التناسب المحادثاتي إلا بها ، ومن ذلك أن يكون الحوار ذا نتائج عملية ملموسة تكون في فائدة كلا المتخاطبين إضافة إلى ما يستحدث من نتائج حجاجية و التي تُحدث حركة في المخزون المعرفي الذي يعتقده شخص ما , كذلك إثارة الانتباه لموضـوع ما إذ أن المتكلم يعتقد دائمًا صـدقية وجهة رأيه، وهذا بالإضافة إلى السيـاق الموضوعي للطابع التحادثي فالخروج عن الموضوع ليس من متطلبات الملاءمة , ولا بأس أن نضرب مثالا لذلك فنقول عن الخطاب الروائي أنه يتميز بلغة جمالية تشكل عالما تخييليا فمتى خرج هذا الخطاب إلى الكلام العادي أو الواقعي الخالي من جماليات المجاز صار لا معنى له من حيث الملاءمة بين الرواية باعتبارها جنساً و ما يفترضه هذا الجنس من بناء خاص , فالأول يكون افتراضنا المسبق فيه خياليا أما الثاني فالإفتراض المسـبق فيه اعتقـاديا لأنه مجرد حدث لسـاني عادي يرتبط ببنية لغوية معينة إذ أن " كل التفاعلات رهنٌ بالتوافقات الدائمة والمتـعددة التي تسمح للمشـاركين أن يضمنوا وجود تحديد عام للموقف والذي يُفهم من قبلهم على مختلـف الأوجه " , فالملاءمة تأخذ في الاعتبار هذه الجوانب .
3-2-1-3- مبدأ الإخـلاص :
إن الإخلاص أو الصدق معيار أساسي لتمييز ما هو كاذب ، وكل كلام ينطق بما يعتقده ( المتكلم ) صادقا في تضاعيفه السياقية , وهذا المبدأ هو في الحقيقة ثنائية تعمل بالتوازي في الخطاب الأدبي لأن هناك صدقا خياليا والذي يأتي في مقابل الصدق الواقعي , ويعضد ( امبرتو إيكو ) هذه الفكرة بقوله :" وعليه , فإن علم دلالة منطقيا خاصًا بالعوالم الممكنة ينبغي له ألا يحدد اختلافات المدلول الملموسة بين عبارتين " إذ يجيز اختلاق منطق خاص بالعوالم الممكنة خياليا , ونجد ( السكاكي ) قد وضع حدا لهذه الثنائية في درسه للمعاني إذ يقول: " الخبر هو الكلام المحتمل للصدق والكذب , أو التصديق والتكذيب , وكقولهم هو الكلام المفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفيا أو إثباتا " ، و نحن إذ نشارك المؤلف في صنع عالمــه التخيــيلي في- الرواية مثلا - فليس ذلك إلا لأننا نملك قدرة على التواصل في المنطق الخيالي ما دام بالإمكان حدوث ذلك ، والدليل في هذا هو ميلنا إلى الغموض في الملفوظات المجازية الأدبية لأن هناك فرقا بين المعنى الصرف والمجاز الأدبي الجمالي , وهذا ما حدا بـ ( حازم القرطاجني ) أن يوظف ثقافته المنطقية من أجل التفريق بين القضيتين بقوله : "... الألفاظ المستعملة و المقدمات الصادقة أولى ما يُستعمل في الشعر حيث يمكن ذلك ويكون الوضع والغرض لائقا به . وما مثله في قصر الشعر على الكذب مع أن الصدق أنجعُ فيه إذا وافق الغرض " , ولا مناص من القول بأن الأفعال الناجزة في الكلام الفني (( السرد الروائي مثلا )) هو محاكاة لعالم الواقع مادام أن الإنسان ضمن واقعه وفي حدود ما يستوعب عقله الذي يتفاعل إنتاجا وتلقيا للدلالة , والإخلاص تداوليا له أفعـال تدل عليه مثل : التوكيد والجزم والإقرار , إضافة إلى الأفعال التي يحدثها السياق المحيط بالخطاب , وقصد المتكلم عامل مهم جدا في هذه الحالة , فلا يوجد ملفوظ إلا ويحمل ضمنه مقصدية ما أضمرها صاحب الخطاب لتحقيق أغراضه , فالفعل الذي يُنجز بواسطة هذا الملفوظ هو نتيجة صدقية تحققت لصالح المتكلم .
3-2-1-4- قانون الإخبارية :
كما هو معلوم , فإن أول وظيفة يمكن أن تؤديها البنية اللغوية هي الوظيفة التواصلية أو الإخبارية , فالملفوظ مهما كان صنفه يؤدي سيرورة إبلاغية ضمن الدورة الخطابية محدثا في ذهن المستمع حدثا إخباريا جديدا يختلف نوعيا وكميا عما لديه من معلومات سابقة ، وعليه "وجب أن يكون المتكلم يبتغي إما إفادة المخاطب أو الاستفادة منه ، إما بأن يلقي إليه لفظا يدل المخاطب إما على تأدية شيء .. وإما بأن يلقي إليه لفظا يدله على اقتضاء شيء منه " .
فنجد في هذا السياق بأن الإفادة التي تتوخى الإخبار فعلا أساسيا لا استغناء عنه في التفاعل الحاصل بين متخاطبين أو مجموعة المتخاطبين ، وهذا الإخبار يستلزم بنية حملية ما , قد تتجسد عن طريق المشافهة أو المكاتبة وهذا لا يخرج عن الاعتبار اللساني إذ " يعني ذلك مجموعة الأدلة التي بالإمكان تحصيلها , وهي بدورها تفضي إلى إعلام الآخرين بالعديد من الأفعال المستعصية على الإدراك المباشر وتحملنا على اعتبار فعل الإعلام كفعل لساني أساسي , فيتأكد حينئذ إعلام الآخرين بما نعرفه أو بما نريده " , وإذا كان نقل المعلومة من الطرف ( أ ) إلى الطرف ( ب ) هو ما يضطلع به قانون الإخبارية , فماذا من أمر الشمـول ؟
3-2-1-5- قانون الشمـولية :
يركز قانون الشمولية على المقدار الكمي للمعلومات ومدى تمامها عند وصولها لذهن المتلقي , فإذا خُرق هذا التمام بالصمت أو بإخفاء جانب من الحقيقة الإخبارية صار من غير الممكن اعتبار التواصل الخطابي شاملا , وعلى هذا الأساس يمكن حصر الشمولية لدى المخاطب الذي يستقبل المعلومات التي قد تكون تامة وقد تكون ناقصة , ولا ينبغي كذلك أن ننسى دور السياق في هذه الحال إذ أنه محدد كبير جداًّ بتحكمه إما تقليلا أو مطابقة أو إطنابا في سرد المعلومات والإخبار بها ويعتبر ( مانغيـنو ) أن " قانون الشمـولية تبع لمبدأ الملاءمة مما يعني أن المتكلم مُفترضٌ فيه إعطاء حـدا كافيا من المعلومات , لكن ما يقبل الموافقة لدى المستمع فقط " , فخروج اللفظ عن المطلوب لا يلائم إطلاقا اشتماله على المراد بصورة مثالية , إذ ينبغي من المجيب أن يأتي بإجابة فيها تحديد يتّسم بالضبط والدقة كرد لسؤال السّـائل فالنقاد العرب حينما يتكلمون عن الإفادة بمقدار معين فإنهم يقصدون هذه الشمولية وذلك " أن الوصف كما يحتاج إلى إقامة الحجـة .... فقد يحتاج إلى بيان المقدار فيه , ووضع قياس من غيره يكشف عن حدّه ومبلغه في القوة والضعف والزيادة والنقصان .... لأن مقاديرها في العقل تختلف وتتفاوت " .
3-2-1-6- قانون الصيـغة :
أول شيء نلاحظه في هذا الطرح , أن مفهوم الصيغة من أكثر المقولات النقدية استعصاء وإبهاما , وتعود هذه التعقيـدات إلى " تنازع اختصاصات عديدة حولها , وتوزعها بينها . من هذه الاختصاصات نجد : علم المنطق وعلوم اللسان والسيميوطيقا .... والبويطيقا ... ويحاول كل اختصاص احتكارها وطبعها بطابعه العلمي الخاص " , ويمكن لنا أن نجمل الحديث حول مفهوم الصيغة فيما توحي به صيغ الخطاب الذي يتفرع إلى طريقتين في الظهور إلى المستقبلين , وتتمثل الطريقة الأولى في صيغة العرض , والطريقة الثانية تتمثل في صيغة السرد , وقد تحمل الصيغة مفهومين آخرين هما : الموضوعية والذاتية إذا ارتبط ذلك بالملفوظ و التلفظ ذلك أن " الملفوظ يرتبط بذات الملفوظ ويبقى موضوعيا , بينما يرتبط التلفظ بذات التلفظ ويحتفظ بالمظهر الذاتي " , وقد يُقترن هذا القانون بمفهوم الرؤية أو المنظور , إذ تتعدد الصيغ حينئذ فنقول صيغة الرؤية من الخلف وصيغة الرؤية من الأمام وهكذا , ونجد نقادا آخرين قد ذهبوا في هذا المفهوم أبعد من ذلك ومنهم ( تودوروف ) الذي ربطه ربطاً بسجلات القول أو الأسلوب بمفهومه الضيق، وأراد أن يجعل مفهوم السجل مكان مفهوم الصيغة فقد " يمكن أن نحدد مع ( تودوروف ) سجلات القول بأنها الكيفية التي يعرض بها السارد , مثلا , قصته معطيا هيمنة لعناصر بعينها ... من مثل استعمال مستويين لغويين اثنين : الفصحى و العامية " وهذا ما يفضي بنا بطبيعة الحال إلى استنتاج مجموعة من صيغ الخطاب من مثل : الخطاب الإيحائي الذي يستدعي سياقا من الكلمات , والخطاب المنقول الذي قد سبق و أن لُفظ به ، والخطاب الشخصي الذي نجد فيها أنواعا من المعينات من الضمائر والأدوات ( هنا ، والآن ، .... وغيرها ) , وهناك الكثير من الآراء الأخرى حول قانون الصيغة .
وبعد هذا العرض لقوانين الخطاب , والتي قد يبدو بعضها متداخلا مع البعض الآخر يرى ( مانغينو ) بأن هذه القوانين لا تمثل شيئا إذا لم تُقترن بالسلوك الاجتماعي فلا قيمة لقانون الإخبارية خارج إطار التواصل البشري , وعلى هذا ففهم تصرفات الآخرين عامل مصيري لتعديل تصرفات ( الأنا ) من أجل التأقلم اجتماعيا في خضم التفـاعل الخطـابي , و نرى النـاقد الألمـاني ( هربرت شنيدلباخ ) في عرضه عن كتاب نظـرية الفعل التواصـلي لمواطـنه ( يورغن هابرماس ) يذهب في حديثه عن معيارية العقلاني أنه "لا يمكننا الحديث عن هذه المعيارية إلا إذا كانت تستهدف منظمات السلوك أو توجهات أفعال الأشخاص أو الأنساق الاجتماعية القائمة " ويقصد بالعقلاني في هذا الإطار العرف الاجتماعي العام والذي بدوره يشكل أعرافا أدبية من مثل مفهوم الجنس أو النوع ، فهذه العلاقة الهامة هي التي تترصدها قوانين الخطاب وتستمد منها سـيرورتها .
ويذهب ( مانغيـنو ) أبعد من ذلك في اقتراحه لمقولة سماها (( العقد الأدبي )) , ويتحدث فيها عن الانتقال من مفهوم الجنس إلى مفهوم العقد , ذلك أن الجنس في اعتباره لا يمكنه تحديد كل العقود الممكنة في الأدب بوصف العقد نوع من العلاقة التي تربط بين قوانين الخطاب والعمل الأدبي و الاستعمالات غير الأدبية للخطاب ، إذ أن معايير الجنس لا تشمل بعض الأشكال الأدبية , ثم أن هذا العقد يسمح لنا بتفحص التمثيلات الخطابية قيد الاستعمال - يضيف ( ما نغينو ) - أنه رغم انبثاق قوانين الخطاب من التفاعلات الحوارية من أجل إبانتها فكـذلك " الأعمال الأدبية تتشكل أيضا من فع