لأستاذ: عمار المسيلي.
عنوان الموضوع: المعنى عند عبد القاهر الجرجاني.
- وقف عبد القاهر من مسألة اللفظ والمعنى موقفا متريثا ظاهره إيثار المعنى على اللفظ. وهو خلاف لموقف اغلب النقاد.قال في كلامه عن التجنيس:
"....وذلك أن المعا ني لا تدين في كل موضع لما يجذبها التجنيس إليه،إذ الألفاظ خدم المعاني والمصرفة في حكمها،وكانت المعاني هي المالكة سياستها، المستحقة طاعتها،فمن نصر اللفظ عن المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته وأحاله عن طبيعته،وذلك مظنة من الاستكراه وفيه فتح أبواب العيب والتعرض للشين ..."(1).
وتثبت من موقفه –هذا- في شرحه لنظرية النظم ، فالنظم أساسه المعنى ،وتتفاضل الألفاظ بقدر دلالتها على المعاني. الاأن المحقق في كلام عبد القاهرسواءفي النظم أو غيره يتبين له أنه أعطى للفظ قدرا كبيرا من الأهمية ،أكثر بكثيرمما أعطته المدرسة اللفظية للمعنى، ولذلك يمكن القول بأن عبد القاهر من أنصار المدرسة المعنوية في تاريخ النقد والبلاغة العربية مع عنايته الخاصة باللفظ، بل هوا لذي وضع أسسا ثابتة لهذه المدرسة وطور مفاهيمها التي تبلورت في نظرية النظم .
والدلالة على المعنى عنده على ضربين : دلالة مباشرة, ودلالة غير مباشرة. وهو تقسيم يتفق مع بعض النقاد للمعاني إلى: معان أول وثوان. وقد لاحظنا ذلك على نحو واضح عند حازم القرطا جني. وجعل عبد القاهر مدار الدلالة الثانية على الكناية والاستعارة والمجاز(2)وهي أساليب للإفصاح عن المعاني الثواني.
وتأثر- في تقسيمه هذا- بمقولة(الوضع) عند الأصوليين.وفرق بموجب هذا الاعتبار بين (المعنى)و(معنى المعنى)؛فالمعنى:"هو المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة"،ومعنى المعنى:هو"أن نعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر"(3)
ــــــــــــــــــ
(1)- كشف الظنون :260.عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986.
(2)- جامع العلوم:1/257 عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986.
(3)- أبجد العلوم:2/129وتعريفه مطابق لتعريف حاجي خليفة. عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986.
والمزية في المعنى عنده ليست في ذاته بل في إيجابه والحكم به،يعني أن المزية ليست في زيادة المعنى بل في إثباته، والإثبات كونه أبلغ في الدلالة وآكد وأشد.
ومثل لذلك في الكناية والاستعارة فقال :" .....ليس المعنى إذا قلت:إن الكناية أبلغ من التصريح،أن كلما كنيت عن المعنى زدت في ذاته، بل المعنى: أنك زدت في إثباته فجعلته أبلغ آكدوأشد......وكذلك ليست المزية التي تراها لقولك
رأيت أسدا )على قولك (رأيت رجلا لايتميزعن الأسد في شجاعته وجرأته ).
أنك قد أفدت بالأول زيادة في مساواته الأسد بل انك أفدت تأكيدا وتشديدا وقوة في إثباتك له هذه المساواة،وفي تقريرك لها فليس تأثير الاستعارة إذن في ذات المعنى وحقيقته بل في إيجابه والحكم به...." (1).
والمعاني عند عبد القاهر الجرجاني لها مزية أخرى هي تأثيرها في النفوس .قال في مقارنة له بين عبارتين دالتين على معنيين متقاربين :"لايكون لإحدى العبارتين مزية على الأخرى حتى يكون لها في المعنى تأثير لايكون لصاحبتها ؛فان قلت :فإذا أفادت هذه ما لاتفيد تلك فليستا عبارتين عن معنى واحد بل هما عبارتان عن معنيين اثنين. قيل لك :إن قولنا(المعنى) في مثل هذا يراد به الغرض والذي أراد المتكلم أن يثبته أوينفيه ،نحو أن تقصد تشبيه الرجل بالأسد فتقول:
(زيد كالأسد)، ثم تريد هذا المعنى بعينه، فتقول
كأن زيدا الأسد) فتفيد تشبيهه أيضا بالأسد إلا أنك تزيد في معنى تشبيهه به زيادة لم تكن في الأول ، وهي أن تجعله من فرط شجاعته وقوة قلبه وأنه لايروعه شيء ،بحيث لايتميزعن الأسد ولا يقصرعنه حتى يتوهم أنه أسد في صور آدمي....."(2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)-مفتاح السعادة :1/181 عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986.
(2)- أسرار البلاغة:4،5 عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986.
وفصل عبد القاهر الكلام عن (النظم) وبين مفهومه، وشرح مقاصده ،واستعان بأمثلة كثيرة حللها تحليلا دقيقا، وخرج من ذلك كله بنظرة جديدة حتى عد النظم على يديه شبه نظرية متماسكة الأجزاء. ونحن نجتزأ بقليل مما ذكره وبسط القول فيه:
أساس النظم عند عبد القاهر هو المعنى ،وتتالى الألفاظ في تراكيب مختلفة للدلالة على المعاني المتفاوتة من حيث الوضوح والعمق والتأثير في النفوس والزيادة والنقصان والتوكيد والنفي والإثبات .......الخ،الأغراض التي يرى أنها تعبر عن المفهوم الجوهري للغة ومدى الاستفادة منها.وقد عبر عن (المعاني) بمعاني النحو،وجعل النظم في (التركيب) لافي (التحليل)،وهو من هذه الوجهة أقرب إلى المنهج التركيبي في نظرية المعنى،وإذا أراد تحليلا للمعنى فهو يبدأ
بتحليل التركيب دفعة واحدة، أي ينظر إلى التركيب باعتباره كلا متماسكا، ولا يجزئه إلى أجزاء متفتتة لاعلاقة بينهما كما فعل النحو يون التقليديون .
قال في كلامه على معنى النظم :" اعلم أنك لاترى عجبا أعجب من الذي عليه الناس في أمر النظم ،وذلك أنه ما من أحد له أنى معرفة إلا وهو يعلم أن ههنا نظما أحسن من نظم ثم تراهم إذا أنت أردت أن تبصرهم ذلك تسدر أعينهم وتضل عنها أفهامهم . وسبب ذلك أنهم أول شي ء عدموا العلم به نفسه من حيث حسبوه شيئا غير توخي معاني النحو ،وجعلوه يكون في الألفاظ دون المعاني ........"(1).
ولا يعني عبد القاهر بتتالي الألفاظ أن ترصف بعضها إلى جنب بعض ،بل يعني به التناسق الدلالي بين هذه الألفاظ المرصوفة . قال بين معنى النظم الذي هو تراصف للالقاظ وبين معناه الذي ينظر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض :
"..........و الفائدة في معرفة هذا الفرق :أنك إذا عرفته عرفت أن ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق ،بل أن تناسقت دلالتها، وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل. وكيف يتصور أن يقصد به إلى توالي الألفاظ في النطق ، بعد أن ثبت أنه نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه من بعض وأنه نظير الصياغة والتحبير والتفويف والنقش وكل ما يقصد به التصوير....."(2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- دلائل الإعجاز:183 عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986
(2)- المرجع نفسه.:183 عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986.
وقريب من هذا المعنى كلامه عن الوضع،ويقصد به وضع الألفاظ المفردة؛ فالألفاظ لم توضع "لتعرف معانيها في أنفسها ، ولكن لان يضم بعضها إلى بعض"(1). وهو بذلك يؤثر في المعنى المركب ويخضعه للتحليل ، وليست معاني الألفاظ المفردة – في رأيه- سوى أجزاء متناثرة من عقد نظمت فيه الألفاظ
بتناسق دلالي للتعبير عن المقاصد المختلفة ، ومن هنا تختلف الأساليب بين إنسان وآخر ،وتفترق الأوصاف التي تضاف إلى بليغ دون آخر .
ولما كان مصطلحا (البلاغة)و(الفصاحة) موضع خلاف بين البلاغيين من حيث تحديد مدلولها الاصطلاحي وكان الرأي السائد في ( البلاغة) أنها تعني فيما تعنيه بلاغة الألفاظ مركبة من حيث المعنى ، وفي (الفصاحة) أنها تعني في الغالب فصاحة الألفاظ مفردة ، لاحظنا أن عبد القاهر ينفرد برؤية خاصة، فهولا يجعل اللفظ جهة للمعارضة ، والمعنى عنده قام اللغة والأساليب البلاغية، لذلك فالفصاحة والبلاغة ماهي إلا أوصاف راجعة إلى المعاني لا إلى الألفاظ"(2).
وطبق نظريته في المعنى على أسلوب التشبيه والحقيقة والمجاز والكناية والتمثيل والاستعارة ..... وغيرها من الأساليب البلاغية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- المرجع نفسه:49. عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986.
(2)- المرجع نفسه:169،170. عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986.
وجعل التشبيه من المحاسن والخصائص التي يتميز بها المعنى دون اللفظ، وعد وصف البلاغيين اللفظ بأنه شريف وأن له ديباجة وعليه طلاوة من الزيادات في المعنى،لأنهم لم يتوصلوا- في رأيه – إلى التفريق بين أصل المعنى والزيادة فيه ، فجعلوا الخصائص الدلالية- التي هي من باب الزيادة في المعنى والكيفية له والخصوصية فيه- أوصافا للفظ"(1).
والمجاز – في رأي عبد القاهر- تجوز في معنى اللفظ لا اللفظ نفسه .وبيان ذلك أن أسلوب الحقيقة والمجاز من باب الخصائص المعنوية،فاستقرار معنى اللفظ على أصوله في اللغة هو الحقيقة ،وتجوزه إلى غير معناه الذي استقر عليه هو المجاز،فالمسألة- إذن- في المعنى وليس في اللفظ. وبعد أن عرف عبد القاهر الحقيقة والمجاز التعريف التقليدي الشائع عند اللغويين والبلاغيين وقال:"إن الحقيقة :أن يقر اللفظ على أصله في اللغة والمجاز: أن يزال عن موضعه ويستعمل في غيرما وضع له، فيقال : أسد ،ويراد به شجاع ، وبحر ، ويراد به جواد ......"،استدرك عليهم بقوله :" .......وهو وان كان شيئا قد استحكم في النفوس حتى انك ترى الخاصة فيه كالعامة ،فان الامريعد فيه على خلافه"(2).
ورد على الذين جعلوا المجاز أبلغ من الحقيقة لأنهم لو يفطنوا إلى أن القصد من المجاز نحو من إثبات للمعنى وتخصيص له . وليس شيء أبلغ من شيء فالمعاني تتفاوت بتفاوت مقاصدها "(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- دلائل الإعجاز:355. عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986
(2)- المرجع نفسه:35. عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986.
(3)- المرجع نفسه:353. عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986.
وقوله في الكناية قريب من هذا المعنى ، فقد عرف الكناية وغرضها بقوله : ".......والمراد بالكناية هنا : أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني ، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ،ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود ،فيومئ به إليه ،ويجعله دليلا عليه ،مثال ذلك قولهم : هو طويل النجاد،يريدون طويل القامة ، وكثير رماد القدر،يعنون كثيرا لقري............"(1).
فالمراد بالكناية والغرض منها إثبات معنى من المعاني.وقد جعل عبد القاهر معرفة ذلك من طريق المعقول دون طريق اللفظ. يعني به تحليل المعنى بالرجوع إلى تسلسل دلالي منطقي ينتهي إلى المعنى المطلوب "(2).
وحكم التمثيل عند عبد القاهر من حيث الدلالة على المعنى كحكم الكناية في أن طريق العلم بالمعنى فيهما هو طريق المعقول. وجعل ذلك في التمثيل أظهر من غيره ولا تخرج الاستعارة عنده عن مفاهيمه للمعنى كما ذكر ذلك فيما تقدم ، فالاستعارة ليست نقل اسم عن شيء إلى شيء آخر"ولكنها ادعاء معنى الاسم لشيء". ورد على البلا غيين كثرة استعمالهم لفظ (النقل)في تعريفهم بالاستعارة.
وللمعاني خواص دلالية تتمثل في الأسماء التي تطلق عليها، واثبات خاصة شيء لشيء آخرهو من باب اثبا ت معنى من المعاني له ،وكذلك هي الاستعارة"(3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- دلائل الإعجاز:170 عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986
(2)- المرجع نفسه:175. عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986
(3)- المرجع نفسه:238. عن كتاب منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث،د.علي زوين،دار الشؤون العامة الثقافية،ط1،بغداد 1986