بسم الله الرحمن الرحيم
الآية 6 النساء التي بها إباحة الأكل من مال اليتيم منسوخة
لقد توصل البحث في المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ إلى أن الآيات المتشابهات المنسوخات هي التي أنزلت للنهي تدريجياً عن حب الشهوات. والسبب في تدريج النهي عنها هو ادمان الرجال في الجاهلية لحب الشهوات. وفي مثل هذه الحالة يؤدي النهي عن حب الشهوات من أول مرة إلى فشل الرجال في الانتهاء عنها. وعدم اعتناق الاسلام. لذا جاءت الآيات الأوائل مبهمة الحكم هل هو الحلال أم الحرام. فاستمر نزول الآيات موضحة تعارض هذه الشهوات مع عبادة الله وقبح العمل بها إلى أن تم النهي عنها في آخر آية تنزل في الشهوة المحددة. وقد تم التوصل لمعالم المتشابهات من آيات الخمر والربا واعددت منها دليلاً لمعرفة المتشابهات المنسوخات. ووجدت أن المتشابهات نوعان: النوع الأول هو الآيات اللاتي أنزلن في حب الشهوات التي لا تحتاج إليها استمرارية الحياة كالخمر والربا. وهذا النوع تشابه حكم الحلال والحرام فيه بالرغم من وضوح معاني مصطلحاته والثاني هو الآيات التي أنزلن في حب الشهوات اللاتي تحتاج استمرارية الحياة للقليل منها كالزواج والبنين والمال والخيل المسومة والأنعام والحرث. وقد جمع الله هذه الزينة في الآية 14 آل عمران. وهذا النوع هو الذي تحتاج آياته لمعرفة معانيها لعدمم وضوح معاني مصطلحاتها.
ومن الآيات التي انتابني إلهام بأنها من المتشابهات المنسوخات هي الآية 6 النساء التي تتحدث عن إباحة الأكل من مال اليتيم للفقراء.حيث لفتت انتباهي ما ورد في الآية (وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً) 2 النساء التي تنهي عن أكل مال اليتامى وتأمر بإرجاعه إليهم. لهذا قررت تحليل الآية 6 النساء بهدف قياسها بالدليل المقترح لمعرفة إن كانت منسوخة أم لا.
تحليل الآية 6 النساء
(وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ. وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً ) 6 النساء
وبعد أن نهى الله عن إضافة مال اليتيم إلى مال راعيه والأكل منه في الآية 2 النساء ، أنزلت الآية 6 النساء وفيها إباحة للفقير بالأكل من مال اليتيم الذي يرعاه. حيث جاء معناها في تفسير ابن كثير كالآتيوقوله تعالى:{وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ} أي: اختبروهم{حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} قال مجاهد: يعني: الحلم، ...وقوله عز وجل:
{ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ } قال سعيد بن جبير: يعني: صلاحاً في دينهم، وحفظاً لأموالهم. وكذا روي عن ابن عباس والحسن البصري وغير واحد من الأئمة. وهكذا قال الفقهاء: متى بلغ الغلام مصلحاً لدينه وماله، انفك الحجر عنه، فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه. وقوله:{ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية {إِسْرَافاً وَبِدَاراً} أي: مبادرة قبل بلوغهم، ثم قال تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ}: من كان في غنية عن مال اليتيم، فليستعفف عنه، ولا يأكل منه شيئاً، وقال الشعبي: هو عليه كالميتة والدم. وفي قوله {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ} جاء فيه: عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية في والي اليتيم: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ} بقدر قيامه عليه. قال الفقهاء: له أن يأكل أقل الأمرين: أجرة مثله، أو قدر حاجته، واختلفوا هل يرد إذا أيسر؟ على قولينأحدهما): لا؛ لأنه أكل بأجرة عمله، وكان فقيراً، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي؛ لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل...) ورواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد، به، وبهذا القول، وهو عدم أداء البدل، يقول عطاء بن أبي رباح وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطية العوفي والحسن البصري. (والثاني): نعم؛ لأن مال اليتيم على الحظر، وإنما أبيح للحاجة، فيرد بدله؛ كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة. عن ابن عباس في قوله: {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } يعني: القرض، وقال ابن عباس أيضاً في قوله:{فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ} يأكل بثلاث أصابع، وعن ابن عباس أيضاً: {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ} قال: يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم،...) وقال عامر الشعبي: لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه؛ كما يضطر إلى الميتة، فإن أكل منه قضاه. وقال ابن وهب: حدثنا نافع بن أبي نعيم القاري قال: سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله تعالى:{ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ} الآية، فقالا: ذلك في اليتيم؛ إن كان فقيراً، أنفق عليه بقدر فقره، ولم يكن للولي منه شيء، وهذا بعيد من السياق، لأنه قال: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} يعني: من الأولياء. {وَمَن كَانَ فَقِيراً} أي منهم {فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ} أي؛ بالتي هي أحسن؛ كما قال في الآية الأخرى:{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] أي: لا تقربوه إلا مصلحين له، فإن احتجتم إليه، أكلتم منه بالمعروف. وقوله:{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ} يعني: بعد بلوغهم الحلم، وإيناسكم الرشد منهم، فحينئذٍ سلموا إليهم أموالهم، فإذا دفعتم إليهم أموالهم، {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ}...، ثم قال:{وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً} أي: وكفى بالله محاسباً وشهيداً ورقيباً على الأولياء؛ في حال نظرهم للأيتام، وحال تسليمهم للأموال؛ هل هي كاملة موفرة، أو منقوصة مبخوسة، مدخلة، مروج حسابها، مدلس أمورها؟ الله عالم بذلك كله، ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين ولا تَلِيَنَّ مال يتيم".
يتضح من تفاسير العلماء للآية 6 النساء أن العلماء قد اختلفوا في معنى "بالتي هي أحسن" و"بالمعروف" حيث أورد فيها ابن عباس وحده ثلاثة معاني هي: أولاً: أن يقترض منه، وثانياً: أن يأكل بثلاث أصابع، وثالثاً: يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم. وقال الشعراوي: (وكلمة المعروف تعني الأمر المتداول عند الناس، أو أن يأخذ على قدر حاجته) بالإضافة إلى أن السؤال في معنى فليأكل بالمعروف قد كثر بين الصحابة وتعددت الإجابات. الأمر الذي يدل على أن فهم حكم الآية فيه لبس وعدم وضوح. ولهذا يجب البحث عنى "بالمعروف من آيات أخر" وكذلك معنى "بالتي هي أحسن" حيث جاء رأي يحي سعيد الانصاري وربيعة بأن معنى "التي هي أحسن" مطابق لمعنى "بالمعروف"
أولاً: معنى (التي هي أحسن)
لقد جاء التعبير (بالتي هي أحسن) في كثير من الآيات. عليه يتم تحليلها والآيات هي:
الآية الأولى 34 الإسراء
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) 34 الإسراء التي جاء فيها تفسير ابن كثير كالآتي: (يقول تعالى:{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي: لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بالغبطة...وقد جاء في " صحيح مسلم ": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: " يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال اليتيم " وقوله: { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } أي: الذي تعاهدون عليه الناس، والعقود التي تعاملونهم بها، فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه { إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } وجاء في تفسير الطبري الآتي: (ولكن اقرَبوه بـالفَعْلَة التـي هي أحسن، والـخَـلَّة التـي هي أجمل، وذلك أن تتصرّفوا فـيه له بـالتثمير والإصلاح والـحيطة.) هذا وقد تكرر النهي عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في الآية: (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) 152 الأنعام التي ورد فيها تفسير القرطبي كما يلي{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي بما فيه صلاحه وتثميره، وذلك بحفظ أصوله وتثمير فروعه. وهذا أحسن الأقوال في هذا؛ فإنه جامع. قال مجاهد: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بالتجارة فيه، ولا تشتري منه ولا تستقرض {حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} يعني قوته، وقد تكون في البدن وقد تكون في المعرفة بالتجربة، ولا بُدّ من حصول الوجهين، فإن الأشُدّ وقعت هنا مطلقة...{ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ } عامّ في جميع ما عهده الله إلى عباده. ويحتمل أن يراد به جميع ما انعقد بين إنسانين. وأضيف ذلك العهد إلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتّعظون)
لقد جاء معنى المصطلح "إلا بالتي هي أحسن" تارة "بالغبطة" وتارة بما فيه صلاح مال اليتيم بحفظ أصوله وتثمير فروعه. وتارة أخرى بالتجارة فيه وبدون الشراء منه والاستقراط. ومن هنا تبرز الأسئلة التالية: هل ربح التجارة مضمون أم أن هنالك احتمال للخسارة فيها وبالتالي ربما يهلك بها مال اليتيم؟ وما هي صلة الوفاء بالعهد في الآيتين34 الإسراء و152 الانعام؟ أي ما هو العهد الذي يجب على والي اليتيم أن يفي به؟ وما هو المستفاد من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر؟ إن الإجابات على هذه الأسئلة تكمن في معنى المصطلح "إلا بالتي هي أحسن" الذي يمكن الوصول إليه من آيات القرآن المختلفة.
وبعد استنباط معنى (بالتي هي أحسن) يكون معنى الآية 34 الإسراء كالآتي: ( عند أخذ اليتيم لرعايته لا تقربوا ماله من دون أن تبرموا العهد مع الله لترعوه له حتى يبلغ أشده. وإبرام العهد يكون بالتي هي أحسن أي بكلمة لا إله إلا الله) ولهذا أمرهم الله بأن يوفوا بالعهد إن أخذوه بلا إله إلا الله والله أعلم.
ثانياً: الآية 53 الاسراء
إن أكثر الآيات التي توضح معنى (التي هي أحسن ) الآية وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً) 53الإسراء
حيث ورد فيها أمر من الله لعباده أن يقولوا التي هي أحسن أي أن يذكروا الله وأحسن الذكر هو" لا إله إلا الله" فهي التي يذكر بها الله ويطرد بها الشيطان. والدليل على ذلك قوله تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) 201 الأعراف والذكرى هي قول أي لفظ فيه ذكر اسم الله وأحسن الأقوال هو (لا إله إلا الله) لما ورد في الحديث: (أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله رب العالمين)
والآية "ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" ٱلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) 96 المؤمنون أحسبها تعني: إن التقاضى عن السيئة لا يحدث إلا بذكر الله أي بقول لا إله إلا الله ومعنى هذه الآية مرادف لمعنى الآية 201 الأعراف حيث أن مس الشيطان يؤدي للسيئة ولهذا يتذكر المؤمن ويصير مبصراً مرة ثانيلاً ومتحرراً من السيئة بلا إله إلا الله التي هي أحسن الذكر والله أعلم. وكذلك الآية: (وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) 46 العنكبوت معناها إذا جادلتم أهل الكتاب لا تجادلوهم إلا بقول "لا إله إلا الله" وذلك لأنهم يعلمون أن الله هو الإله ويعلمون بما في الرسالات ولكنهم أشركوا به بقولهم المسيح ابن الله وعزير ابن الله. فكل ما يحتاجه أهل الكتاب هو التوحيد. ولهذا تجب مجادلتهم إذاً بالتي هي أحسن والتي هي أحسن هي (لا إله إلا الله ) والله أعلم.
أما الآية (وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) 34 فصلت فهي توكيد إلى أن المقصود من المصطلح هو ذكر الله بقول "لا إله إلا الله". فهي التي تطرد الشيطان الذي يوقع العداوة والبغضاء بين الناس. وهي أحسن الحسنات وأحسن الذكر وبالتالي من يذكر الله بأحسن الذكر فسرعان ما يبتعد الشيطان عنه وتزول العداوة ويصير العدو وكأنه ولي حميم
إذاً معنى "بالتي هي أحسن" من كل الآيات هو كلمة "لا إله إلا الله" فمعناها هذا هو المعنى المشترك الذي يوضح معاني جميع الآيات. فهي التي يحاج بها المؤمن يوم القيامة وهي التي تبرم بها العقود وهي التي تدفع السيئة لأنها تدفع الشيطان الذي هو سبب المخاصمات. بذا يصير معنى الآية 34 الإسراء كالآتي من يريد أن يأخذ يتيماً له مال ليرعاه له فلا يقرب منه ولا يأخذه قبل أن يبرم العهد مع الله بكلمة ""لا إله إلا الله" التي هي أحسن شيء في الوجود، أي لابد له أن يقولها مؤكداً لربه أنه سيحافظ على ذلك المال الذي سيأخذه في عهدته حتى يبلغ اليتيم رشده. ومن أبرم مثل هذا العهد لرعاية مال يتيم، فيجب عليه الوفاء بذلك العهد لأنه سيسأل عنه يوم القيامة والله أعلم. وهذا المعنى قد اوضح الصلة بين العهد وبين القرب من مال اليتيم في الآية 34 الإسراء. كما أوضح حديث الرسول صلى الله عليه لأبي ذر صعوبة الوفاء بالعهد في حالة الضعف.
ثالثاً: الآية 125 النحل
(ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ) 125 النحل
إن الدعوة إلى سبيل رب العالمين هي الدعوة لتوحيد الله أي بكلمة "لا إله إلا الله" لأنها أحسن شيء في الوجود. وقد دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب عندما حضرته الوفاة وقال له( يا عم قل: "لا إله إلا الله" كلمة أحاج لك بها عند الله" فكلمة "لا إله إلا الله" إذاً هي التي أحسن التي جادل بها الرسول صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب. كما أنها أفضل ما قاله النبيون لما ورد في الحديث: إن أفضل ما قاله الرسول صلى الله عليه والنبيين من قبله هو شهادة أن "لا إله إلا الله". كما أنها أحسن الحسنات وأفضل الذكر فلا شيء أحسن منها. وقد جاء في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم للرجال" استوصوا بالنساء خيراً فقد أخذتموهم بلا إله إلا الله. أي أن الرجال قد أبرموا عقد الزواج بكلمة "لا إله إلا الله" ولهذا أمرهم بأن يحفظوا هذا العهد معهن.
معنى (بالمعروف)
لقد وردت في القرآن آيات كثيرة جداً ذكرت فيها كلمة (بالمعروف) . عليه يتم تحليلها وهي:
الآية الأولى: (يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ) 17 لقمان
لقد جاء معنى (وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ) في تفسير الطبري كالآتي: ( وأمُرْ بـالـمَعْرُوفِ } يقول: وأمر الناس بطاعة الله، واتبـاع أمره { وَانْهَ عَنِ الـمُنْكَرِ } يقول: وانه الناس عن معاصي الله ومواقعة مـحارمه)
وإذا تمعنا في الآية التالية التي وعظ فيها لقمان ابنه وهي: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) 13 لقمان نجد أن سيدنا لقمان قد أمر ابنه بالمعروف ونهاه عن المنكر. فكان المعروف هو توحيد الله والمنكر هو الشرك بالله. إذاً المعروف هو العمل بلا إله إلا الله وهي أوامر الله والنهي عن نواهيه والمنكر هو العمل بأعمال الشرك والكفر وهي العمل بكل نواهيه وترك العمل بأوامره. والله أعلم
الآية الثانية: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ ٱلْكِتَابِ وَٱلْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) 231 البقرة
ومعنى (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) كما قاله الطبري هو: ( قوله: { بِـمَعْرُوفٍ } فإنه عنى بـما أذن به من الرجعة من الإشهاد علـى الرجعة قبل انقضاء العدة دون الرجعة بـالوطء والـجماع، لأن ذلك إنـما يجوز للرجل بعد الرجعة، وعلـى الصحبة مع ذلك والعشرة بـما أمر الله به وبـينه لكم أيها الناس. { أوْ سَرّحُوهُنّ بِـمَعْرُوفٍ } يقول: أو خـلّوهن يقضين تـمام عدتهنّ وينقضي بقـية أجلهنّ الذي أجلته لهنّ لعددهن بـمعروف، يقول: بإيفـائهن تـمام حقوقهن علـيكم علـى ما ألزمتكم لهن من مهر ومتعة ونفقة وغير ذلك من حقوقهن قبلكم)
إن معنى (بالمعروف) في جميع الآيات الأخر واحد لا اختلاف فيه وهو في اعتقادي: العمل بما تقتضيه لا إله إلا الله. أي العمل بما أمر به الله في الأمر المحدد الذي أمر الله فيه بالمعروف.
2- معاني آيات أكل مال اليتيم
اولاً: الآية 2 النساء
إن أول التشريعات التي أنزلت في سورة النساء لتنظيم العلاقات هي التي أنزلت في حق اليتيم في الآية: {وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} 2 النساء
وقد جاء معناها كالآتي: (يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم، ... وقال ابن سيرين ومقاتل بن حيان والسدي وسفيان بن حسين: أي: لا تخلطوها فتأكلوها جميعاً. وقوله: { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } قال ابن عباس: أي: إثماً كبيراً عظيماً.)
ثالثاً: الآية 10 النساء
(إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) 10 النساء التي جاء فيها إن ابن عباس، قال: لما نزلت:{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَن} [الأنعام: 152] و{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله:{وَيَسْـأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَـٰمَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ} فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم. وقد أوضح المعنى حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: (إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة، حتى أخلط طعامه بطعامي، وشرابه بشرابي، فقوله: {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} أي: على حدة، {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ} أي: وإن خلطتم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم، فلا بأس عليكم؛ لأنهم إخوانكم في الدين،) ولهذا قال:{وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ} أي: يعلم مَنْ قصدُه ونيته الإفساد أو الإصلاح، وقوله: {وَلَوْشَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم، ولكنه وسع عليكم، وخفف عنكم، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن. وفي الحديث: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال:" الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات"، مايؤكد أن أكل مال اليتيم من الكبائر. إذاً الأكل منه يتعارض وعبادة الله وتقواه. ولهذا نهي عنه.
معالم الآية 6 النساء
- لقد أنزلت الآية في إحدى زينة الحياة وشهواتها وهي الأموال.
- جاء الحكم بالإباحة للفقراء بالأكل من مال اليتيم بصيغة الأمر"افعلوا ولا تفعلوا" مقيد بشرط وهو الأكل بالمعروف لقوله تعالى "فاليأكل بالمعروف" ولم يترك الأكل منه مطلقاً. وهو شرط صعب استيفائه لأن المعروف لم تحدد كميته ولا كيفيته ولا زمنه. فهل سيأكل الفقير من مال اليتيم باستمرار حتى ولو كان قليلاً جداً؟ وما هو مقدار مال اليتيم أساساً؟ هل سيتبقى لليتيم منه شيء إن أكل منه راعيه ولو كان الأكل بمقدار مثقال ذرة؟
- إن الأكل من مال اليتيم يتعارض وقوله تعالى:" وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ "لاحتمال أن يؤكل المال بداراً كما يتعارض الأكل منالمال مع أخذ مال اليتيم بلا إله إلا الله والوفاء بالعهد بها.
- يظهر حكم الأكل من مال اليتيم وكأنه حلال وهو ليس بالحلال البيِّن" أُحلَّ لكم" وصعوبة استيفاء الشرط وتعارضه مع عهد الله (أخذه بالتي هي أحسن) يظهر الحكم وكأن الأكل من مال اليتيم حرام وهو ليس بالحرام البيِّن "حُرِّم عليكم".
- لم يكن حكم الآية 6 النساء واضحاً فاستفتى الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه.
- يتعارض عهد "لا إله إلا الله" الذي أوجبه قوله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) 34 الإسراء
مع حكم الإباحة في الآية 6 النساء أي لن يتحقق الوفاء بالعهد مع الأكل من مال اليتيم.
- جاءت آية الافتاء موضحة عدم خلط أموال اليتامى إلى أموال من يرعوهم ولا الأكل منها ولكن يمكن مخالطة اليتامى في الأكل لأنهم إخوان المؤمنين كما أوضحته السيدة عائشة.
- تدرجت الآيات في النهي عن أكل مال اليتيم إلى أن علم الناس قبحه لتعارضه مع حدود الله وطاعته.
- أنزلت الآية 10 النساء موضحة أن أكل مال اليتيم هو ظلم ومن يأكله فسيأكل في بطنه ناراً.
- لم يرد في الآية 10 الإباحة أو الاستثناء للفقراء مرة أخرى.
تطبيق المقياس علي الآية 6 النساء
أولاً: الأسئلة وإجاباتها من معالم آيات أكل مال اليتيم
هل كان الحكم في الآية 6 النساء في إحدى الشهوات التي أدمنها الناس في الجاهلية؟ نعم
لقد كان الحكم في إحدى الشهوات وهي الأموال.
هل كان حكم الآية 6 النساء إباحة مؤقتة لأن صيغته "إفعل ولا تفعل" مقيد بشرط صعب تطبيقه
بالإضافة إلى عدم وجو نص "أحل لكم " نعم
هل حكم الإباحة (الأكل بالمعروف) يتعارض مع أحكام المحكم؟ نعم
يتعارض حكم الإباحة مع تحقيق الوفاء بالعهد لقوله تعالى:{واوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً}
هل استفتى الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في الآية مما يؤكد أن في فهمها لبس؟ نعم
لقد استفتى الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية 6 النساء لقوله تعالى{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ...)
هل أنزلت آية لتفتي الصحابة ؟ نعم
أنزلت آية بعدها وهي الآية (220) البقرة لتفتي الصحابة وتوضح لهم حكم رعاية الأيتام.

هل عمل الناس بحكم الآية فترة ليست بالقصيرة بحكم الآية 6 النساء؟ نعم
هل أنزلت آيات بعد الآية 6 النساء تنسخ حكمها جذريا فلا يعمل به بعد ذلك؟ نعم
أنزلت الآية 10 النساء موضحة أن من يأكل مال اليتيم يأكل في بطنه ناراً
هل ورد حكم الإباحة مرة أخرى للفقراء "بالأكل بالمعروف" من مال اليتيم في الآيات التي أنزلت
للإفتاء؟ لا
لم ترد الإباحة بالأكل من مال اليتيم في الآيات الأخر. وإنما جاءت نهياً عن أكل مال اليتيم.
نتيجة قياس الآية 6 النساء على الدليل
بعد تحليل الآية 6 النساء وتطبيق المقياس أو الدليل المقترح عليها كانت النتيجة مطابقة له حيث كانت جميع إجابات أسئلة الآية 6 النساء "بنعم" ما عدا السؤال الأخير كانت إجابته "بلا" مما يؤكد أن الآية 6 النساء متشابهة منسوخة والله أعلم.