إميل بنفنست
ترجمة وتقديم: عبد الكبير الشرقاوي
مقدمة الترجمة
، من أهم علماء اللسانيات العامة واللسانيات المقارنة
واللغات الهندية الأوروبية. ويمكن اعتباره كذلك من مؤسسي النظريات التلفظية والتداولية
والتفاعلية في اللسانيات الحديثة. لكن تأثيره قد تعدى حدود البحث اللساني إلى كثير
من العلوم الإنسانية وإلى الدراسات الأدبية ذات المنحى البنيوي. وقد كان صدور كتابه Problèmes de linguistique
générale من بين الدراسات التي اشتمل عليها الكتاب، دراسة
هامة(*) أثارت نقاشا عريضا وخلافا شديدا. فقد درست بوسائل جديدة، ومن وجهة نظر مبتكرة،
الإشكالية القديمة المتجددة على الدوام، لعلاقة الفكر باللغة، أو العلاقة بين
"مقولات الفكر ومقولات اللغة" وفقا للعنوان نفسه لتلك الدراسة.
ومقال "مقولات الفكر ومقولات اللغة" بسط
لهذه الأطروحة وبرهنة عليها. ومقولات أرسطو هي موضوع البرهنة ووسيلتها. فهذه المقولات
هي أقصى ما يبلغه الذهن، حسب أرسطو، من تجريد حين يريد وصف شيء مفرد أو التعرف عليه.
أو أن يجيب على السؤال البسيط(!): ما هو الشيء؟ لو شئنا التذكير بعنوان شهير لهيدغر.
إنها، كما سماها الفلاسفة والمناطقة العرب، "الأجناس العالية". لكن هل يقصد
أرسطو الأشياء أو الأسماء؟ هل الفلسفة تفكر بواسطة اللغة أم "داخل" اللغة؟
هنا لب المسألة حيث ينتظرنا بنفنست ليكشف لنا الأساس الخفي لمقولات أرسطو التي كان
يعتقد، لمدى قرون طويلة، أنها تتطابق مع الفكر البشري ذاته، وأن أرسطو لم يقترح نظرية
معرفية ومنطقية مشروطة، بل اكتشف اشتغال آلة الفكر ذاتها.
مصطلح قاطيغورياس (كما عربه بعض المترجمين العرب
القدامى) مشتق من المصدر اليونانــــي
katagôreusiV الذي يعني "صرح جهرا"، إذ أن المصدر والفعل مركبان من السابقة kata الذي يعني "قال، تكلم، أعلن، صرح جهرا،
أذاع". ويمكن أن نستخلص أن معنى "كاطيغوروسيس" هو "المقول على
موضوع ما". ومن هنا يبدو أن "المقولة" هي ترجمة حرفية للمصطلح اليوناني
(لاحظ أن الاسم مؤنث في اللغة اليونانية). فالمقولات هي المحمولات "المقولة"
على موضوع. وليس معروفا من وضع هذه الترجمة في العربية لقاطيغورياس اليونانية، غير
أننا نجد في عنوان ترجمة إسحق بن حنين (القرن الثالث الهجري) ما يأتي: >> كتاب
أرسطوطالس المسمى "قاطيغوريا" أي "المقولات"<< (منطق أرسطو،
تحقيق د.عبد الرحمن بدوي، Iويقدم إسحق بن حنين المقابلات العربية التالية لأسماء
المقولات اليونانية: "جوهر"= ôusia؛ كيف= poiôn؛
"أين"=
pou؛ "موضوع"= keisqai؛ "يفعل"= poieinوأبو عثمان الدمشقي في ترجمته لكتاب الطوبيقا (منطق
أرسطو، المصدر المذكور، IIوعند الفلاسفة شارحي أرسطو، وعند المتكلمين الذين
ألفوا في المنطق نجد بعض الاختلاف في تسمية هذه المقولات، نستعرض بعضها هنا على سيل
التمثيل لا الحصر:
، ص.90)، يسمي الفارابي
المقولات "الأجناس العالية"، وهي: "الجوهر والكمية والكيفية والإضافية
ومتى وأين والوضع وله وأن يفعل وأن ينفعل". لكن الفارابي يستعمل مصطلح "الكم"
(ص.93 وما بعدها) ولا يستعمل "الكمية"؛ ويستعمل مصطلح "الكيفية"
بعد ذلك (ص.99 وما بعدها) ويقابله بمصطلح "الكمية". ثم يستعمل مصطلح
"الإضافى" (ص.103) أو "الإضافة والمضاف".
أما ابن رشد (تلخيص كتاب المقولات، تحقيق موريس
بويج، بيروت، دار المشرق، الطبعة الثانية، 1983، ص.14) فيستعمل: الجوهر، الكم، المضاف،
الكيف، أن يفعل، أن ينفعل، الوضع، متى، أين، له. ويستعمل أحيانا "الكيفية"
و"يفعل"، و"ينفعل".
وكما قلنا آنفا، لا يزال هذا الموضوع محتاجا -في
حدود علمنا- إلى دراسة لسانية وترجمية. غير أنه منذ الآن يمكن استخلاص ملاحظتين: باستثناء
مقولة "الجوهر" التي نعلم أهميتها وانتشارها في الفلسفة وعلم الكلام العربيين،
وامتداداتها الدينية؛ وفيما خلا مقولات "الكم" و"الكيف" و"متى"
وأين" البينة بنفسها، فإن المقولات الأخرى قد تعددت صيغ ترجمتها وتأرجحت بين الإسمية
والفعلية. ربما كان هذا دليلا على خصوصيتها وارتباطها بنسق اللغة اليونانية، كما سيبرهن
على ذلك بنفنست
إميل بنفنست
من الأكيد أن اللغة بوصفها كلاما منطوقا مستعملة
لنقل "ما نريد قوله". غير أن ما نسميه هنا "ما نريد قوله" أو
"ما في ذهننا" أو فكرنا" أو مهما يكن الاسم الذي نطلقه عليه، هو محتوى
للفكر، مستعص جدا على التحديد في ذاته، إلا أن يكون ذلك بمميزات المقصدية أو باعتباره
بنية نفسية، إلخ. وهذا المحتوى يتلقى شكله حين يتلفظ به وفقط حين يتلفظ به. إنه يتلقى
شكله من اللغة وفي اللغة، التي هي قالب كل تعبير ممكن؛ لا يمكنه أن ينفك عنها ولا أن
يتعالى عليها. والحال أن هذه اللغة هي ذات شكل عام في مجموعها ومن حيث هي كلية. وهي
فضلا عن ذلك منظمة بوصفها ترتيبا لـ"علامات" متمايزة ومميزة، قابلة في ذاتها
لأن تنفك إلى وحدات أدنى أو أن تتجمع في وحدات مركبة. هذه البنية الكبرى، المتضمنة
لوحدات أصغر على مستويات عديدة تعطي لمحتوى الفكر شكله. ويلزم هذا المحتوى، كي يصير
قابلا للتوصيل، أن يتوزع بين مورفيمات من أصناف معينة، مرتبة في نظام معين، إلخ. وباختصار،
لا بد لهذا المحتوى أن يمر عبر اللغة ويستعير منها الأطر. وإلا فالفكر، إن لم يصر لا
شيء تماما، فإنه يصير على اي حال من الإبهام واللاتمايز إلى حد لا يكون بمقدورنا إدراكه
بوصفه "محتوى" متمايزا عن الشكل الذي تمنحه اللغة إياه. فليس الشكل اللساني
إذن شرط إمكان التبليغ فحسب، بل هو كذلك شرط تحقق الفكر. إننا لا ندرك الفكر إلامتلائما
مقدما مع أطر اللغة. خارج هذا ليس ثمة سوى فعل إرادي مبهم، واندفاعة تتفرغ في حركات وإيماءات. هذا يعني القول إن مسألة
معرفة إن كان بإمكان الفكر أن يستغني عن اللغة أو يتفاداها باعتبارها عقبة، ستبدو،
إذا ما حللنا بصرامة المعطيات الحاضرة أدنى تحليل، غير ذات معنى.
يبدو من المفيد تناول القضية عن طريق "المقولات"
التي تظهر بصفة وسائط. فهي لا تظهر بالمظهر نفسه إذا ما كانت مقولات للفكر أو مقولات
للغة. وهذا التنافر ذاته يمكن أن يجلو لنا طبيعة كل منهما. مثلا، نحن ندرك فورا أن
الفكر بمقدوره تخصيص مقولاته في حرية، وتأسيس مقولات جديدة، في حين أن المقولات اللغوية،
وهي خصائص نسق يتلقاه كل متكلم ويؤمن دوامه،ليست قابلة للتغيير وفقا لمشيئة أي كان؛
ونلحظ ذلك الاختلاف الآخر المتمثل في أن بإمكان الفكر أن يطمح إلى وضع مقولات كلية،
لكن المقولات اللغوية هي دائما مقولات لغة خاصة. وللوهلة الأولى يبدو أن هذا يؤكد الموقع
المتميز والمستقل للفكر تجاه اللغة.
لنذكر أولا بالنص الأساسي الذي يعرض اللائحة الأكمل
لهذه الخاصيات العشر في مجموعها (قاطيغورياس، الفصل الرابع)(1):
>> وهكذا يضع أرسطو مجموع المحمولات التي يمكن إثباتها
للوجود، ويرمي إلى تحديد الوضعية المنطقية لكل واحد منها. والحال أنه يبدو لنا -وسنحاول
البرهنة على ذلك- أن هذه التمييزات هي قبل كل شيء مقولات اللغة، وأن أرسطو في الواقع،
فيما هو يفكر بطريقة مطلقة، قد عثر من جديد ببساطة على بعض المقولات الأساسية للغة
التي كان يفكر ضمنها. وأدنى انتباه لمنطوق المقولات والأمثلة الموضحة لها، يجعل ممكنا
التحقق، دون شروح طويلة، من صحة هذا التأويل، الذي يبدو أن لا أحد قد اقترحه من قبل.
سنستعرض المصطلحات العشرة على التوالي:
بـ"جوهر"
أو "ماهية". إنه هو المقولة التي تجيب على السؤال "ماذا؟" بالجواب:
"إنسان" أو "فرس"، أي عينتين من الصنف اللساني للأسماء التي تشير
إلى أشياء سواء كانت مفاهيم أو أشخاصا. سنعود فيما سيأتي إلى مصطلح ousia المصطلحان التاليان poson يشكلان زوجا. إنهما يحيلان على "الوجود ذي الكم"، ومن ثم الاسم
المجرد posothV
"الكيفية". والمصطلح الأول لا يعني
فحسب "العدد"، الذي ليس سوى أحد أنواع posonلنركز اهتمامنا على هذه المقولات الست في طبيعتها
وتجميعها. يبدو لنا أن هذه المحمولات لا تتطابق البتة مع صفات مكتشفة في الأشياء، بل
مع تصنيف صادر عن اللغة ذاتها. إن مفهوم ousia و
poion و
poioi و
oioV و toioV ،
يوجد alloioV ، omoioV ، فإن وراء "الإضافة" توجد أيضا خصيصة
أساسية للنعوت اليونانية، وهي منح اسم تفضيل (مثل meixos كبير، عظيم]، وهو
فضلا عن هذا مثال في نص أرسطو) الذي هو الشكل "الإضافي" بامتياز. والمثالان
الآخران [ في نص أرسطو]
diplasion t]النصف] يميزان "الإضافة" بطريقة مختلفة: إن مفهوم "الضعف"
أو "النصف" هو الإضافة بحكم تعريفه ذاته، في حين أن صيغة meixon متى"، فهما يتضمنان على التوالي صنفي
التسميات المكانية والزمانية. وهنا أيضا فالمفهومان مصوغان وفق قالب خصائص هاته التسميات
في اليونانية: إنهما ليست متعالقين فحس بواسطة تناظر صياغتهما المنقولة في ou ote ، toutote t]الأمس ]]العام الماضي ] أو عبارات إرابية تستعمل صيغة تدل على المكان (كما هو
الحال في
enlukeiw ، enagora وبالاعتبار نفسه، فالمقولات الأربع التالية تشكل
أيضا مجموعة: إنها بأجمعها مقولات فعلية. ويزيد من أهميتها عندنا أن طبيعة اثنتين منها
لا يبدو أن التعرف عليها قد تم بطريقة صحيحة.
ينفعل"، مع المثالين kaeitai, temnetai]المبني للفاعل] و passif و
pascein.
و
eceinتعني "الملك"(**). وأية أهمية
يمكن أن تكون لمقولة مثل "الهيئة" keisqai(***)مع أمثلة كـ"متنعل"، "متسلح"؟ يبدو أن شارحي أرسطو
قد اعتبروا هاتين المقولتين ثانويتين؛ والفيلسوف لم يذكرهما إلا لاستيفاء جميع المحمولات
المنطبقة على إنسان. يقول غومبرتس Gompertz: "ماذا يمكن أن يقابل لسانيا مقولة keisqai جالس". إنهما عينتان من الأفعال الوسطى(****). وهذا مفهوم أساسي
من وجهة نظر اللغة. وعلى العكس مما قد يبدو لنا، فالفعل الأوسط أهم من الفعل المبني
للمفعول المشتق منه. إن التمييز الأساسي في نظام الأفعال في اللغة اليونانية القديمة،
وكما استمر في الحقبة الكلاسيكية، هو التمييز بين الفعل المبني للفاعل والفعل الأوسط(4).
فكان بإمكان مفكر يوناني أن يضع عن حق في المطلق محمولا يعبر عنه بصنف خاص من الأفعال،
تلك التي لا تكون إلا وسطى (media tantum) وليس الأمر على خلاف ذلك بالنسبة للمحمول المسمى ecein. متنعل"، وwplistai "، و towplidqai. وwplistai ، التي ينبغي أن نلاحظ أن فعليها الشاهدين anakeitai "جالس"، ليس لهما ماض تام. فمقولة الماضي التام هي الموضحة في المحمول ecein ، الذي هو في الآن ذاته "أن يملك"، وفي
الاستعمال المطلق "الوجود في حال معينة"، ينسجم غاية الانسجام مع صيغة الماضي
التام. ودون الدخول في شرح يمكن تطويله بسهولة، لنلاحظ فقط أنه لإبراز القيمة اللسانية
للماضي التام في ترجمة الصيغتين المذكورتين يجب أن ندرج فيهما مفهوم "الامتلاك" upodedetai "له سلاح على جسده". لنلاحظ أيضا أن
هاتين المقولتين، كما نفهمهما، تتابعان في التعداد ويبدو أنهما تشكلان زوجا، تماما
مثل poiein التاليتين. ويوجد حقا بين الفعل الماضي التام والأوسط اليونانيين روابط
عديدة صيغية ووظيفية، موروثة عن الهندية الأوروبية، قد شكلت نظاما معقدا؛ مثلا صيغةgegona بمعنى "صار، حدث"] وهو الماضي التام المبني للفاعل تتزاوج مع
المضارع الأوسط
gignsmai ot]متعلق بـ] أو teleioV ot]أوسط]، المتوسط بين المبني للفاعل والمبني للمفعول. ومن الأكيد على أي
حال أن الماضي التام لا يندرج في نظام أزمنة الأفعال في اللغة اليونانية ويبقى منعزلا،
دالا، بحسب الحال، على صيغة للزمان أو كيفية
لوجود الفاعل. وبهذا الاعتبار، يمكن، نظرا لعدد المفاهيم التي لا يعبر عنها في اليونانية
إلا بصيغة الماضي التام، تصور أن أرسطو قد جعل منها كيفية نوعية للوجود، حالا (أو مظهرا)
للذات.
كيف"،
"كم")، نعوت مشتقة من ضمائر، على نمط اللغة اللاتينية qualis ، quantus أين")
pote ("أن يكون على هيئة")، فعل أوسط؛ ecein ("أن يفعل")، مبني للفاعل؛ pascein ("، أي في تركيب كما قد نقول. وبطريقة لا واعية فقد
جعل من الضرورة العملية لإيجاد تعبير منفصل لكل واحد من المحمولات معيارا له. فكان
إذن محكوما عليه أن يعثر ثانية، دون أن يريد ذلك، على التمييزات التي تقيمها اللغة
نفسها بين الأصناف الأساسية من الأبنية، إذ أنه لا دلالة لسانية لهذه الأبنية وهذه
الأصناف إلا باختلافاتها. كان يعتقد أنه يحدد صفات الأشياء؛ إنه لم يقرر سوى موجودات
لسانية: فاللغة، بفضل مقولاتها الخاصة بها، هي التي أتاحت التعرف عليها وتخصيصها.
وينتج عن هذا أن ما عرضه علينا أرسطو بوصفه لائحة
شروط عامة ودائمة ما هو إلا إسقاط مفهومي لوضع لساني معين. بل من الممكن توسيع هذه
الملاحظة. فما بعد المصطلحات الأرسطية، وفوق هذا التصنيف للمقولات، ينبسط مفهوم الـ"être" والواقع هنا أيضا أن ما يعكسه هذا المفهوم هو خصيصة
لسانية نوعية جدا. فاللغة اليونانية لا تمتلك فحسب فعل "être" (ot]تأليف وتركيب])، ومن ثم، فإن هذا الفعل قد تلقى مدلولات أوسع من أي فعل
آخر. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن لفعل "être" ot]اسم الفاعل من فعل einai، التي تشير إلى الجوهر المفهومي لشيء، دون الحديث
عن التنوع المدهش للمحمولات الخاصة التي يمكن تركيبه معها، بواسطة الحالات الإعرابية
وحروف الجر والإضافة.. ويطول بنا الأمر لو أردنا حصر هذه الوفرة من الاستعمالات، لكن
المسألة مرتبطة حقا بمعطيات اللغة، والتركيب، والاشتقاق. لنؤكد على هذا، لأن وضعا لسانيا
بهذه الصفة هو الذي جعل ممكنا أن تولد فيه وتمتد كل ميتافيزيقا "الوجود"
اليونانية، والصور الرائعة في قصيدة بارمينيدس، كما في جدلية السوفسطائي(*). إن اللغة
طبعا لم توجه التعريف الميتافيزيقي لـ"الوجود"، إذ لكل مفكر يوناني تعريفه
الخاص، لكنها أتاحت أن تجعل من "الوجود" مفهوما قابلا لأن يصير موضوعا يمكن
للنظر اللسفي أن يعالجه ويحلله، ويحدد له موقعا كأي مفهوم آخر.
في لغة إيوي ewe (هناك أولا فعل نيي nyé يتصرف مثل فعل متعد وأنه ينصب مفعولا به هو بالنسبة
لنا مسند هوية.
الذي يعبر بالضبط
عن "الوجود؛ مثلا "ماوو لي": "الله موجود". غير أن له أيضا
وظيفة إسنادية، فيستعمل "لي" مع مسندات الحال، وظروف المكان. "الكينونة"
في مكان، أو في حال، أو في زمن، أو بهيئة؛ "إي-لي نيي" e-le nyuie: "هو هنا"؛ "إي-لي حو مي": "هو في الدار"، في
كل هذه الاستعمالات، لا يكون إلا في زمن واحد هو الماضي غير المحدد aoristeالذي يعني "ظل، بقي"، أي أنه وفقا للزمن المستعمل، لا بد من
فعلين متمايزين، "لي" اللازم أو "نو" المتعدي، للتعبير عن المعنى
ذاته.
الذي يعني "جعل، أنجز، أحدث أثرا"، إذا ارتبط ببعض أسماء المادة،
يتصرف على منوال فعل "الكينونة" المتبوع بنعت مادي: فعل "وو" مع
"كي" "رمل" يعطي "وو كي" wo ke "أن يكون رطبا"؛ ومع "كبي"
"حجر": "وو كبي" wo kpe ، وهكذا فإن
"ذو فيا"
du fia وأخيرا، فإنه مع بعض المسندات إليها للوصف الجسدي،
والحال، يكون التعبير عن فعل "الكينونة" بواسطة "ذي" di: ، "و"فعل الملك" avoir ، فإنه يبني عبارة "لي أسي" le asiحرفيا "المال
يكون في يدي") "أملك مالا".
؛ إننا نراه يتخلق عبر التاريخ: أولا بصيغةesnai التي فرضت نفسها. إن كل ما نريد توضيحه
هنا هو أن البنية اللسانية للغة اليونانية كانت تهيئ سلفا مفهوم "الكينونة"
لمصير فلسفي. وبالمقابل، فإن لغة الإيوي لا تقدم لنا سوى مفهوم ضيق، واستعمالات مخصوصة.
لن يكون بمقدورنا أن نقول اي موقع سيحتله [مفهوم] "الوجود" في ميتافيزيقا
الإيوي، لكن أوليا سيتمفصل المفهوم بطريقة مغايرة تماما.
لا شك أنه ليس مصادفة أن الإبستمولوجيا المعاصرة
لا تحاول وضع لائحة من المقولات. فالأخصب هو تصور الفكر من حيث هو إمكان فعل أكثر من
كونه إطارا، ودينامية أكثر من كونه بنية. ومن المحقق أن الفكر بخضوعه لمتطلبات المناهج
العلمية، يتبنى في كل مكان طرائق التفكير نفسها
في أي لغة اختارها لوصف تجربته. وبهذا المعنى فإنه يصير مستقلا، لا عن اللغة، بل عن
البنيات اللسانية الخاصة. قد يكون الفكر الصيني ابتدع مقولات بمثل خصوصية الطاو، والين
واليانغ [مفاهيم في الفكر الصيني القديم تنتظم الوجود بأكمله على كل المستويات ]: لكنه
ليس أقل قدرة على استيعاب مفاهيم الجدلية المادية أو الميكانيكا الكوانتية، واللغة
ليست حائلا دون ذلك. إن أي نمط من اللغة ليس بمقدوره بذاته ولوحده لا أن ييسر أو يمنع
نشاط الفكر. فنهوض الفكر أكثر ارتباطا بمقدورات الإنسان، وبالشروط العامة للثقافة،
وبتنظيم المجتمع منه بالطبيعة الخاصة للغة. لكن إمكان الفكر مرتبط بملكة اللغة، لأن
اللغة بنية تصوغها الدلالة، وأن تفكر يعني أنك تمارس علامات اللغة.
المجلة العربية للعلوم الادبية
ا