ثم إنّ عملية الفهم أو فعل الفهم لن يتحقق بين الباث والمتلقي أو بين واقع الأفراد إلا إذا كان منبعه ينطلق من مبدأ نسبي،وهو ما يحقق ما يسمى بمبدأ الانفتاح؛هذا المبدأ هو الذي يعطي لشرعية الفهم للآراء سواء أكانت شخصية أم لدى الآراء الآخرين([41]).
غير أنّ مثل هذا المبدأ القائم على الانفتاح قد انجر في ظله اتجاها آخر يقوم أساسا على ما سمّي في مجال الدراسات بالأحكام المسبقة؛ هذه الأحكام لربّما تجعل من كثير من الباحثين ينظرون إليها بمنظار سلبي على أساس أنّها تخل من حركية المعرفة،وهي رؤية لم يؤمن بها غادامير بحكم أنّها تعطي لفعل الفهم بعدا آخر،على أساس أنّ الأحكام المسبقة تساهم هي بدورها في المجال المعرفي مفهوما ومنهجا([42]).
لكن لسائل أن يسأل؛ما هو المنبع المعرفي والمنهجي للأحكام المسبقة يقول غادامير في كثير من سياقات كتابه المشهور-الحقيقة والمنهج-؟ ليعطي رأيه الخاص مبينا الشرعية المعرفية في ورود مثل هذه الأحكام المسبقة في المجال المعرفي وبالضبط في فعل الفهم في علاقته بالإطار التأويلي.
يقول غادامير في هذا المقام"إنّ الأساس في الأحكام المسبقة لا يخرج عن سبيلين اثنين:أحدهما أحكام مسبقة لها الصدارة أو السلطة،والثاني سريعة النفوذ لكنها لا تؤتي أكلها،وعليه إذا كان فلاسفة الأنوار قد عدّوا أنّ مثل هذه الأحكام المسبقة مرادفة لمبدأ الخطأ،بحكم أنّهم لم يجدوا منهجا قويما يقف مرصادا أمام هذا النوع من الخطأ،وبوجود ديكارت وباكتشافه لفكرة المنهج استطاع هذا الأخير أن يواجه مثل هذه الأحكام المسبقة، ولاسيّما سريعة النفوذ التي لربّما تجعل عقلنا يظل عاجزا في اكتساب المعرفة"([43]).
ثم نلفي غادامير في سياق آخر يعطي الأهمية البالغة بفعل التأويل في علاقته بفعل الفهم الذي ينبغي أن يرتبط بعلاقة الإنسان بالعالم أو الوجود،وهي لفتة موفقة نعتقد أنّه قد أخذها من قبل هايدجر؛إذ يقول في هذا الصدد ما نصّه" إنّ الدراسات التي سنقرأها هنا تعالج مشكلة التأويل؛ ذلك أنّ ظاهرة الفهم، ومن ثمّ تأويل ما فهم تأويلا صحيحا، لا يشكل مشكلا متميّزا يتعلق بمنهجية العلوم الإنسانية فقط؛فالفهم وتأويل النصوص ليسا حكرا على العلم ولكنّهما يتعلقان أساسا بالتجربة الشاملة التي يكونّها الإنسان عن العالم، ومن ثمّ فإنّ ظاهرة التأويل ليست مشكلة منهجية"([44]).
هذه اللفتة التي يشير إليها غادامير ستؤهّله لأن يتناول قضية خطيرة باتت من اللوازم على الدراسات التأويلية الأخذ بها والعمل وفقها.إنّها قضية التفرقة بين المنهج والحقيقة؛في الوقت الذي نجده يركز اهتمامه البالغ على المنهج نظرا لخطورته المتميزة في العلوم الإنسانية بخاصّة،وهو القائل بصريح العبارة" إنّ الحقيقة ربّما في سياقات تراوغ المنهج؛ ذلك أنّ المنهج هو تلك الصيغة العلمية للتعرّف التي لها مكاسب، لا يمكن بحال من الأحوال النزاع في أمرها وشأنها.على الرّغم من أنّ كل صيغة لها خسائرها(...)إنّ صيغة المنهج العلمي هي حركيّة الذات التي تسيطر على الموضوع"([45]).
ويذهب غادامير في سياق آخر إلى أنّ دراسة التأويل ومن ثم تحقيق عملية الفهم لا يكفي تجسيدها بالرجوع إلى الدراسات أو العلوم المعرفية قصد استقاء منها المناهج،ولكن ينبغي زيادة على ذلك العودة إلى جل العلوم لكي يستفيد منها فعل التأويل في علاقته بفعل الفهم؛الأمر الذي جعل من غادامير يعتقد:«أنّه إذا ما أردنا أن نموقع عملنا داخل المنظومة الفلسفية لعصرنا؛فإنّه ينبغي أن ننطلق من أنّنا حاولنا أن نقدّم إسهاما يكون بمثابة حلقة وصل بين الفلسفة والعلوم، ومن ثمّ مواصلة العمل المثمر في ذلك المجال الواسع الذي هو مجال التجربة العلمية، هذا دون أن ننسى تساؤلات هايدجر الجذرية التي أفادتنا أيّما إفادة»([46]).
والحديث عن علاقة فعل التأويل بفعل الفهم يجر غادامير إلى الحديث عن علاقة فعل الفهم بفعل اللغة؛إذ يرى بأنّ العوائق التي تصب الباحث أو المتلقي مهما كان نوعه في الجانب اللغوي مردّها الأساسي هو العائق القائم في فعل الفهم،وهذا الأخير في فعل التأويل؛فكل تأويل هو في أمس الحاجة إلى فعل الفهم المرتبط بفعل اللغة([47]).
إنّ الفعل التأويلي الذي ظل يؤمن به غادامير طيلة حياة وجوده المعرفي والفكري هو ما لازم مبدأ التغير القائم في المجالات المعرفية المصاحبة لواقع العصر بكل ملابساته الداخلية والخارجية([48]).
واللافت للانتباه أنّ غادامير وهو يؤكد على ضروروة فعل التأويل المطبّق من قبل المؤوّل فإنّه يوصي فيما يوصي إليه في كتابه-الحقيقة والمنهج-بأنّ المؤوّل ينبغي أن يلتزم في العملية التأويلية بالضابط التاريخي والضابط الذي يجده في واقع النص؛هذان الضابطان هما اللذان يؤهلان المؤوّل لأن يحقق في هذه العملية التأويلية ما يسمى بـ:فعل السؤال مع فعل الجواب؛هما إذاََ ركيزتان أساسيتان في شرعية الإطار التأويلي في علاقته بفعل الفهم لدى غادمير([49]).
لا يبرح غادامير في جل تحليلاته التي يقيمها على واقع النصوص وبخاصة المقدسة أن يبتعد عن الجانب الإيجابي للأحكام المسبقة التي تؤتي أكلها في فعل الفهم مع فعل التأويل؛على أساس أنّ"...العقل تكوّن من خلال هذه الأحكام المسبقة (Les préjugés)أكثر من أحكام ذاتها،وتحقيق هذا الوعي التاريخي يكون من خلال خصوصية وغنى هذه الأحكام والتقاليد(La tradition)في نفس الوقت وذلك في عملية الفهم بإعطاء وسائل اختيار العودة التفكيرية حول العمل التاريخي الذي يكوننا؛فالأحكام المسبقة هي الآفاق الأكثر إنتاجا والعمل التاريخي يمثل ربحا فكريا جوهريا وأساسا من أجل البحث العالمي،الكوني والشمولي لفكرة الفهم (Compréhension) التي تحدد النهاية(La finitude)...فالفهم يأتي من خلال فكرة الحوار مع الآخر (L’autre)والتقليد،ونستطيع هكذا فهم الوجود من خلال اللغة الواقعية مجالا تقريبيا للتأويل...فهذا التأويل ليس نسباويا أي لا ينتمي لا للنزعة النسبية(Relativisme) ولا للتاريخانية (Historicisme)فعائق النزعة النسبية أنّها لا ترى المعنى إلا على أساس الحقيقة المطلقة بحيث وضع كل من هايدجر وغادامير حدا لهذه الأصول الميتافيزيقية محررين العقل من الحقيقة التي يلهمها العقل الإنساني وحده؛فالعمل الجبار الذي قام به غادامير هو إخراج الفلسفة من الفضاءات المغلقة للنزعة التاريخانية الهيغلية،وذلك من خلال التأويل"([50]).
أبعد من ذلك أنّنا نجد تقاربا معرفيا بين شخصية غادامير وهرسل في اعتماد كل منهما على المنهج الذي ينبغي أن يسير جنبا إلى جنب مع فعل الفهم؛الشيء الذي جعل من غادامير يثني على هرسل في هذا النوع من التعامل،حين نجده يصرح بصريح العبارة قائلا"إنّ الفهم يمثل طابعا وخاصية ظواهرية أصيلة للحياة الإنسانية نفسها،التي تسعى إلى تحقيق مسافة من الحرية تجاه الذات؛هذه الذات التي تمثل بنية أساسية للحياة الإنسانية،ترتكز عليها مهمة الفهم وإنّ هذه المهمة كذلك هي تفكير طواهري جذري يكشف عن طبيعة هذه البنية من خلال التحليل المتعالي، الذي يصل في نهاية الأمر إلى جعل التعالي خلاصة نهائية تتجاوز عالم الموجودات عن طريق مهارة نظرية،تتمثل قبل كل شيء في حسن القراءة من أجل حسن التأويل"([51]).
بل أبعد من ذلك يرجع الأصل الإبتيمولوجي لكلمة الفهم في اللغة الألمانية للإشارة إلى المهارة العملية،وعليه يكون"معناها لا يعرف القراءة وبمعنى آخر لا يملك القدرة على ذلك،لكن هذا المعنى يختلف عن الفهم في معناه النظري والمعرفي؛فإذا حاولنا النظر من قريب نجد أنّ هناك نقاطا مشتركة بين كلا الاتجاهين فيما يخص مسألة المعنى؛لأنّنا سواء تعلق الأمر بالجانب العملي أو النظري فإنّنا أمام مسألة معرفية،إنّنا نريد أن نعرف وأن نفهم شيئا ما فحتى الذي يريد فهم نص ما وقانون ما فإنّه يبذل جهدا وباكتمال هذه العملية المتمثلة في الفهم فإنّه سيتحصل على حرية فكرية جديدة...وهو ما جعل من غادامير يصرح بأنّ ظواهرية هرسل فتحت إمكانية شمولية للتأويل ومن أجل رؤية وتحديد وإدراك العلاقات واستخلاص النتائج،هذه الإمكانية التي تشكل بالتحديد مجالا معرفيا لفهم النصوص،وكلما كانت هذه الإمكانية مبنية على عقلانية الغايات،فإنّها ستؤسس لمعايير من خلالها تتأكد وتتوضح حياة النصوص"([52]).
ما يمكن قوله فيما جاء به غادامير في ظل كتابه-الحقيقة والمنهج- بأنّ"الفهم أو التأويل كما يعبّر عنه غادامير،في النهاية،لا ينحصر في التراث الفني للشعوب وفي تراثها التاريخي،إنّما يرتبط بشمولية الحياة والتجربة الإنسانية،نتوصل بهذا-على حد غادامير-إلى التوفيق بين تجربة العلم وتجربة حياتنا الإنسانية عموما.لقد انتقد غادامير بشدة تقسيم عمليات التعلم والفهم إلى عناوين وتصنيفات ومجالات منفصلة وجامدة،الأمر الذي يجعلنا نخسر الحس الكلي والمجمل بالحياة،ومعه أصبحت الهيرمنيوطيقا غير أكاديمية،بحيث صارت تمثل مقاربة جديدة في أسلوب الفهم،تفضل أن تدع الأسئلة معلقة في الهواء،وتقاوم كل الحلول والأجوبة السهلة"([53]).
تعقيب وتوجيه:
إنّ ما يقتضيه الطابع العلمي الموضوعي في مثل هذه الحقائق التي حاولنا تناولها وفق ما يستدعيه مقام الدراسة،هو محاولة إقامة شيء من التقاطع المنهجي والمفاهيمي فيما يتعلق بمفهوم الهيرمنيوطيقا الذي راح يترأس مفهوم-التأويل-في كثير من السياقات المعرفية والفلسفية التي أشرنا إليها في هذا الفصل بالذات.
وعندما نقول الهيرمنيوطيقا المقابل الترجمي لمفهوم التأويلية-على حسب ما نعتقد وتؤمن به-فإنّنا نحاول بما تيسّر لنا جمعه من مادة معرفية أن نعطي الإطار العام الذي دار فيه مصطلح الهيرمنيوطيقا وهو يتلون من حيث المفهوم والإجراء من نظرية إلى أخرى،لنعطي في نهاية المطاف المعادل المعرفي والمنهجي القائم في الموروث اللساني العربي الذي يؤمن في عملية الإطلاق ومن ثم الوظيفة بمنبع واحد وهو:الوحي القرآني،وهو من ثمة يختلف عما تقوم عليه اللسانيات الغربية من الإطار الفلسفي.
إنّ أدنى تأمل في المحصلة المعرفية والفلسفية المتعلقة بمفهوم الهيرمنيوطيقا من خلال ما أشار إليها الرواد الغربيون،يهدي بنا المقام إلى أنّها قد تناولت عدة أبعاد معرفية وإجرائية تتعلق بمفهوم الهيرمنيوطيقا القائمة على جانب تأويلي تخريجي يختلف باختلاف الأحوال والمقامات،ولعل أهم أثرا معرفيا في ذلك هو على النحو الآتي:
1. التأويل هو فنّ الفهم،وهو يرتبط ارتباطا وثيقا بنظرية القراءة؛لأنّ القراءة هي مفتاح المعرفة؛بحكم أنّ لها القدرة الكافية في أن تكشف عن المعاني اللغوية في النص من خلال التحليل والمُدارسة قصد إعادة صياغة المفردات والتراكيب المختلفة التي لها علاقة مع النصً.
2. لا حياة للإطار التأويلي بمعزل عن النص؛في الوقت الذي تقرّ فيه المدونة المعرفية الغربية أنّ البذور الأولى لنشأة الإطار التأويلي إنّما كانت من خلال دراسة القدامى لنصوص الكتاب المقدس،ولكن مع ذلك كله لم يتقيد هذا الإطار بنص معين بل ظل يقتحم كثيرا من النصوص على اختلاف أشكالها وأنواعها.
1. إنّ التأويل يرتبط ارتباطا وثيقا بالإطار النفسي/اللغوي في علاقته بواقع الحصر أو روح العصر كما ذهب إلى ذلك شلاير ماخر في نظريته التي أشرنا إليها سابقا؛الشيء الذي جعل منه يبني تصوره الثلاثي على العملية الهيرمنيوطيقا/التأويلية وهو ما جعل من فعل التأويل يتوقف شيئا فشيئا عند فعل الفهم الذي لم يخرج في الغالب عن إطاره النفسي/اللغوي،وأضحت هذه الرؤية بمثابة الحجر الأساس للدرس الهيرمنيوطيقي/التأويلي لكل من يريد أن يتناول هذا المفهوم أن يعود إلى هذه الحقيقة المعرفية والإجرائية التي تنبه إليها شلاير ماخر.
2. عدها لم يبرح التأويل أن يظل محافظا ملتزما بهذه التخريجة لشلاير ماخر،بل غدا بدوره يضيف إليها شيئا آخر لم يتنبه إليه هذا المنظر الأخير،وهو موقع العلوم الإنسانية من الدرس التأويلي، بحكم أنّ كثيرا من الدراسات التأويلية راحت تعطي الاهتمام البالغ إلى ما تمليه العلوم الطبيعية من أحكام معرفية ومنهجية محاولة إسقاط مثل هذه الأحكام على واقع العلوم الإنسانية ؛الأمر الذي جعل من دلتاي ينفرد هو الآخر بتخريجة لها وزنها المعرفي والفكري والقائمة أساسا على الإشكالية المنهجية للعلوم الروحية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.إنّ هم دلتاي كان مركزا في أساسه الأول على منهج الفهم المساير مع الإطار التأويلي والمطبق على واقع العلوم الإنسانية معطيا الاهتمام البالغ للجانب الروحي في ذلك.
ليأتي بعد هذا الزعم الروحي القائم على فعل الفهم في علاقته بفعل التأويل،زعم آخر لم يتوقف عند هذا فحسب بل غدا هو الآخر يضيف شيئا ذا بال في الإطار التأويلي التخريجي،والمركز أساسا أنّ فعل التأويل لا ينبغي أن يخرج عما أسماه بفعل الظاهراتي أي (Phénoménologie)؛هذا المفهوم الذي همّه الوحيد هو دراسة ماهية الشيء محاولا من وراء ذلك كله الوصول إلى عمق ولب الظاهرة،مرتكزا في ذلك على أهم مفهوم استطاع-في نظر هرسل-أن يعطي الشرعية المعرفية والإجرائية لمفهوم الظاهراتية ،إنّه مفهوم القصدية(Intentionnalité)الذي همه الوحيد هو البحث عن فعل القصد الكائن في طيات أيّ ظاهرة يريد تناولها المؤوّل، وهو ما أهّل من هرسل أن يتوقف عند مفهوم الأنا واللاأنا بما يلازم ذلك من معاني فعل الشعور وغيرها مما أشرنا إليه بالتفصيل.
يأتي بعدا هذا الزعم الهرسلي القائم على الفعل القصدوي/التأويلي الفعل اللغوي القائم على علاقة الوجود والموجود في ظل ما أسماه بـ:الدازاين(Desein)؛هذا المبدأ الذي حاول هايدجر أن يجعل منه دليلا قاطعا على شرعية الفهم التأويلي الذي لا ينبغي أن يخرج عن:العالم(الوجود)، والموجود (الإنسان)ثم اللغة.هذا الزعم هو الذي جعل من فعل التأويل يحقق نوعا من الانسجام مع طبيعة الفهم لكن من زاوية وجودية ليس إلا.
1. ليجيء في نهاية المطاف صاحب كتاب-الحقيقة والمنهج-غادامير معطيا الاهتمام البالغ إلى الفرق الجوهري بين المنهج،و الحقيقة؛ هذه الواو الموجودة في طيات العنوان قد ظن فيها كثير من الباحثين-إلا من رحم ربّك-أنّها تفيد الجمع أو الربط أو المشاركة، لكن الأمر ليس كذلك إذ الراجع إلى الكتاب يدرك بأنّ غادامير أراد نية الفصل وليس الجمع،مؤكدا أنّ بين المنهج والحقيقة بعد المشرقين؛وهو تأكيد مباشر منه على أنّ العلوم الإنسانية قد ارتكبت خطأ فادحا حين راحت في كثير من المقامات تعتمد على المناهج معتبرة ذلك هو المقصد الوحيد في معرفة حقيقة الأشياء ملغية من حسبانه بأنّ المنهج شيء آخر غي الذي تعارف عليه المهتمون في المجال الدراسي.
هي بعض من الحقائق المتعلق بالأبعاد المعرفية والجرائية للفعل الترجمي لمصطلح التأويل من منظور الفكر الغربي والذي ينم عن طريق المسكوت عنه بالبعد الحجاجي الذي ظل يصاحب مجموعة من المنظرين الغربيين مما خلّف في ما بعد رصيدا معرفيا لا يستهان به أبدا.
________________________________________
[1] - ينقل لنا في هذا الإشكال المتعلق بالمكافئ الترجمي لمصطلح(Herméneutique)الباحث نزّار حبوبة في كتابه الموسوم بـ:المساءلة والتأويل في الفكر والأدب؛حقيقة معرفية ومنهجية تتعلق بالمسوّغ المفاهيمي والمصطلحاتي التي تتماشى ومقصدية المصطلح الهيرمنيوطيقي؛إذ يقول فيما معناه إنّ لاختيارنا-على حسب زعمه- النقل الصوتي للمصطلح مسوغين اثنين: أما أولاهما فعسر تعريبه تعريبا كافيا دقيقا،تكون له القدرة الكافية في أن يلم بجوانبه المعرفية المتداخلة جملة وتفصيلا. ولعل هذا ما أدى بكثير من الدارسين المهتمين بالمجال التأويلي من العرب وبخاصة المنظر نصر حامد أبو زيد إلى نقل مصطلح الهيرمنيوطيقا نقلا صوتيا يحقق نوعا ما انسجاما مع عملية الإطلاق القائمة في أصل النسخة،وذلك في مقال له ورد ضمن كتابه المشهور الموسوم بـ: إشكاليات القراءة وآليات التأويل،ص ص:13-49.
وثانيها قصور ترجمات المصطلح العربي عن آراء معانيه أداء صادقا كليا،وسقوطها في الضيق المفهومي والمعرفي،إضافة –حسب نزار- إلى عدم استجابة المعرّب لأوساع المفهوم الفلسفية والنقدية...وفي هذا المقام بالذات الفلسفية غدا كثير من الدارسين المشتغلين بالدراسات التأويلية في مسألة التعريب،وذلك في مناسبات متباينة،وفي مواضع عديدة يصعب ضبطها أحيانا؛الأمر الذي خلّف لنا فيما بعد عدة أبعاد معرفية عربية تصدت لتعريب مصطلح الهيرمنيوطيقا الغربي؛فقيل في حقه عدة احتمالات تقابلية من مثل: فن التأويل،والتأويلية،وعلم التأويل وإن اعتراها النقص وأصابها الخلط.
غير أنّ الهيرمنيوطيقا أبت مع ذلك كله إلا أن تحافظ على بعدها النظري المتعدد الجوانب والاتجاهات من نظريات وفنون وعلوم مختلفة المقاصد والاتجاهات والمنطلقات،بل تأويليات تشمل التاريخ وعلم الاجتماع وفلسفة الجمال والنقد الأدبي ... وعليه فالمصطلح في جوهره عبارة عن منظومة تتصل بعملية التأويل عامة،وتعين شروطها وقواعدها ومجالاتها الواسعة التي تتعدى المكتوب إلى المعيش والشفوي؛فيغدو كل تجل للكائنات والأشياء والمفاهيم والأفكار بنية فهم تتطلب التأويل ،وتتيحه في آن واحد. انظر بالتفصيل إلى: نزّار حبّوبة: المساءلة والتأويل في الفكر والأدب،دار الإتحاف للنشر والتوزيع، ط1، 2004م، المغاربية. ص ص:181-182.
[2] - ينظر في هذا الصدد إلى عبد الخالق العف: موت المؤلف؛منهج إجرائي أم إشكالية عقائدية؟ مجلة الجامعة الإسلامية-سلسلة الدراسات الإنسانية- المجلد السادس عشر، العدد الثاني، 69، 2008م، ص ص: 60-61.
ويؤكد أدونيس سياق استخدام البعد الهيرمنيوطيقي الـتأويلي على النص القرآني حين نجده يصرح بصريح العبارة بأنّ"القول بإلهية النصوص والإصدار على طبيعتها الإلهية،يستلزم أنّ البشر ينزوون بمناهجهم عن فهمها ما لم تتدخل العناية الإلهية لوهب البشر طاقات خاصة من الفهم ؛وهكذا تتحول النصوص الدينية إلى نصوص مستغلقة على فهم الإنسان العادي،وتصبح شفرة إلهية لا تفهمها إلا قوة خاصة، وهكذا يبدو وكأنّ الله يكلم نفسه ويناجي ذاته" نصر حامد أبو زيد: نقد الخطاب الديني. ط3، مصر، مكتبة مدبولي، 1995م، ص:202.
[3] - عبد الرحيم بودلال:الاتجاه الهيرمنيوطيقي وأثره في الدراسات القرآنية.الموقع الإلكتروني (WWW.tafsir.net)
[4] - عبد القادر بودومة:الخطاب الديني وسؤال التأويلية،الموقع الإلكتروني: (WWW.almultaka.net)
[5]- د/عبد الملك مرتاض:التأويلية بين المقدّس والمدنّس.مجلة عالم الفكر.المجلد 29،ع1، الكويت. 2000.ص:263.
[6] - محمد مهدي غالي: النص والتأويل؛ من التعاطف إلى العنف. مجلة علامات في النقد. المجلد39،مج 10، ذو الحجة، 2001م.ص:170.
[7] - المرجع نفسه. ص:171.
[8] - نفسه. ص:171.
[9] - لزعر مختار: التأويلية من الرواية إلى الدراية.
[10] - نفسه.
[11]- نابي بوعلي: فلسفة التأويل من شلاير ماخر إلى دلتاي. من تأليف كتاب جماعي تحت عنوان التأويل والترجمة-مقاربات لآليات الفهم والتفسير-الدار العربية للعلوم ناشرون-منشورات الاختلاف. ط1، 2009م. ص:186.
[12]- المرجع نفسه. ص:187.
[13] - المرجع نفسه. ص:190.
[14]- خديجة هني: إشكالية التأسيس المنهجي في العلوم الاجتماعية،طرح دلتاي؛ مجلة أوراق فلسفية، القاهرة، العدد السابع،ص:13.
يقول الباحث نابي بوعلي في شأن أزمة الفهم التي كان من أهم أسبابها تفشي الفلسفة الوضعية والمثالية ما بيانُه"لقد تحددت مهمة دلتاي على وجه الدقة،بالرد على الفلسفة الوضعية والفلسفة المثالية في آن واحد؛فأما بخصوص الفلسفة الوضعية التي كانت شائعة في عصره،حيث ساد الاعتقاد أنّ كل الظواهر بما في ذلك الظواهر الإنسانية،تخضع للمنهج التجريبي الوضعي،الذي أعطى نتائج باهرة في مجال العلوم الطبيعية،فلقد كان القرن التاسع عشر بحق قرن الانفجار العلمي،وانتصار المنهج العلمي واتساع نطاق المعرفة العلمية ضد حصون الجهل ومعاقل الخرافة،وهكذا حاولت الروح الوضعية بسط سيطرتها على العلوم الإنسانية،بعدما أحكمت هيمنتها على العلوم الطبيعية،مما دفع الباحثين في العلوم الإنسانية إلى محاولة محاكاة هذا المنهج توخيا للدقة العلمية والضبط في النتائج والدقة في القياس.لقد كان ذلك دون إدراك منهم للفرق الموجود بين المجال الطبيعي والمجال الإنساني،غير أنّ تفاؤل أنصار النزعة العلمية لم يصمد أمام الصعوبات المنهجية،والعوائق الإبستمولوجية،وحالات الفشل التي اصطدمت بها الأبحاث في ميدان العلوم الإنسانية،وهو ما جعلها تتراجع عن موقفها الصارم الداعي إلى استخدام نفس المنهج العلمي لعلوم الطبيعة". المرجع نفسه. ص:191.
[15] - منى طلبة: الهيرمنيوطيقا؛المصطلح والمفهوم،مجلة أوراق فلسفية، القاهرة، العدد العاشر، ص:17.
[16] - نابي بن علي. المرجع السابق. ص:195.
[17] - ولهام دلتاي،في محمود سيد أحمد،فلسفة الحياة، دلتاي نموذجا، الدار المصرية السعودية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ب ط، 2005م، ص: 63.
من هذا المنطلق فإنّ التعابير بمعناها الواسع"تعتبر جسرا للتواصل بين الفواصل النفسية للأفراد لتلتحم بعالم الحياة المشتركة،حيث تكتسب قابلية الفهم لأنّها من إبداع كائنات عقلانية روحية أهم ما يميزها الوعي الذاتي والتواصل مع الآخرين،وهكذا يشرع الوعي أبوابه ليبتلع تجارب الآخرين ويعيشها،ويحتضنها،ويضمها إليه" نابي بن علي. المرجع السابق. ص:198.
[18] - نابي بن علي. المرجع السابق. ص:198.
[19] - ولهام دلتاي، في مصطفى عادل، ص:77.
[20]- إدموند هوسرل: تأملات ديكارتية.ترجمة تيسير شيخ الأرض. ط2، بيروت للطباعة والنشر. 1978م. ص:172-174.
[21]- إدموند هوسرل: تأملات ديكارتية. المرجع السابق. ص:41-42.
[22]- المرجع نفسه. ص:87.
[23]- إدموند هوسرل: تأملات ديكارتية. المرجع السابق. ص:183.
[24]- ينظر فريدة غيوة:أسس المنهج الظواهري عند إدموند هوسرل. مجلة التواصل. ع4، 1999م. ص:201 بشيء من التصرف.
[25]- ينظر عبد الفتاح الديدي: الاتجاهات الفلسفية المعاصرة. القاهرة,ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1985م. ص:31.
يقول الباحث مختار لزعر في هذا الصدد وهو يبين العلاقة المنهجية المفاهيمية التي تربط بين التراث والحداثة فيما لايخص مفهوم القصد أو فعل القصد،ما بيانُه"على الرغم من أنّ هوسرل قد أعطى لمفهوم القصدية(L'Intentionnalité) بُعدها المميّز عن البُعد المشار إليه من قبل شلاير ماخر إلا أنّ هذا البُعد الهوسرلي يظل يلامس السطح دون الولوج إلى أبعاد واقع النص أو الخطاب بكل جوانبه وملابساته الداخلية والخارجية. إنها عملية وصفية للحدث الكلامي دون السماح بالولوج إلى عمق الظاهرة اللغوية؛ الأمر الذي جعل المنهج الظاهراتي يدرس الظواهر دراسة خارجية كما قيلت أو حدثت وفق المعطى الخارجي لحركية الواقع الذي نشأت فيه الظاهرة وترعرعت من خلاله. وإذا كان الأمر كذلك فإننا نجد في تراثنا العربي الزاخر بأنّ مفهوم القصدية كان يأخذ منحى آخر غير المنحى المتبع من قبل المنهج الظاهراتي لاسيما عند المعتزلة؛ذلك أنّ مفهوم القصدية عند القاضي عبد الجبار(ت 415ه) إنما يرتكز أساسا على العلاقة القائمة بين الاسم والمسمى على مستوى المفردات اللغوية، وهذا القصد في حقيقة أمره ليس من صنع الفرد بحد ذاته بل هو من صنع الجماعة عن طريق المواضعة على مسميات الأشياء؛الأمر الذي جعل من حركية القصدية تتسع أكثر عند الباقلاني الأشعري(ت403ه ) لتصل إلى مستوى التراكيب اللغوية لتعبّر عن المعنى الكائن والقائم في كل نفس؛فالكلام لا يمكن أن يكون له معنى في هذا الوجود إلا إذا كانا شرطا المواضعة/القصد يسيران م جنبا إلى جنب على أساس أنّ الكلام قد يحصل من غير قصد فلا يدل، ومع قصد فيدل ويفيد.فكما أنّ المواضعة لابد منها فكذلك المقاصد التي بها يصير الكلام مطابقا المواضعة بعبارة أخرى أنّ المواضعة لا تكفي بمفردها لأن يقع الكلام-عن طريقها- يحمل دلالة وفائدة ما لم تنفصل هذه الفائدة عن قصد المتكلم الذي يقصد بالكلام هذا دلالة معينة. إنّ الكلام عند المعتزلة هو ما قابل الدلالة الشرعية عند الباقلاني، بمعنى أنّ الكلام عندهم هو كلام الله تعالى شريطة أن يكون مصحوبا بشرط القصد إلى جانب المواضعة وذلك لوقوع الكلام يحمل دلالة؛فالمتكلم بالدلالة الشرعية هو الخالق سبحانه وتعالى. وكما اشترط المعتزلة أن تكون المواضعة سابقة على كلام الرب تعالى اشترطوا أيضا معرفة قصد المتكلم أي الخالق. وهذه المعرفة-كما أسلفنا- كل ما له علاقة بصفاته الفعلية ما يجوز عليها وما لا يجوز.وعليه فالمعرفة العقلية عندهم سابقة على المعرفة الشرعية ومترتبة عليها. وعلى هذا الأساس كان من الطبيعي أن يكتفي الأشاعرة بشرط المواضعة دون اللجوء إلى شرط القصد؛ لأنّ القصد عندهم لا يمكن معرفته إلا بدلالة الكلام-بمعنى المتكلم بحد ذاته- ولذلك نجد الأشاعرة قد وحّدوا بين الكلام والمعاني النفسية أي –الدلالة/المدلول- واعتبروهما شيئا واحدا، قديما أزليا قائما بالذات القدسية التي لا يستطيع معرفة كنهها وجوهرها العميق إلا هو سبحانه وتعالى"مختار لزعر: التأويلية من الرواية إلى الدراية.
[26]- مختار لزعر. المرجع نفسه.
[27] - المرجع نفسه. ص:
[28]- ميشال فوكو:الكلمات والأشياء، تر: مطاع صفدي وآخرون، مركز الإنماء القومي، 1990م، ص:259.
[29]- مارتن هايدجر: نداء الحقيقة،ترجمة:عبد الغفار مكاوي،دار الثقافة للطباعة والنشر،القاهرة، 1977م، ص:49.
[30] - Dominique Folscheid : La philosophie Allemande de Kant à Heidegger, PUF, 1993, p :324.
[31]- لزعر مختار. المرجع السابق.
[32]- إبراهيم أحمد: هيدجر وإشكالية الفهم اللغوي للوجود. كتاب جماعي تحت عنوان اللغة والمعنى مقاربات في فلسفة اللغة. منشورات الاختلاف ط1، 2010م. ص: 224.
[33]- ينظر مارجوي جرين: هيدجر،تعريب:مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسسة العربية،للدراسات والنشر،1973م، ص:25 وما بعدها
الإنسان في فلسفة الناقد الألماني هايدجر يعد كائنا يسأل في كثير من السياقات بمعنى يريد أن يحقق فعل الفهم.ولقد حدّد في كتابه المشهور:الوجود والزمن أنّ الإنسان كائن موجود في هذا العالم،وأنّ فهمه المحدود يستوجب منه استيعاب هذه الوضعية السابقة . .. ولقد انتقل هذا الناقد الألماني من الاهتمام بفكرة الوعي ومقولاته إلى الاهتمام بفكرة الوجود وقدراته،وهكذا تغيرت دلالة الفهم مع الزمن القادم؛إذ كما تروى الروايات أنّ شلاير ماخر كان معنيا بالحقيقة الداخلية،وكان دلتاي معنيا هو الآخر بفكرة الإبداع والإطار النفسي العميق المصاحب للمنهج العلمي ،ولكن مع هذا وذاك كان الفهم لدى هايدجر يعني فيما يعنيه التقاط الإنسان لممكنات الوجود،والفهم على هذه الشاكلة ليس قدرة على استشعار موقف إنسان آخر. ينظر إبراهيم أحمد: المرجع السابق. ص:217.
[34] - Gadamer, Hans- George : Vérité et méthode, Seuil, Paris, 1996, p :286.
[35] - Cf Ibid. p :127.
[36]- تروين مصطفى: التأويل والعلوم الإنسانية عند جورج هانس غادامير. كتاب جماعي تحت عنوان التأويل والترجمة. منشورات دار الاختلاف. ط1، 2010. ص: 101.
[37]- المرجع نفسه. ص:102.
[38]- المرجع نفسه. ص:102.
[39]- المرجع نفسه. ص:103.
[40]- المرجع نفسه. ص:107.
[41] - Cf Gadamer, Hans- George : Vérité et méthode. P : 289.
[42] - Cf Ibid. p :298.
[43] - Obcit. P :298.
[44]-Hans Georg Gadamer: Vérité et Méthode. Les grandes lignes d'une herméneutique philosophique, traduit de l'allemand par Etienne Sacre, Révision de Paul Ricoeur, Ed Seuil, 1976, (introduction), P: 20.
[45]- Hans Georg Gadamer: Ibid. PP: 18-19.
[46]-Hans Georg Gadamer: L'art de comprendre: herméneutique et tradition philosophique, traduit de l'allemand par Mariana Simon, introduction de Pierre Fruchon, Ed Aubier-Montaingne, Paris, 1982, P: 90.
[47]-Hans Georg Gadamer: Vérité et Méthode. Ibid. P: 235.
[48]- ينظر مصطفى ناصف.: نظرية التأويل. النادي الأدبي الثقافي. جدّة. ط1، 2000م ص:122-123.
[49] -Cf. Hans Georg Gadamer: Vérité et Méthode. Ibid. P: 219.
وينظر أيضا في هذا السياق عمر مهيبل: خطاب التأويل وخطاب الحقيقة. مجلة الفكر العربي المعاصر. ع112-113. مركز الإنماء القومي. بيروت. 2000م. ص:43.
[50]- تروين مصطفى: التأويل والعلوم الإنسانية عند غادامير. المرجع السابق. ص:119.
[51]- المرجع نفسه. ص:124-125.
[52]- نفسه. ص:125.
[53]- عباس الشارف: غادامير هيرمنيوطيقا العمل الفني وأزمة الإستيطيقا. نحو إعادة تأسيس الوعي الجمالي في الفكر الغربي. كتاب جماعي تحت عنوان. التأويل والترجمة. منشورات دار الاختلاف. ص:172.