منذ أن كان صبيا ونظرته إلى الحياة مختلفة تمام الاختلاف عن الذين هم في سنه ، يلعب معهم ولكن وفق طريقته الخاصة به التي يرسمها بخياله الغض الطري ، ووفق تصوره هو للحياة رغم صغر سنه .
دق أبواب الخيال منذ أن كان صبيا استقل بفكره وهو لا يزال يلعب في التراب ، خاضت سفينته في يم الخيال الممتع ، تلاطمه أمواجه ، تعصف به رياحه وأمهاهه ، سعادته في تلك الضربات التي يتلقاها من حين لأخر من تلك الأمواج العاتية .
بهذه الطريقة العجيبة خرج متمردا عن الواقع منذ أن كان صبيا ، بل أصبح رائدا من رواده وقائدا من قواده ، خاض فيه مشمرا غير مبال به وبحتميته وشدته التي لا مفر منها مهما كان الأمر ، انقلبت به عجلة الحياة والتفكير والتدبر ، حتى سار يرى كل الذين يعيشون واقعهم في ضلال مبين ولا يسير على الطريق القويم سواه ، تحدثه أراجيفه وخياله أن كل الناس في ظلام دامس ، لا يعرفون الشمس ولا يبصرون نور القمر ولا يهتدون بالنجوم في متاهات الليالي الغواسق ، وإنما هو الوحيد الذي يسير تحت أزرار الشمس وأشعتها ودفئها ويهتدي في الظلمات الحالكة بالأقمار والنجوم الساطعة .
على هذا الحال قطع مرحلته الطفولية إلى جسر المراهقة التي هي مطية إلى الشباب حتى أضحى عنصرا مستقلا محترما له رأيه ، وله مكانه ومقامه داخل المجتمع الواسع المختلف اختلاف تفكيره عن باقي أقرانه ، غير أن نظرته تلك بقيت كما كانت دون تغير يلحظ ، بل زاد مع نموه العقلي ومع انفتاحه على عالم القراءة والمطالعة والمذاكرة والمدارسة ومصافحة الكتب ، حيث زاد توهجا وعمقا وغوصا في ذلك البحر المديد الطويل .
وما فتئت الأيام أن دارت رحاها حتى رمت به أمواج ذلكم البحر الذي قضى فيه طفولته وجزءا من شبابه إلى صحراء واسعة النطاق ، مخيفة المنظر، قاحلة الطبع ، لا يحدها حاد البصر ولا طويل الباع والقدم ، لأنها أوسع من الخيال الذي لازمه منذ أمد بعيد
وحين فتح عيناه في تلك المفاوز القفار المترامية الأطراف المتعددة المحن والأحزان والشدائد ألفى نفسه يغادر ذلكم البحر الجميل المرسوم بأطياف الخيال الصبياني الممزوجة بنسيم الطفولة وأريج المراهقة والأحلام ، ليرتمي في أحضان الواقع المرير يلعق صبرا الأيام والعوائد ، ولم يعرف كيف يتصرف فيه ومعه ليخرج من محنته ومأزقه الذي لم يكن ينتظره ليعد له عدته ويرسم له خطته .
تشعبت أمامه الطرق واختلفت وتشابكت وتباينت وتعددت وبقي تائها حيران ، هل يعود إلى بحره ذاك ليتم حياته ومساره دون جدوى ؟ أم أنه يخفق بجناحيه ويطير إلى السموات العلى ليعيش بعيدا مع النجوم السيارة الهادئة ؟ أم يضرب في تلك الفيافي الواسعة المقفرة المتعددة السبل المتشعبة المسالك والطرق ؟ أم أنه يبقى جامدا ساكنا مكانه دون حركة حتى يهلك مكانه أو يأتي الفرج بمعجزة خارقة قد تتحقق ولو في عمق خياله ، كل الأمور صعب وشاق بعيد المنال ؟ .
بعد تفكير طويل أظنى فيه خياله وأرق فيه باله حتى سال السهاد من على جبينه ليمتزج بدموعه ويتبخر مع أحلامه التي رافقته لمدة غير قصيرة ، استقر رأيه على أن يضرب بقدميه في تلك الصحراء الواسعة عله يرتاح أو يجد العالم الذي رسمه بأطياف خياله منذ صباه التي أصبحت في خبر كان .
وهكذا أصبح الواقع مرا مريرا وحنظلا يلعقه بلسانه وحاله ، يشدو إلى الأمام وأمواج الرمال الحارقة تضرب وجهه وتحرق عينيه ، ضاق به الضرع والأرض والسماء ، تورمت قدماه وتقطعت نعاله وثيابه ، خميصا يمشي حافي الأقدام ، عراه الخيال الذي عايشه منذ أمد بعيد ، سار على هذا الحال المزري الأليم ، أعياه المشي ، وأبلاه البكاء ، وأظناه الحزن ، رواده النوم وأثقل عينيه وأقعده مرغما عند شجرة بلا أوراق ولا أغصان ، ليستيقظ بعد لحظة ليجد نفسه أمام وحش عظيم غاشم يريد ابتلاعه دون رحمة أو شفقة .
استعاذ بالله وحاول عبثا الفرار منه ولكن هيهات ، هيهات أين المفر وأين الهروب حيثما ولى وجهه واتجه وجده أمامه يكاد يبطش به ، صاح في وجهه صحة الهالك المكلوم : من أنت وما الذي سلطك علي أيها الوحش الغاشم ؟ لم يجيب الوحش ولم يتكلم ، طأطأ المسكين رأسه إلى الأرض ظانا أن الوحش حن لحاله وأشفق عليه وأراد أن يتركه ليذهب إلى حال سبيله ، ولكن الوحش وحش والواقع واقع لا مفر
رفع عيناه بهدوء ممزوج بالحيرة والخوف واليأس من الحال والمآل ، فنظر إلى الوحش العظيم نظرة مودع ، خطا خطوات اليائسين ، فإذا بالوحش ماثل أمامه مرة أخرى ؟ تيقن أن هلاكه محقق لا محالة ، صاح مرة أخرى في وجه ذلكم الوحش الغاشم : من أنت ؟ وما الذي سلطك علي أتركني وشأني ؟
فقهقه الوحش ضاحكا قائلا أيها المسكين الوديع ألا تعرفني ؟ أنا الواقع الذي كنت تهزأ به في صباك وطفولتك وتحاول عبثا الفرار والانفلات مني في شبابك ، ها أنت قد وقعت في قبضتي شابا فوا الله لن تنفلت مني ومن أنيابي ؟ فقدر أمرك ودبره كيف شئت ، لأنك أصبحت رجلا ولا ينجو من قبضي إلا الرجال فكن رجلا لتنجو .
فصاح المسكين التائه الحيران ياويلتا ليتني لم أتخذ الخيال خليلا منذ صباي ها أنا ذا أكاد أهلك في صحراء خيالي واستهزائي ، ولكن سأستمر وأقاوم وأكافح ، ما دام أن الزمان زمان ، فإن الرجال رجال ولكل زمن رجاله ، وما علي إ أن أكون رجلا .