عيونه الخضراء تحتلني.. تسكنني.. تطاردني بصحوي.. وتقض مضجعي بمنامى.. لا أستطيع التفكير فيما عداهما، حتى الآن أثناء القيادة.. أقود بميكانيكية شديدة وكل تركيزى فى عينيه.. فى تلك النظرة المستجيرة، ترسل إستغاثتها إليّ.. أن ليتكِ تذهبي عني الألم، فتعتصر قلبي، وأشعر بقلة الحيلة وبالإخفاق في مساعدته.
طوال فترة حياته القصيرة والتى بلغت تسعة أعوام ، كنت أفهم ما يريده من عينيه.لم تكن هناك ضرورة لأن يتكلم ولا أن يطلب ..كنت فقط أنظر لعينيه الخضراوين لألبي ما يريد.. يتدافع البشر والشجر إلى الخلف بينما تنطلق عربتي إلى الأمام.. ما زالت عيونه أمامي.. ليتني استطعت حبيبي أن أحمل وجعك عنك.. ليتني.. وليتني.. ولكنه المرض والألم من نقف أمامهما عاجزين.. حبيبي.. كيف يذهبك المرض فتغرب شمسك عن حياتي، وأعيش بعدك أصطلي المرار والوجع؟! كيف ياربى أستكمل رحلتي بعد فقد حبة القلب، فلذة الكبد وفرحة العمر؟!
أقف بالإشارة مشتتة القلب وأفيق على طرق خفيف على زجاج النافذة بجواري. أنظر فتفاجئني نفس النظرة المستغيثة.. نفس العيون الخضراء.. يبتسم صاحبهما نفس تلك الابتسامة الحزينة التى أعرفها تماما.. مسحورة بنظرته أفتح زجاج النافذة وابتسم قائلة:
- ماذا تريد؟
- مناديل ورق..هل تشترين مناديل ورق؟
فأسأله: كم عمرك؟
فيجيب: تسع سنوات.
ابتسم لنفسي بحزن.. ياإلهى.. نفس العمر.. نفس العيون الخضراء.. نفس النظرة
وأسأله:
- لماذا انت لست بالمدرسة الآن؟
- أنا لا أذهب للمدرسة
- لماذا؟
- لأني أعمل لأساعد أبي..هو عامل..يعمل يوما وآخر يعطل..ونحن احد عشر ولداً..لم يذهب أيٌّ منا للمدرسة.
أصغى بإهتمام وبإشفاق.. وإذ به يتعجلني قائلاً:
- ياست الإشارة ستفتح.. هل ستشترين المناديل أم لا؟
أنظر لعينيه الخضراوين البريئتين وأهز رأسي بالموافقة ، ألتقط حقيبتي من الكرسي الفارغ بجواري وأهم بفتحها لأخرج له بعض النقود.. فإذ به يمد كلتا يديه بسرعة ويلتقط الحقيبة من يدى ويعدو بها كالصاروخ بالإتجاه العكسي لمرور الطريق.
الغريب أنني لم أصرخ طلبا للنجدة.. لم أستغث بالمارة.. فقط ابتسمت لنفسي بآسى بينما تضئ الإشارة باللون الأخضر.. لون عيونه!