إنّ السؤال الذي طرحه " شكيب أرسلان " حول واقعنا الراهن في مقابل واقع الغرب – ( لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا ) – جاء كأزمة دقّت ناقوس الخطر أيقظت هموم المثقفين آنذاك لتستجيب لهذا النداء على شكل سؤال . فظهرت بما يسمى بالمشاريع الفكرية النهضوية لتبحث عن الخلل ومن ثم لتجد السبل لتجاوز دائرة التخلف الذي أصاب العقل العربي .
ولكن هذه المشاريع بدورها أنتجت لنا إشكالية أخرى - زادت الطين بلّة - ومفادها : هل حضور هذه المشاريع في الفكر العربي المعاصر كانت ذو طابع سياسي أم طابع ديني ؟ أم تجاوزت إلى الطابع النهضوي ؟ أو بعبارة أخرى : أين تكمن تجليات السياسي والديني الفكر العربي المعاصر؟
وهذه الأسئلة و أخرى تقودنا إلى صياغة الإشكالية المحورية في موضوعنا هذا ، والمتمثل في مدى معرفتنا بالفكر العربي المعاصر من خلال جدلية السياسي والديني ؟.
نلاحظ أن كل المشاريع النهضوية بما فيها الإصلاحية أو النقدية التي عالجت بعض القضايا والمفاهيم كـ : الحق والحرية و العدل والتقدم والدولة والسلطة ...الخ ، قد امتزج فيها الديني بالسياسي ( أي التلاقي ) وهذا ما يجعلنا نستنج ملاحظتين ميزت هذين النوعين من المشروعين : أولها أن هذه القضايا أو المفاهيم كانت كإرث مشترك بينها ، وثانيها بأن هذه المفاهيم حضرت بشكل محوري في كتابات المفكرين العرب المعاصرين أي أنها جاءت لمساءلة ومناقشة هذه المفاهيم التي ترتبط بين ما هو سياسي و ديني . وهذه ما عكسته كتابات العديد من مفكرينا المعاصرين على غرار : "الطهطاوي " في كتابه ( تخليص الإبريز ) ، " الكواكبي " في كتابه ( طبائع الاستبداد وصراع العباد ) ، "علي عبد الرازق" في كتابه ( الإسلام وأصول الحكم ) ، "الجابري" في كتابه ( الفكر السياسي العربي ) ، "عبد الإله بلقزيز " في كتابه ( الدولة في الفكر العربي المعاصر ) ، و " حسن حنفي " في كتابه ( الدين والثورة ) .
فمن خلال هذه العناوين المتنوعة توحي لنا بأن هذه الجدلية قد طُرحت بين طرفي نقيض انطلاقا من اختلاف المبادئ و الأهداف ، فنجد أن كل المشاريع التي تندرج تحت ( الاتجاه الإصلاحي ) قد عالجت هذه الجدلية بشكل صريح – بدون تحفظ – معلنة من موقفها " الإصلاحي " اتجاه كل ما هو سياسي و ديني ، إلاّ أن فكرة ( الإصلاح ) لم تكن واحدة ، فقد انبثق منها موقفين متعارضين : أولها يمثلها ( الاتجاه التغريبي ) الذي يرى بضرورة " الفصل " بين السياسي والديني ، وأشهر أعلام هذا الموقف نجد : شبلي شميل ، سلامى موسى ، فرح أنطوان . أما الموقف الثاني فقد مثلها ما يسمون أنفسهم بـ ( الحركة الإسلامية الإصلاحية ) أي يرون بضرورة إمكانية "الربط أو الوصل " بين السياسي و الديني ، ويمثلها كل من : الأفغاني ، ومحمد عبده ، وابن باديس .
أما المشاريع التي ظهرت بعد هزيمة 1967 فكانت الغاية منها ليس تغيير الواقع وفقط ، وإنما هذا التغيير – حسبهم – يكون وفق مناهج علمية حديثة : ماركسية ، بنيوية ، انثربولوجية ، نقدية ،...الخ . لذلك سميت هذه المشاريع باسم ( النقدية ) لأنها عالجت هذه المسألة في بعدها التاريخي ، أي أنها لم تطرح جدلية السياسي والديني بالطريقة التي طرحها الاتجاه الإصلاحي . حيث نجد أنهم انطلقوا – لفهم هذه الجدلية – من علاقة التراث بحاضرنا ومستقبلنا ، أي كيف نقرأ هذا التراث ؟ وهذه الطريقة النقدية مثلا نجدها عند الجابري في مشروعه " العقل السياسي العربي " لأنه رأى – على حد تعبيره – بأن كل المشاريع النهضوية التي سبقته لم تعالج الإشكالية الحقيقية وهي : من ( المنتَج ) و ( المنتِج) في الفكر العربي المعاصر وهو " العقل العربي " وهذا الأخير بدوره كيف نفعلّه ؟.
إذا هذه المشاريع النقدية قد طرحت بعض الثنائيات التي تشير إلى هذه الجدلية ( السياسي و الديني ) وهي : " التراث والحداثة " و " الأنا والأخر" و " التراث و الثورة " ... الخ. ولكن من الملاحظ أن هذه الثنائيات التي وظفتها هذه المشاريع في قراءتها النقدية للتراث قد اشتركت كلها في فكرة واحدة وهو أن مشكلة ( الأنا والأخر ) هي مشكلة عقائدية – حيث يرى حسن حنفي مثلا بأن اختزال الخبرات الشعورية وإدراك ماهيتها يوصلنا إلى معرفة هذا الوحي – أي أنها لتحقيق نهضة يجب الربط بين السياسي والديني ، حين يكون الأول خادما للدين ولكن يجب أن يكون هذا الأخير أكثر تجديدا وعقلانية . فهذا ما يمثله الموقف الثاني – داخل هذا الاتجاه – الذي يقول بضرورة " الفصل " بين الدين والسياسة ( العِلمانية ) ، ولكن هذا الفصل ينافي المسلمات التي طبقها الغرب في عملية " الفصل " بين الكنيسة والسياسة ، أي ضمن السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي الخاص بالمجتمع الأوروبي . فـ " الفصل " الذي نادى به أصحاب هذا الموقف هو بمثابة الانتقال من ( الديني ) إلى ( اللاديني )أي إعادة المركزية من العلوي ( الإلهي ) إلى السفلي ( الإنساني ) .
وهذه نجدها في كل الديانات التوحيدية و هي في الحقيقة جاءت لخدمة كرامة الإنسان ونقله من عالم الفناء إلى عالم البقاء بالتعبير الحنفي وهذا الموقف في شكله العام مثله محمد أركون من خلال منهجه النقدي الانثروبولوجي الذي دعا إلى "إنسانية الدين" أي الانطلاق من القاعدة الإسلامية ليتوجه مخاطبا كل الديانات وهنا بالذات تتجلى إنسانية محمد أركون في مشروعه النقدي.
وفي الأخير ما يمكن أن نستنتجه من "إشكالية الديني والسياسي في الفكر العربي المعاصر" هو أنه يصعب على الباحث - في هذا المجال - أن يتخذ الموقف " الموضوعي " من كل القضايا والمفاهيم التي عالجتها وطرحتها هذه المشاريع الفكرية، والتي لخصها لنا حسن حنفي في ثلاث تحديدات : موقفنا من التراث، موقفنا من الواقع، موقفنا من الآخر . لأن تحليلنا لجدلية " السياسي والديني " سيوقعنا في حفرة أخرى - أعمق منها في منظورنا - وهي جدلية " الإيديولوجي والمعرفي " فالمشاريع الإصلاحية قد أعلنتها بصريح العبارة بأن مواقفها قد بنته على " ايدولوجيات " معينة ،بينما المشاريع النقدية فقد أخلطت " الإيديولوجي " بـ " المعرفي . ولكن دارسي الفكر العربي المعاصر يعتبرون بأن هذه الإيديولوجيات قد وظفت بشكل منهجي ودقيق ، وهذا ما جعل هذه الجدلية تدرس من خلال ثلاث مواقف في الفكر العربي المعاصر وهي :
1- الدولة المدنية (المدينة الإسلامية ): وهذا الموقف يؤكد على الربط بين السياسي والديني من خلال العلاقة التالية : الله ،الإنسان ،الكون.
2- الدولة العلمانية : جاءت كرد على الموقف الأول أي أنها دعت إلى الفصل بين السياسي والديني وهذا وفق علاقة ثنائية بين الإنسان والعالم .
3- دولة الخلافة أو الإمامة: هو موقف أبعد ما يمكن القول عنه أنه ديني خالص حيث ينبني على علاقة قائمة بين الله والإنسان وبطريقة معينة يفنى الإنسان ويبقى الله ( الرؤية الصوفية ).
وبعد هذا التعقيب التاريخي لهذه الإشكالية ، واقتناعنا بأن جدلية السياسي والديني مازالت متجذرة داخل التشكيلات الاجتماعية لدى الإنسان العربي في القرن الواحد والعشرين ، يجعلنا نطرح التساؤلات التالية – نطمح أن نجيب عنها في مقالاتنا القادمة بحول الله تعالى – وهي كالتالي : ما مصير المجتمع العربي – وداخله المثقف العربي – إزاء جدلية السياسي والديني ؟ وهل سيتفق يوما ما " السياسي " مع " الديني " أو العكس في معالجة هموم الفكر والوطن العربيين ؟. وإذا لم يكن كذلك ، هل يوجد حل ثالث يتجاوز هذا الثنائي ليقدم لنا الدواء لهذا الداء؟.