لما كان النص في حركيته الإبداعية لا يستخلص إلاّ عن طريق التحليل، الذي يمثل الفهم السليم للنص في ذاته، لكونه يبرز وحداته اللغوية التي تؤلف شكله، فإن دراسة النص تتمّ بتحليل مستوياته المتعددة، و"تحليل قصيدة شعرية يستلزم وصف
مختلف العلاقات التي تقوم بين المستويات المتعددة للقصيدة"j، تضمن هذه المستويات إجابات متعددة لما ينطوي عليه المركب النصي من مجموعة عضوية متكاملة، يفهم مجموعه بالدراسة الدقيقة لأجزائه ووحداته اللغوية، "إن التحليل الأدبي يتم على مستويات، لكل منها وحداته الخاصّة به".عتمد التحليل الأسلوبي على أجزاء الوحدات اللغوية وخصائصها التي "يمكن أن تبحث جميعا على أساس كمّي وإحصائي".lوالمعرفة العلمية للأدب التي تهدف إلى الموضوعية، تتمّ بهذا النوع من التحليل. فالأسلوبية لا تتّصف بالجدة إلا بإدراجها في إطار علمي. يقول (غراهام هوف):"وإذا حصل ذلك فإن النتيجة يمكن أن يكون لها بعض الحق في الادّعاء العلمي"m. ولا يستغني أيّ علم عن الإحصاء، لأنه مفتاح منهجي مهم يفضي بنا بعد كل دراسة إلى حصر الخصائص الألسنية العامة لنسيج النص، بعد ملاحظة وتشخيص وقياس الظاهرة الأدبية. يقول المسدي:"..للعملية الإحصائية فضل بارز في عقلنة المنهج النقدي.."n، تطبق الأسلوبية الإحصاء والكم، لقياس تردد العدولات في اللغة، خاصة اللغة الشعرية، إذ "يعتبر الكم في حد ذاته عاملا من العوامل البروز والظهور، فالمواد التي
تتكاثف بشكل غير عادي بالنسبة لمستعمل اللغة كفيلة بإثارة الانتباه بكمياتها نفسها،
إن القارئ الناقد هو نفسه معيار الانزياح "o.
وقد قيل: الانزياح الأدبي يعرف كميا بالقياس. واللغة الشعرية تصبح قابلة للقياس، والتشخيص الإحصائي، في الدراسات الأسلوبية، التي تتبّع بصمات الشّحن في الخطاب عامّة j، ولا يتأتى لها ذلك إلا بوصف الظاهرة الأدبية، وتمييز سماتها اللغوية فيها، ثم تحليلها، وتأويلها بعد إظهار نسب ومعدلات تكرارها، لتنتهي إلى إظهار السمات الأسلوبية للنص المدروس، وتعتمد في ذلك على أدواتها الإجرائية، مستثمرة معارف اللغة وحقولها في وصف البنى السطحية، والبنى العميقة في الخطاب، لتحديد الظاهرة الفيزيائية، لتنتهي بتحديد النظام العام للخطاب، والوصول إلى المؤثرات الموضوعية للنص. يقول سعد مصلوح: "إن التشخيص الأسلوبي الإحصائي يمكن اللجوء إليه حين يراد الوصول إلى مؤثرات موضوعية، في فحص لغة النصوص الأدبية. "kوتعتبر تلك المؤشرات وسيلة منهجية منطقية، يمكن استنفاذ الدرس الأدبي من ضباب العموم والتهويم، وتخليصه من سلطات الأحكام الذاتية، التي تفتقد السند والدليل. وتسعى الدراسات النقدية إلى اعتماد منهج الأسلوبية الإحصائية، في تحليلها للخطــاب الأدبي،إنها تتعدى الإحصاء ، إلى الكشف عن التوظيف الأسلوبي والدلالي للظاهرة اللغوية المتواترة، في الخطاب ، وبالتالي يتحول الكم الرقمي إلى كيف دلالي، فينحصر بذلك العمل عن الوجهة التقويمية المعيارية، التي تعتمد إطلاق الأحكام المعيارية والارتجاليــة، إلى وجهة المعاينة الدقيقة، ذات الموضوعية. وينظر إلى المعجم الشعري وخاصيته الأسلوبية الفنية من خلال تواتره، وأساليب توظيفه وتردّده في سياقات محدّدة تفصح عن مكنونــات الشاعر وأحاسيسه. والكلمات المحصاة للمعجم الفني لا تدرس خارج سياقها، بل تعالج ككل متكامل، لأن المعجم هو أحد العناصر الأساسية لبنيوية النص، فكلماته الطاغية في النـص تؤلف خطابه، الذي تتضافر في نسجه العناصر الصوتية، والمعجمية، والمعنوي ويقوم المعـجم بدور مهم في تركيب الجمل وفي معناها، لارتباطه بحياة اللغة ارتباطا وثيقا، حين يتردد في الخطاب بنفسه أو بتركيب يؤدي معناه: "..التركيبة: ترى في المعجم مكونـا أساسيا، جوهريا تأسس عليه بنية الجملة، ويتحدد معناها، فالتركيب والمعجم بحسب هـذه النظرة غير منفصلين، وعلاقتهما تكوينية ضامنة لإشغال اللغة"j. ولتصنيف المعجم لا بدل من القراءة الباطنية التأويلية، لكشف الدلالات المبينة والدلالات المسكوت عنها، " لأنه لا تلقي بدون تأويل ولا تأويل بدون تلقي" k.
إن انتقاء المعجم اللغوي وتوظيفه ضمن سياق معين يدل على دراية أسلوبية، لأن"إحدى مميزات اللغة الأدبية..تعويلها المطلق على طاقتها الإيحائية دون الطاقة التصريحية.." l، وبهذه الطاقة نكشف عن لغة المؤلف وأسلوبه، ومختلف العلاقات التي تقوم بين مستويات الخطاب، فالكلمات تكتسب مدلولاتها الخاصة والمميزة عبر العمل المشترك للسياق، وهي بالرغم من إحالتها إلى مدلول معين، تظهر في الوقت نفسه محملة بمدلولات أخرى ممكنة خاصة في الخطاب الشعري.m وتردد الحقول الدلالية في أي نص، وتعدد قرأتها يفضي إلى تحديد هوية النص " فإذا ما وجدنا نصا بين أيدينا ولم نستطع تحديد هويته بادئ الأمر، فإن مرشدنا إلى تلك الهوية هو المعجم، بناءا على التسليم بأن لكل خطاب معجمه الخاص "n. لكن القول بأن لكل خطاب شعري معجمه الخاص به أمر نسبي، فقد تكون للشاعر الواحد نفسه معاجم بحسب المقال والمقام فــ: "إنما الذي بعث في مثل ذلك اللفظ المعجمي الحياة الدلالية هو الفنان "o، ضف إلى ذلك فإن المعجم قد يتراجع عن هيمنته في النص، ويترك الصدارة للظاهرة الصوتية والتركيبية. كما أنّ سمّة عدم الثبات هي خاصية المعجم الشعري، الذي يتغير حسب قدرات الشاعر على الخلق والإبداع، وعدم ووحدانيته عبر الزمان والمكان ضمن لغة ما، جعل معجم الشعر متطور باستمرار، تتحكم فيه الشروط الذاتية والموضوعية. فالشاعر يعيش بالكلمة في بيئته اللغوية، وفيها يتم الاتصال بينه وبين الآخرين في إطار أسلوبه الخاص، الذي هو " كيفية ممكنة ينبغي أن تسترجع في عملية الاستقبال "j.
وبعلم أسلوب المعجم نبحث في وسائل تعبير الكلمات وما يترتب على ظواهر نشأتها، فـ" .. اللفظ كان على الدوام جزءا نصيا بامتياز "k.
إن النظر للمعجم الشعري الفني للشاعر لا يتأتى إلا بدراسة الحقول الدلالية بمنهجية إحصائية. وتسهم هذه الأخيرة بدور فعال في إظهار الترددات التي تشكل محاور معجمية، أو حقول دلالية، تضمن انسجام النص مع نفسه، ومع غيره من النصوص، يقول الدكتور مفتاح في هذا الصدد: ".. الطريقة الإحصائية تضع يدنا على بعض الترددات التي هي ذات مغزى، فلا أحد ينكر دورها في رصد المحاور التي يدور عليها الديوان أو القصيدة، ولا أحد يجادل في أن تلك الترددات تضمن انسجام النص مع نفسه ومع النصوص الأخرى التي ينتمي إلى جنسها"l.
وأثناء رصد المعاجم المتواترة والحقول الدلالية الطاغية في الخطاب، يتوصل الباحث إلى نتائج سليمة وموضوعية، تتحدد على إثرها الخصائص الأسلوبية للدلالات اللغوية في العمل الأدبي، ولا يتم ذلك إلا بمنهجية علمية دقيقة تطبق قواعد و إجراءات خاصة، ترسم الطريق بوضوح وبصورة مستقيمة.
j - إبراهيم صحراوي، تحليل الخطاب الأدبي، دراسة تطبيقية، ط 1، دار اللآفاق، الجزائر، ص19.
k - barthes ( Roland ) introduction à l'analyse structurale du récit , in communications, paris, page : 11 № :08 .
l -m- غراهم هوف، الأسلوب والأسلوبية، ترجمة كاظم سعيد الدين، المكتبة الوطنية ببغداد، 1985، ص57.
n- عبد السلام المسدي، قضية البنيوية، دار أمية تونس، 1991 ، ص 78.
o - محمد العمري، تحليل الخطاب الشعري، الطبعة:1، الدار العالمية للكتاب، المغرب 1990، ص 29.
j - عبد السلام المسدي، الأسلوب والأسلوبية، ط 4، دار سعاد الصباح، المغرب، 1993، ص 29.
k- د. نور الدين السد، الأسلوبية و تحليل الخطاب ، ٍالجزء الأول، دار هومه، الجزائر، ِ ص 108 .
j- د.محمد مفتاح ، تحليل الخطاب الشعري )استراتيجية التناص(، ط2 ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 1986، ص57.
k- سعد يقطين، من قضايا التلقي و التأويل، طبعة 1، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الرباط، 1994، ص 141.
l- قضية البنيوية، ص 78.
m- أمبرتو أيكو، المرسلة الشعرية، مجلة الفكر المعاصر، عدد، 18، 19، بيروت، لبنان، 1982، ص 103 .
n- تحليل الخطاب الشعري ( ا، ت)، ص 58.
o- د.عبد الملك مرتاض، النص من؟ وإلى أين؟، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1983، ص 86.
j - برند شيلز، ِعلم اللغة والدراسات الأدبية، دراسة الأسلوب، البلاغة، علم اللغة النصي،ٍ ترجمة محمود جاد الرب، الدار الفنية للنشر والتوزيع، ط1، الرياض، 1987، ص109.
k- خوسيه مريّا بوثوينوايقانكوس،ٍِ نظرية اللغة الأدبية، سلسلة الدراسات النقدية ترجمة الدكتور حامد أبو حامد، 2 مكتبة غريب دمشق، ص، 183.
l- تحليل الخطاب الشعري(ا، ت)، ص 60.