يأخذ مبحث الفكر العربي المعاصر حيزا واسعا من البحث والتساؤل داخل اوساط المفكرين والمثقفين وفلاسفة العرب، ذلك لأن البحث والتساؤل حول هذا المبحث جاء ازاء فعل نهضوي نأمل تحقيقه مستقبلا، فكان ان سال حبر غزير وأثيرت اشكاليات عويصة ظلت حبيسة الواقع ورهاناته، وبالتالي تسابقت له الايادي وتطاولت له الاعناق، وذلك للتتبوء فيه مقعدا يلزم جالسه بواقعيته واطروحاته التي تعتقد انها قدمت طريق الخلاص لازمة فكر ظلت مستعصية.
وفقا لهذا البناء نطرح التساؤلات التالية:
فهل تخلفنا يعود الى انكبابنا على التراث وحده، والدوغمائية فيه، الامر الذي سد المنافذ امام كل فكر وافد واعتباره خطرا يتهدد الامة الاسلامية ؟
وإذا كان تقدمنا مرهون بحفاظنا على تراثنا والتشبث به كما كان الى ما هو كائن دون تغيير، فلماذا لم ينفعنا اليوم كما نفع الامة بالأمس ؟ هل هناك خلل في هذا التراث ؟ وهل هناك فرق بين التراث والإرث ؟ وبالتالي هل يلزمنا فهم جديد وقراءة جديدة لهذا التراث لكي نتطور ؟...وأسئلة كثيرة تنتظر اجابات هذا من جهة.
ومن جهة اخرى هل تخلفنا عائد بالأساس الى انغماسنا في الحداثة وحدها وإقصاء التراث باعتباره لم يقدم اي جديد يذكر فكان بالتالي عامل تخلف وانحطاط لا تقم وابتكار ؟
وإذا كان سبيل الى التقدم لا يتم إلا عبر جسور الغرب، فكيف يمكننا ان نستفيد من هذا الغرب ؟ هل نأخذ كل ما لديه حرفا بحرف، وذلك لكي نتقدم ؟ ام نأخذ فقط ما يخدم ديننا ونتجنب ما لا يخدمنا ؟ وبالتالي نكون براغماتيين ( نفعيين)
ولكن من جهة اخرى اليس الضعيف أو المغلوب يخضع لسلطة القوي أو الغالب كما قال " ابن خلدون "؟ الامر الذي يعني اننا
غير مخيرون بين الاخذ والغربلة ناهيك عن العطاء، فالغرب فرض علينا من كل النواحي ( التلفاز – الكمبيوتر – الانثرنيت – ومحتلف الوسائل والأدوات الاخرى ...)، اضافة الى سلطته السياسية والعسكرية، والتي لا نملك منها حولا ولا قوة، فالغرب يسيرنا كيف ما يشاء حتى في دولنا ومنازلنا ( الوطن العربي ).
الامر الذي يدعونا الى القول ان اشكالية ثنائية التراث والحداثة اصبحت مصطنعة أو استهلكت، بحيث لم تعد خيارا بل صارت امرا مفروضا وواقعي يجب التعامل معه ومن دون مفر وذلك بغية تجاوز هذه الثنائية.
من خلال ما سبق نقول:
كيف يمكننا ان نفهم التراث فهما واقعيا، وبحلة جديدة في ضوء الحداثة التي لم تعد خيارا بل صارت امرا مفروضا و لا مفر منه، وذلك في سبيل نهضتنا المأمولة والمرجوة في ظل واقع عربي متأزم ؟
ولمعالجة هذه الاشكالية ظهرت تيارات فكرية كثيرة في الوطن العربي لتدلوا بدلوها فيها، وهو ما سنحاول توضيحة في هذا المقال ان شاء الله، كما اتمنى ان تستمتعوا معي في هذه الجولة الهادفة، على انكم تفيدونني بآرائكم وذلك بعد ان تكملوا جولتكم - والتي اتمنى ان تصلوا الى نهايتها سالمين غانمين - لأنها تهمني كثيرا في سبيل تطوير وطننا العربي ألجريح، الجريح ، الجريح... وذلك لغد افضل ان شاء الله في ظل امل قائم.
قبل الحديث عن الفكر العربي ارتأيت ان اضبط مصطلحاتي أولا، ذلك لان الفكر العربي اصطدم منذ ظهوره بإشكالية التسمية والمحصورة في التساؤلات التالية وان كنت اراها شكلية:
هل فكر عربي ام اسلامي ؟ وماذا يعني الامران ؟ وهل هناك تطابق بينهما ؟ هل الفكر الاسلامي يعني الفكر الاسلامي ؟ وهل هناك اختلاق وان كان هناك فما الاصح ؟ الفلسفة الاسلامية ام العربية ؟
أ - مفهوم الفلسفة العربية:
يعرفها لنا عبد المنعم الحفني (1930 ) - في كتابه "المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة":"بأنها تعبير عن الروح العربية، ولا يعني أن يفهم ذلك بمعنى عنصري، بل بمعنى حضاري، كقولنا الفلسفة اليونانية، أو الفلسفة الفرنسية، أو الألمانية،(...)
وبتعبير حضاري فكل من ينتسب إلى هذه الوحدة الحضارية التي تسمى الحضارة العربية ويكتب بالفرنسية فهو فيلسوف أو مفكر عربي وفلسفته أو فكره هو فلسفة وفكر عربيان (1)
ب – مفهوم الفلسفة الاسلامية:
يعرفها عبد الرحمن مرحبا":إحدى الحركات العقلية التي نشأت في ظل الإسلام وحضارته وارتبطت به و بأنواع مختلفة من الارتباط إما بالتفلسف في عقائده أو بالملائمة والتقريب بينه، وبين فلسفات أخرى وافدة إلى المسلمين، أو بمجرد التعبير عن وجهة نظر فريق من أبنائه في الألوهية والكون والحياة، وكلها حركات إنما وجدت لتشهد على أن الإسلام لا يعبر عن ذاته بعلوم الدين والنقل فقط، بل بعلوم الفكر والعقل أيضا" (2)
يفهم من التعريفات المقدمة للفلسفة العربية والفلسفة الإسلامية، أن الفلسفة العربية بحسب المفهوم المقدم تنسب بوجه خاص إلى اللغة التي كتبت بها وهي)اللغة العربية(، بينما الفلسفة الإسلامية فهي تنسب إلى معتقد ديني وهو)العقيدة الإسلامية (أي أن الفلسفة العربية تنتمي وتحدد على أساس(اللغة العربية(، بينما الفلسفة الإسلامية تنتمي وتحدد على أساس اعتقاد ديني هو)الإسلام( .(3)
ج – فكر عربي: ( مرجعية التسمية )
هم مفكرو اعرب امثال: الجابري – عبد الله العروي – حسن حنفي – محمد اركون، واعتبر هذا مبررا الى حد ما، ذلك ان ما ذهبوا اليه كان نتيجة رغبة الذات العربية بصفة عامة، ومن ثم كانت مرتبطة بالعرب اكثر من الاسلام كدين، الامر الذي رجح كفة التسمية الأولى " فكر عربي " .
د – فكر إسلامي: ( مرجعية التسمية )
اما بخصوص الفكر الاسلامي فهو دعوة للعودة الى التراث الاسلامي، بل والتشبث به ومعاودة احيائه من جديد عن طريق نهضة تمس مختلف الأصعدة، على ان هذا الاحياء يقبل التجديد فيه وذلك لمسايرة الوقائع الحالية وربطها بالفانية، الامر الذي رجح التسمية الثانية " فكر اسلامي " .
غير ان لـ " محمد البهي " رأي اخر وذلك في كتابه " الفكر الاسلامي في تطوره " حيث يرى ان الفكر الاسلامي يختلف عن "الفكر العربي "وذلك لكونه يعني":المحاولات العقلية من علماء المسلمين لشرح الإسلام في مصادره الأصلية: بالقرآن والسنة الصحيحة .إما تفقها واستنباطا لأحكام دينية في صلة الإنسان بخالقه في العبادة)...)وإما توفيقا بين مبادئ الدين وتعاليمه)...)أو دفاعا عن العقائد التي وردت فيه، أو ردا لعقائد أخرى" .(4)
و – مفهوم الفكر العربي:
يعرفة محمد عابد الجابري ( 1935 - 2010): " مضمون الفكر ومحتواه؛ أي جملة الآراء والأفكار التي يعبر بواسطتها هذا الشعب أو ذاك عن مشاكلهم واهتماماتهم، عن مثله الأخلاقية ومعتقداته المذهبية، وطموحاته السياسية الاجتماعية وأيضا عن رؤيته للإنسان والعالم ". (5)
يفهم من هذا التعريف أن الفكر بهذا المعنى":هو الأيديولوجيا بمعناها الواسع العام الذي يشمل الفكر السياسي والاجتماعي والفكر الفني والفلسفي والديني، ولا يخرج عن هذا المعنى العام للأيديولوجيا إلا العلم .وبذلك فعبارة "الفكر العربي":"تتسع لكل ما ينتجه العرب من أفكار أو ما يستهلكونه منها، في عملية التعبير عن أحوالهم وطموحاتهم، باستثناء المعرفة العلمية ". (6)
أما زكي نجيب محمود( 1905 – 1993 ) فالفكر العربي الخالص عنده :هو الذي -أنتجه أبناء أمتنا العربية إنتاجا مبتكرا وأصيلا (7) وأن الفكر عنده لا ينتسب إلى اللغة التي كتب بها، بل ينتسب إلى قومية منتجة، وهذا ما عبر عنه بقوله ": ليس كل ما يكتب بالعربية فكرا عربيا، فالفكر لا تتحدد قوميته باللغة التي كتب بها، بل ينتسب إلى قومية منتجة كائنة ما كانت اللغة التي استخدمها ذلك المنتج في التعبير عن الفكر". (8)
م – مفهوم الفكر العربي المعاصر عند" زكي نجيب محمود ":
ليس هو"الفكر العربي الخالص"، لأنه يفتقر إلى المعاصرة التي تعبر عن فترة زمنية محددة تحديدا تاريخيا .ولهذا فالفكر العربي حسب زكي نجيب محمود":لا يكون فكرا معاصرا إلا إذا كان أصحابه الذين أنشاؤه وأنتجوه من أبناء الجيلين أو الثلاثة أجيال ألأخيرة وهي الأجيال التي يمكن أن نتفق على أنها تحدد معنى المعاصرة" (9)
ومن تم يجوز لنا أن نطلق لفظ "الفكر العربي المعاصر":"على ما أنتجه أبناء الدول العربية في الثلث الأخير من القرن الماضي وفي هذا النصف المنقضي من القرن الحاضر. (10)
هذا يعني أن زكي نجيب محمود يحدد مفهوم"الفكر العربي المعاصر"على أساس تاريخي .وبمقتضى ذلك ينبغي أن نبعد كما قال":عن أنظارنا كل منقول عن لغة أجنبية، لأنه ليس فكرا عربيا، وكل قديم منشور، لأنه ليس فكرا معاصرا " (11)
من خلال هذا البناء نتساءل ونقول: اذا كان هذا هو مفهوم الفلسفة العربية والفكر العربي المعاصر، فهل يمكننا القول بوجود فلسفة عربية معاصرة ؟
قبل ان أعالج هذه الاشكالية ارتأيت ان أشير الى موقفين بخصوص الفلسفة الاسلامية والفكر العربي المعاصر، حيث يرى البعض ان الفلسفة الاسلامية انتهت في العالم الاسلامي والعربي مع " الغزالي " ووفاة " ابن رشد " هذا من جهة، ومن جهة اخرى هناك من يرى انها لم تنتهي او بالأحرى لم تنقطع، وذلك بمجرد هدمها من طرف " الغزالي " ووفاة " ابن رشد " وفيما يلي اهم ما جاء به هذان الموقفان:
1 – القائلون بالقطيعة:
يرى أصحاب هذا الموقف أن الفكر الفلسفي أو بالأحرى الفلسفة انقطعت وتوقفت بعد الازدهار الذي عرفته في العصر الوسيط على يد عدد كبير من فلاسفتنا الكبار الذين يشهد لهم التاريخ بما حققوه وأبدعوه في مجال العلم والفلسفة .ونجد من بين المفكرين العرب المعاصرين القائلين بهذا الموقف زكي نجيب محمود الذي يرى أن الفكر الفلسفي بقي مغلقا طيلة قرون .وكانت بداية هذا الانقطاع مع الإمام أبي حامد الغزالي عندما ألف كتابه"تهافت الفلاسفة "في نهاية القرن الحادي عشر "(12)
الامر الذي جعل من الفلسفة محظورة طيلة 7 قرون والى غاية منتصف القرن الماضي اين عرفت عودة مأمولة وذلك نتيجة لحركة شاملة استهدفت نهوض الحياة الفكرية العربية من كل ارجائها فنشأ علم، وفن، وتجدد الادب والفلسفة.
وفي هذا الاطار نجد كذلك محمد عاطف العراقي 1934 م يذهب هو الآخر إلى القول بأن الفلسفة العربية وقفت بوفاة الفيلسوف المغربي العربي ابن رشد ولم يوجد بعده فيلسوف عربي يستحق الذكر، وتأكيدا لذلك يقول"ما وجدت بعد وفاة ابن رشد سوى نفر من المفكرين أقرب إلى الشراح أو السائرين في طريق يعد طريقا متفرعا عن فلسفة هذا الفيلسوف أو ذاك ولا يعد طريقا رئيسيا أو اتجاها أساسيا في الفلسفة" (13)
والسؤال الذي يمكن طرحه في نهاية عرضنا لهذا الموقف، هو هل حقا أن الفلسفة العربية الإسلامية توقفت وانقطع صداها بوفاة الفيلسوف ابن رشد، أم أنها لم تعرف التوقف والانقطاع وبقيت مستمرة بعده عبر العصور التاريخية اللاحقة؟ هذا التساؤل يقودنا حتما لتقديم الموقف الثاني الذي يتضمن الإجابة عنه، لأنه يعارض الموقف الأول ويناقضه في الرأي .(14)
2 – القائلون بالتواصل:
يرى أصحاب هذا الموقف أن الفكر الفلسفي في مجتمعنا العربي الإسلامي لم يعرف ألانقطاع وبقي مستمرا بعد ابن رشد .ونجد من بين المفكرين القائلين بهذا الموقف المستشرق هنري كوربان 978-1903 م( الذي يرى بأن الفلسفة الإسلامية لم تنته كما هو شائع بموت الفيلسوف ابن رشد، إنما انتقلت إلى إيران، واتخذت شكل الفلسفة الإشراقية.
ونلمس هذا التوجه بوضوح من خلال ما تضمنته بعض نصوصه التي يقول فيها":إن المؤرخين الغربيين(...) قد ظلوا يعتبرون أن مصير الفلسفة في الإسلام قد انتهى مع ابن رشد .هذا من جهة، ومن جهة ثانية فقد أنارت أعمال" السهروردي" الطريق الجديد الذي مشى عليه العديد من المفكرين والروحانيين حتى أيامنا هذه". (15)
وفي هذا السياق نجد جعفر آل ياسين يذهب هو الآخر إلى القول":أن الفلسفة لم تمت في الشرق بذهاب أبي الوليد عنها، بل بقيت قائمة متطورة على أيدي جماعة من المفكرين الكبار(...)جددوا في بناء الفكر منذ القرن السادس الهجري وحتى مرحلة صدر الدين الشيرازي(...)وما بعد مرحلته ". (16)
ورأي الفصل في هذا الطرح المتناقض أن الفلسفة المبدعة التي شهدها العصر الإسلامي الوسيط، على أيدي كبار فلاسفتنا الذين يعود إليهم كل الفضل فيما حققته الفلسفة من تقدم وتطور وازدهار، لم تشهده في أي عصر آخر .فقد انقطعت في البلدان العربية، ودام انقطاعها عدة قرون .لتستأنف نشاطها من جديد مع أجيال من المفكرين العرب المحدثين والمعاصرين الذين قاموا بحركات متباينة، ساعدت على نشأة الفكر الفلسفي العربي من جديد وكانت البداية الأولى مع مطلع عصر النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر .والتي تعد بحق ممهدة للنهضة العربية المعاصرة الفكرية في القرن العشرين .والتي أصبح فيها الفكر الفلسفي العربي أكثر إنتاجا ونضجا، محاولا أن يجد لنفسه مكانة متميزة بين الإنتاج الفلسفي المعاصر (17)
فهذه القطيعة التي عرفتها الفلسفة، وهذا التواصل، وهذه العودة الجديدة للفكر الفلسفي في الثقافة العربية المعاصرة، من شأنها أن تجعلنا نتساءل عن من هم ابرز اعلام الفكر الفلسفي العربي المعاصر وعن دعواتهم المختلفة ؟ وقبل ذلك ماهي المرجعيات والنماذج التي اقتدى بها العرب في نهضتهم ؟ وكيف بنا ان نصنف مفكري هذا المبحث ؟ (الفكر العربي المعاصر ).
ان الباحث في الفكر العربي خاصة ليجد ان معظم العلماء والمفكرين رواد النهضة العربية قد اعتمدوا في نهضتهم تلك على مرجعين رئيسين هما:
1 – مرجعية غربية: تمثلت في: الماركسية، الوجودية، البنيوية...الخ
2 – مرجعية تراثية: تمثلت قي المرجعية الاسلامية التي تنقسم بدورها الى مرجعيتين:
أ‌- مرحعية عقلية نظرية ( عربية / اسلامية ): وهي بدورها تنقسم الى ثلاث اقسام:
1 – الاعتزالية 2 - السلفية 3- الاشعرية
ب‌- مرجعية تطبيقية سياسية: وهي بدورها تنقسم الى ثلاثة اقسام:
1 – الشيعة 2 – السنة 3 – الخوارج
ومنه فاللغز الذي شغل بال رواد النهضة العربية، هو كيفية النهوض والاستفادة من التراث من خلال ماضيها بنوعيه ( الفكري – العملي )،ذلك المحيط الممزق المنكسر، من اجل اعادة تشخيص الواقع العربي للإبداع حضاري جديد ( لمعرفة المزيد انظر مقالنا حول اشكالية النهضة في الفكر العربي المعاصر (البديات والانشغالات)على الرابط التالي" :
http://www.ta5atub.com/t5444-topic
ومنه يمكن القول بان الفكر العربي المعاصر في عمومه تفسير لهزمتين وجاء في مرحلتين:
اما الاول يجيب عن السؤال لماذا انهزم العرب و تخلفوا عن غيرهم ؟
اما المرحلة الثانية فتتحدث عن خصوصيات الفكر العربي الذي حاول ان يجاوز النهضة، لكنه وقع في ازمة اخرى وهو ما عنونا به مقالنا: الفكر العربي من عصر النهضة الى عصر الأزمة، ومن دوغمائية الفكر الى صدمة الاصلاح.
وما يمكن قوله ايضا ان هناك اشكالية كبيرة في تصنيف وتفييئ الفكر العربي المعاصر وما يخلصنا من ذلك هو تحديد الاساس الذي بموجبه تم التصنيف.
ولم اجد احسن من محاولة الدكتور " عبد الرزاق قسوم " والذي حصره في ثلاثة مدارس هي على التوالي:
1 – مدرسة المنطلق العقلي والمصب الديني:
والتي من ابرز خصوصياتها انها توظف العقل لخدمة الدين، ومن ابرز ممثليها والذين هم في الحقيقة فقهاء قبل ان يكونوا فلاسفة ومفكرين، ونذكر منهم:
- خالد محمد خالد – محمد عمارة – د مصطفى محمود
2 – مدرسة المنطلق الديني والمصب العقلي:
والتي من ابرز خصوصياتها انها ترى ان الدين خادما للمنطلق العقلي ويعد كل من:
حسن حنفي – محمد عابد الجابري – محمود المسعدي من ابرز ممثليها
3 – مدرسة المنطلق العقلي والمصي اللاديني:
والتي من ابرز خصوصياتها انها تتسلح بالعقل لتبطل اللاعقل، و يعد كل من:
فؤاد ذكرياء – محمد اركون – هشام جعيط
- نـــماذج مختارة لأهم اعلام الفكر العربي المعاصر:
1 – زكـــي نجيب محمود: ( 1905 – 1993م )
مفكر مصري، درس الفلسفة في إنجلترا ودرس الفلسفة في الجامعات المصرية والكويتية.(18)
له كتب كثيرة أهمها - قصة الفلسفة اليونانية – قصة الفلسفة الحديثة – قصة الادب – حياة الفكر في العالم الجديد – نحو فلسفة علمية – تجديد الفكر العربي – المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري – في فلسفة النقد – خرافة الميتافيزيقا...الخ
ان المتأمل في هذه المؤلفات يجد ان " زكي نجيب محمود " يشتغل اولا على تاريخ الفلسفة و الصنف الثاني يؤسس توجهه الفكري ( الاتجاه الوضعي )، بالإضافة لرفضة للميتافيزيقا ود عوته لتجديد الفكر العربي
- الوضعية المنطقية وزكي نجيب محمود:
من المعلوم ان الوضعية المنطقية جاءت كتعديل للاتجاه الوضعي الذي ظهر بفرنسا على يد " اوجيست كونت "، هذا الاتجاه ظهر في الثلاثينات في القرن 20م في انجلترا، وبالتالي تزامن ظهوره مع تواجد " زكي نجيب محمود " بانجلترا الامر الذي جعله يتأثر به وياخد بأهم مبادئه، ومن بين اهم هذه المبادئ نذكر ما يلي:
- ان الفاعل الاساسي في هذا الكون هو الانسان
- ان التجربة والعمل هما المعيار الوحيد لكل حادث
- ان الثقافة فعل والتفكير خطة للمستقبل
- ان الخبرة المحسوسة مصدرا وحيدا للحقيقة
وبالتالي دعوى الدكتور " زكي نجيب محمود " في الاخذ بهذه المبادئ هو ان نصنع عقلا عربيا يأخذ بهذه المبادئ ويؤمن بها ويلتزم بما تقتضيه هذه القضايا والمبادئ، ويلتزم بما تقتضيه هذه القضايا والمبادئ ، كما يمننا ان نجد دعوى اخرى وهي ان الفكر العربي ينبغي ان يشتغل به الانسان العربي ذلك لأنه الفاعل الحقيقي.
1 - اما بخصوص موقف " زكي نجيب محمود "ضد التراث فيمكن حصره في ثلاث مراحل هي:
- المرحلة الالى: تجاهله وإنكاره للتراث
حيث يقول: " لم تكن قد اتيحت لكاتب هذه الصفحات في معظم اعوامه الماضية فرصة طويلة الامد تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل، فهو واحد من الوف المثقفين الذين فتحت عيونهم على فكر اوروبي ( قديم أوحديث ) حتى سبقت الى خواطرهم ظنون بان ذلك هو الفكر الانساني الذي لا فكر سواه لان عيونهم لم تفتح على غيره لتراه ".من كتابه تجديد الفكر العربي ص 5.
المرحلة الثانية: بتر التراث حتي يتماشى مع حضارة الغرب
حيث يقول: " لا امل في حياة فكرية إلا اذا بترنا التراث بترا وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علما وحضارة ووجهة نظر الى الانسان والعالم "
المرحلة الثالثة: رفض موقف التركيب والاعتدال
حيث يقول: " الحضارة وحدة لا تتجزأ فإما ان نقبلها من اصحابها ، وأصحابها اليوم هم ابناء اوروبا وأمريكا بلا نزاع، وإما ان نرفضها وليس في الامر خيار بحيث ننتقي جانبا وندع جانبا..."
2 - موقف "زكي نجيب محمود مع التراث براغماتيا: وفيها مرحلتين:
المرحلة الجزئية الاولى:
يدعونا الى كيف نوائم بين التراث وبين ثقافة وحضارة الغرب ؟ وليس بما نأخذ وكم نأخذ حيث يقول في هذا الشأن:
"ليست هي كم اخذنا من حضارة الغرب وكم ينبغي ان نأخذ بل هي كيف نوائم بين الفكر الاوربي الوافد الينا وبين تراثنا القديم بحيث يندمج بين متنافرين، ولكن يأتي تظافر تنسج فيه خيوط الموروث مع خيوط العصر" من كتابه المعقول واللامعقول
المرحلة الجزئية الثانية:
هي ان نتعامل مع التراث بمعيار برغماتي يقول " نأخذ من تراث الاقدميين ما نستطيع تطبيقه اليوم تطبيقا عمليا فيضاف الى الطرائق الجديدة المستخدمة (...) فاذا كان عند اسلافنا طريقة تفيدنا في المعاش الراهن اخذناها وكان ذلك هو الجانب الذي نحييه من التراث، وإما ما لاينفع نفعا عملا تطبيقيا، فذلك الذي نتركه غير اسفين " من كتاب تجديد الفكر العربي ص 18
2 – محمد عبد العزيز الحبابي: ( 1922 – 1993م )
مفكر مغربي، درس الفلسفة في فرنسا وعمل استاذا في الجامعات المغربية والجزائرية، له اعمال روائية وشعرية، وانتاج فلسفي باللغتين العربية والفرنسية.(19)
من اهم كتبه: - من الكائن الى الشخص – من الحريات الى التحرر – من المنغلق الى المنفتح – الشخصانية الاسلامية – جيل الظمأ – يتيم تحت الصفر – تأملات في اللغو واللغة- مفاهيم مبهمة في الفكر العربي المعاصر – ورقات عن فلسفات اسلامية .
تميز الحبابي داخل الحقل الفلسفي العربي بانه الوحيد الذي تبنى النزعة الشخصانية التي كان من ابرز مفكريها ، وقد حاول بناء صياغة اسلامية مكتملة لها شكلت عماد مشروعه الفكري، قبل ان يتحول الى مذهب جديد اطلق عليه " الغدوية "شكل موضوع كتاباته الاخيرة. (20)
والشخصانية – كما هو معروف – تيار فلسفي ظهر في الساحة الفرنسية في منتصف القرن العشرين، على يد " امانوييل مونييه " ودائرته الفلسفية المتمحورة حول مجلة " اسبري ".(21)
بلور الحبابي مقاربته الشخصانية في رسالته للدكتوراة بالسوربون بعنوان " من الكائن الى الشخص (1954)، واطلق على هذه المقاربة مقولة " الشخصانية الواقعية " (22)
ومنه اذا اردنا ان نفهم فكر " الحبابي " بشكل عميق وذلك في كتابه " الشخصانية " فاننا نجد انفسنا مطالبون بالعودة للحديث عن اهم المبادئ التي يقوم عليها الاتجاه الشخصاني في فرنسا.
ان الشخصانية جاءت كردة فعل ازاء نزعتين وذلك لتخليص الانسان من هذا الوضع:
1 – النزعة الفردانية: ماكس فبيبر
2 – النزعة الشمولية الهيولية: اميل دوركايم
الاولى ترى انه لتخليص الانسان من هذا الوضع لا بدا من تمجيد فردانيته واكسابه استقلالا عن الجماعة التي ينتمي اليها ، وبالتالي حين يستشعر قدراته ويسترجع حريته، حينها يكون مسئولا ومن ثمة يكون مبدعا.
والثانية ترى بان الفرد كبنية مستقلة، او كشيء منفرد عن الجماعة ليس له أي معنى فالفرد وبكل ما يستشعره لن تكون له اهمية دون ذوبان في المجتمع ومن ثمة جاءنا التيار الشمولي.
ايضا من الناحية الاقتصادية ظهرت نزعتين:
1 – التسيير ألاشتراكي لا مجال للخصوصية ولا للتفرد
2 – النزعة القائمة على حق التملك ( الرأسمالية )
وبالتالي يمكن القول انه في وسط هذه الفردانية والشمولية جاءتنا الشخصانية والتي تعتقد بان لا الفردانية محقة ولا الشمولية محقة، ذلك لان الانسان مع الفردانية سيظل حبيس الوضع البيولولوجي، اما مع الشمولية فإنها ستؤدي به الى الذوبان والانصهار الامر الذي سيختلف مع الشخصانية التي هي اعتراف بالذات ووجودها دون الابتعاد عن الأخر حيث يكون الانا ويكون الأخر حيث تكون الذات والجماعة مما من شانه ان يبعدهما عن العزلة.
- اهم المبادئ التي قامت عليها الشخصانية:
- اذا كان الشخص هو شخص معنوي يشغل حيزا لا يشغله غيره، فكيف يمكن تحقيق ذلك ؟ يتم ذلك بما يلي:
أ- مرحلة الخروج من الذات:
1 – وعي الذات: البقاء مع الذات ومعرفة القدرات
2 – تجاوز هذا الوعي
وبالتالي لكي نعي ذواتنا نتساءل عن مصداقية هذا الوعي ثم التساؤل عن ذاتي وقدراتي هل هي حقيقية ام ناقصة...تساؤلات جمة يطرحها الفرد كحوار داخلي صادق، فحين نتجاوز مرحلة هذا الوعي فإننا سنصل الى نتيجة لا نجدها في ذواتنا بل نجدها عند غيرنا.
ب – مرحلة البحث عن الحقيقة:
الحقيقة في اعتقاد الشخصانية هي انخراط مع الأخر فكثير من الاشياء كنا نعتقد بصحتها لكن باحتكاكنا مع الاخرين قد يتبين لنا زيفها وبالتالي نتجاوزها .
ج – مرحلة تحمل المسؤولية:
تحتك مع الاخر وتتحمل مسؤولياتك اتجاهه
د – مرحلة العطاء:
قوة الشخصية ليست في المطالبة بل بالعطاء
و- تفرقتها بين العمل والفعل:
فالعمل معناه الانجاز وفق وقت محدد مثلا من الساعة 8 الي 12، لكن الفعل هو انجاز غير مخطط ولا محدد مما يقتضي تغييب المحدد، الامر الذي يعني ان يكتسب الشخص حريته مع الفعل وليس مع العمل ، ومنه ما لفائدة من هذا كله؟
الفائدة من هذا كله هو ان المطلوب من المواطن العربي ان يفعل لا ان يعمل مؤديا بذلك الى اكتسابه حريته، وبالتالي الوصول الى الابداع الذي يكون من قبيل النهضة.
يرى المفكر المغربي " محمد الوقيدي " ان فلسفة الحبابي مرت بثلاثة مراحل:
1 – الشخصانية الواقعية: ( اصول ومبادئ الفلسفة الشخصانية )
2 – الشخصانية الإسلامية ( نقطة التلاقي بين الشخصانية والإسلام )
3 – الفلسفة الغدوية: ( محاولة الحديث عن فكر ، عن فلسفة ، وعن رسم لفكر ، ينسجم مع الغد والمستقبل )
يقول الحبابي " الشخص قوة مبادرة واختيار، يلتزم – يندمج – ينسجم – يشعر – فيقبل أو يرفض"
ومنه يشير الى مجموعة من المسلمات اهمها:
1 – انه يريد ان يأخذ الشخصانية كفكر ومسلمة، وبين الدين بما له من خصائص
2 – انه لو فهمنا الاسلام فهما عميقا ما امكننا ان نقول بتعارض بين الاسلام والفكر الشخصاني
3 - الشخصانية الترام تحرر، عطاء، تعالي، اندماج انخراط في الأخر، تحمل مسوؤلية الاخر.
4 – ان ما يطلبه هو انسانا عربيا، لكن هناك مفاهيم ثلاثة اعتدنا ان نطابق بينها وهي الكائن – الشخص – الانسان ، ذلك لان الكائن هو مرحلة أولى والشخص مرحلة ثانية، والشخص مرحلة ثانية، والإنسان مرحلة ثالثة.
فالكائن بحسب الحبابي هو ما يصير شخصا، فهو المادة الخام، لما يتحرر من بيولوجيته، لما ينخرط مع الآخر لما يعطي يصبح شخصا، على ان هذا الاخير هو ما قد يصير انسانا.
ففي مرحلة الكائن هناك تشابه بين جميع الكائنات، وفي مرحلة الشخص يكمن التفاوت، فالشخص اذا كانت له رسالة ( حقيقية )- الغاية من وجوده – وأراد الوصل اليها فانه لا بدا من ادوات مختلفة تخضع لمبادئ موجودة عند الشخص ( مقصاد ووسائل ومبادئ ) وبالتالي اجتناب الادوات البهائمية، والتحلي بالأدوات الفعالة بما يتوافق مع مبادئ الشخص يصير انسانا.
الهوامش:
1 – عبد المنعم الحفني، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط3، 2000،ص 614
2 – عبد الرحمن مرحبا، من الفلسفة اليونانية الى الفلسفة الاسمية، منشورات عويدات بيروت، لبنان، ط2، 1981،ص 336
3 – عبد الحفيظ عصام، التجربة الفلسفية في الفكر العربي المعاصر، زكي الاسواري نوذجا، اطروحة دكتوراة، جامعة منتوري قسنطينة، السنة الجامعية2007/2008، ص 66
4- محمد البهي ، الفكر الاسلامي في تطوره، دار التضامن للطباعة، القاهرة – مصر – ط2 ، ص ص 145 ، 146.
5 – محمد عابد الجابري، اشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت – لبنان – ط1 ، 1989،ص 51
6 – المرجع نفسه،ص 51
7 – زكي نجيب محمود، قشور ولباب، مكتبة الانجلو مصرية، القاهرة – مصر – 1957،ص ص 145 ، 146
8 – المرجع نفسه ص 145
9- المرجع نفسه ص 146
10 – المرجع نفسه ص 146
11 – المرجع نفسه ص 147
12 - عبد الحفيظ عصام، التجربة الفلسفية في الفكر العربي المعاصر، زكي الاسواري نوذجا، مرجع سابق ص 74
13- محمد عاطف العراقي، ثورة العقل في الفلسفة العربية، دار المعارف بمصر، القاهرة،ط4 ، 1978،ص 13
14 – عبد الحفيظ عصام، التجربة الفلسفية في الفكر العربي المعاصر، زكي الاسواري نوذجا، مرجع سابق ص 75
15 – هنري كوربان، تاريخ الفلسفة الاسلامية، عويدات للنشر والطباعة ، بيروت – لبنان – ط2 1998 ، ص 303
16 – جعفر ال ياسين، الفيلسوف الشيرازي ومكانته في تجديد الفكر الفلسفي في الاسلام، الفكر الجامعي ، منشورات عويدات بيروت – لبنان – ط1 1978 ، ص 8
17 - عبد الحفيظ عصام، التجربة الفلسفية في الفكر العربي المعاصر، زكي الاسواري نوذجا، مرجع سابق ص 78
18 – السيد ولد اباه، اعلام الفكر العربي المعاصر، مدخل الى خارطة الفكر العربي الراهنة، الشبكة العربية للابحاث والنشر، بيروت – لبنان – ط1، 2010،ص 53
19 – المرجع نفسه،ص 170
20 – المرجع نفسه ص 170
21 – المرجع نفسه ص 170
22 – المرجع نفسه ص 171
- اضافة الى استفادتنا من محاضرات الدكتور: عياد احمد، حيث قمنا بجمع ملاحظات هامة من محاضراته القيمة
الدكتور عياد احمد ، استاذ الفلسفة والفكر العربي بجامعة ابي بكر بلقايد تلمسان .الجزائر