قال: سقط قميصي من فوق. قال: وإذا سقط من فوق؟ قال: يا أحمق، لو كنت فيه أليس كنتُ قد وقعتُ معه»57. إن تفكير جحا وتصرفه يدّل على قصر عقله، لأن من صفات الأحمق « يتكلم ما يخطر على قلبه، ويتوهم أنه أعقل الناس »58.
في موضع آخر« وحكي: أن جحا دفن دراهم في الصحراء وجعل علامتها سحابة تظلها»59. تدل هذه القصة على جهل جحا،لأن« من علامات الأحمق: خُلوه من العلم أصلاً؛فإنّ العقل لابد أن يحرك إلى اكتساب شيء من العلم وإن قلّ، فإذا غلب السن ولم يحصّل شيئاً من العلم دل على الحمق»60 .
اختار ابن الجوزي استعمال الشواهد الدينية والأمثال والأشعار وغيرها؛لأنها تحقق له بعدا حجاجيا مدعما لحججه، وبذلك تعد هذه الشواهد بمثابة ركائز أساسية في بنية الخطاب الساخر. فتأثير الشواهد الدينية أبلغ أثرا. خاصة وأن هذه الحجج قد صدرت عن ابن الجوزي، ولا يخفى أن ابن الجوزي في هذا السياق كان ذا سلطة باعتباره إماما، ولهذا الأخير في الثقافة الإسلامية سلطة على المجتمع باعتباره حامل رسالة.كما أن المتلقي يقدّر القيمة الأخلاقية الحسنة أو السيئة،أو أي سلوك في المجتمع إذا كان صادرا عن شخص يملك سلطة كبيرة « تجعل الناس يعتقدون أنهم لا يفكرون. وتجعلهم يشعرون بما لم يشعروا به من قبل».61
أدرك ابن الجوزي أنه يتمتع بسلطة ذاتية لانتقاد الظواهر الغريبة في مجتمعه فلجأ إلى محاورة هذه الظواهر بطريقة ساخرة في طياتها نقد لاذع و التفاتة إلى ضرورة تغييرها. نظرا لما «بلغه من الاقتدار على الوعظ والتأثير في الناس».62
ليست السخرية غاية في ذاتها وإنما هي إستراتجية يستعملها الساخر لمحاولة تحقيق التواصل أو إقامة الحجة بهدف تغيير الواقع. فالسخرية في حد ذاتها حجة غير مباشرة، اعتمدها ابن الجوزي لإقناع متلقيه بالقيم الإصلاحية وتقويم الاعوجاج الذي ساد مجتمع العصر العباسي،حينما استولى علية الأتراك وساد فيه الظلم،فشاع الفساد وانتشرت الرذيلة.كتاب أخبار الحمقى والمغفلين ليس أداة لإثارة المتعة لدى المتلقي،وإنما هي طريقة للتملص من مسؤولية القول والاحتماء من المعارضات المحتملة، ووسيلة مراوغة تمكّن ابن الجوزي من النفاذ في عقول وأذهان الناس بهدوء،خوفا من بطش الحكام الذين يدركون جيدا خطورة ما تحمله السخرية من نقد لاذع لسياستهم، ويدركون قدرة السخرية على قلب الجماهير عليهم.
الإحالات:
1- Molinié Georges. 1992 : Dictionnaire de rhétorique. Le Livre de Poche. Paris : Librairie Générale Française.P6.
2- نفسه: ص ص 6-7.
3- نفسه: ص 7.
4- موسوعة المصطلح النقدي / المفارقة :د. سي ميوك، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، المجلد الرابع، بيروت، ط1، 1993، ص 30 .
5- PERELMAN Chaïm et OLBRECHTS-TYTECA Lucie.1983 : Traité de l’argumentation – La nouvelle rhétorique. Bruxelles : Université de Bruxelles.P2
6- نفسه: ص 280.
7- نفسه: ص 279.
8- نفسه: ص 280.
9- BERRENDONNER Alain.1989: « De l’ironie ». In : Eléments de pragmatique linguistique. Paris : Minuit, PP. 184-185.
10- HUTCHEON Linda. 1981 : « Ironie, satire, parodie ». In : Poétique 46: 140-155. Paris : Seuil.P141.
11- مانفريد فرانك: حدود التواصل الإجماع والتنازع بين هابر ماس و ليوتار-ترجمة وتعليق عز العرب لحكيم بناني، إفريقيا الشرق، 2003، ص 8.
12- Alain Lempreur. 1991: L’argumentation, collectif ; Michel Meyer, université libre de Bruxelles, centre européen pour l’étude de L’argumentation, édition margada.PP 108.-109.
13- حدود التواصل: ص5.
14- بن ظافر الشهري، عبد الهادي: استراتجيات الخطاب، مقاربة لغوية تداولية،دار الكتب الجديدة المتحدة، ط1، بيروت،لبنان،2004، ص475.
15- أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي:أخبار الحمقى والمغفلين،. تحقيق: جمال جمعة، دار غومه للنشر، ليبيا، 2000، ص130.
16- طه، عبد الرحمن: اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي،ط1،المغرب،1988، ص ص 277- 278.
17- اللسان والميزان ص ص: 277-278.
18- أخبار الحمقى: ص ص:47-48.
19- استراتجيات الخطاب: ص 473.
20 - Rosier, Laurence (2008) : Le discours rapporté dans tous ces états ,l’harmattan, France, 2004. P105 .
21- أخبار الحمقى:ص129.
22- استراتجيات الخطاب: ص537.
23- القلقشندى، أبو العباس أحمد (1992): صبح الأعشى، ج1، دار الكتب المصرية ، ص 191.
24- نفسه: ص 67.
25- نفسه: ص ص 65- 66.
26- نفسه: ص63.
27- نفسه:ص191.
28- نفسه: ص 202.
29- الجاحظ أبو عثمان، عمرو: البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، مطبعة الخانجي، القاهرة، 1969، ج2، ص 17.
30- فايز ترحيني ، الإسلام والشعر، دار الفكر اللبناني، بيروت، الطبعة1 ، 1990 ،ص،84.
31- بلخير، عمر (2003): تحليل الخطاب المسرحي في منظور النّظرية التّداولية، منشورات الاختلاف، الجزائر، ص227.
32- أخبار الحمقى والمغفلين:ص70.
33- استراتجيات الخطاب: ص544.
34- محمد العمري : في بلاغة الخطاب الإقناعي، مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية، ط2، أفريقيا الشرق، المغرب،2002، ص 20.
35- عبد القاهر الجرجاني : دلائل الإعجاز ، تحقيق محمود محمد شاكر ، ط 2 الخانجى ، القاهرة، 1989، ص ص 8 - 9.
36- صبح الأعشى: ص 58.
37- نفسه: ص ص، 281- 282.
* المُلحُ: جمع مُلحة وهي أمور يُؤتى بها في آخر دروس العلم، ليذهب بها التعب الفكري، وليست من صُلب العلم في شيء.
38- أخبار الحمقى والمغفلين: ص ص، 16-17.
39- نفسه: ص17.
40- عبد الله، ابن المعتز، (د-ت): طبقات الشعراء، تحقيق عبد الستار أحمد فراج، دار المعارف، مصر، ص ص،201-202.
41- أخبار الحمقى والمغفلين:ص ص، 141-142.
42- شوقي ضيف: العصر العباسي الثاني، ط2، دار المعارف، مصر، 200، ص370.
43- نفسه: ص 245.
44- أخبار الحمقى والمغفلين:ص141.
45- العصر العباسي الثاني: ص 501.
46- أخبار الحمقى والمغفلين:ص143.
47- تحليل الخطاب المسرحي في منظور النّظرية التّداولية: ص 229.
48- - صبح الأعشى ج1، ص 302.
49- نفسه: ص 296 .
50- أخبار الحمقى والمغفلين: ص40.
51- نفسه: ص ص 40 -41.
55- نفسه: ص41.
56- نفسه: ص41.
57- ابن الجوزي:كتاب القُصَّاص والمُذَكِّرِين. تحقيق الدكتور محمد بن لطفي الصباغ، الطبعة الثانية، بيروت: المكتب الإسلامي، 1988، ص 159-160.
58- أخبار الحمقى والمغفلين: ص42.
59- يراجع تهميش(1) أخبار الحمقى:ص46.
60- أخبار الحمقى:ص46.
61- Molinie (1992).pp 6-7.
62- آمنة ، محمد نصير: أبو الفرج ابن الجوزي، آراؤه الكلامية والأخلاقية، دار الشروق، القاهرة، 1987، ص 35.