فن الحَدائق وَنصُوص في التراث العَربي - د.عبد الكريم اليافي
يا نسيماً هب مسكاً عبقاً
هذه أنفاس ريّا جلقا
"أبو فراس السُّلمي".
الحديقة جزء من الطبيعة هيأه الإنسان لمباهجه وأعد فيه خلاصة ما وجده فيها من نبات جميل اختاره ومياه عذبة أجراها وطير جمعه وحيوان حشره أو دجَّنه، مع طرق أحسن رصفها ومقاصير أجاد بناءها ودكَّات رتبها للتأمل ومجالس نظمَّها للتملي. هذا إلى اتساع رقعة الجو ومعابثة الأشعة والظلال ومغاداة النسيم ومراوحته ومفاتن الفصول الأربعة ونصوع آناء النهار كل وقت له جماله وطلاوته كالشروق والبكور والغدوة والضحى والظهيرة والعصر والأصيل والغروب، وسحر آناء الليل وغموضها كاختلاط النور والظلام والشفق والغسق والعتمة والسدفة والموهن والسحر والفجر والصبح ثم مع ذلك مرافق مساعدة ومنافع مسعدة، فالحديقة بهذا الشكل وعلى هذا الطراز مختصر الطبيعة المختار بل هي تنظيم لبعض أجزاء الطبيعة كما ترغب الإرادة الإنسانية المتحلية بالحس الفني، والمتجلية بالرهافة الجمالية. فهي تعمد إلى تشكيل أجزاء الطبيعة الحية التي هي رهن التكامل والنمو والتفتح والربوّ والازدهار والازدهاء ولكنها أيضاً رهن العسوّ والذبول والجفاء والفناء.
هذا التناقض في الصفات والخصائص يبرز الفرق بين فن الحدائق وبقية الفنون المتعارفة. ذلك أن طائفة من هذه الفنون الجميلة تعالج مواد هامدة وتؤلف بينها لتهب لها وجوداً فنياً ممتعاً من نوع روحي خاص كما يفعل التصوير بالألوان والخطوط والأشكال وكما يصنع النحت بالمرمر والصخر والخشب وأمثالها فهي تفرض على هذه المواد أشكالاً ونسباً ثابتة ونهائية. ولكن فن الحدائق يعالج مادة حية لها قوانينها ونظامها في النمو والتكامل أو النكوص والتراجع. فهي إن استجابت لرغبات الإنسان وما يريده من تشكيل وتأليف فلابد من أن تخرج عن إرادته ورغباته بالعفوية التي تملكها والخصائص التي تتميز بها. هذا نوع من التناقض والانسجام في وقت واحد بين المادة الحية والأشكال التنظيمية المفروضة. وليس فن الحدائق إلا تعهُّد ذلك الانسجام والتناقض والاختلاف والائتلاف والنجاح في الملاءمة بين هذه الأضداد. قد تطغى المادة الطبيعية الحية في الأسلوب فيقترب فن الحدائق من عفوية المناظر الطبيعية أو يوحي بها دون أن يلتزم بها تماماً. وقد يغلب التنظيم في الحديقة فيحد القوى الطبيعية ويضيّق عليها ويجعلها قريبة من مواد فن العمارة وذلك بتقليم الورود والأشجار وترتيب المروج والأزهار وتنسيق الفسقيات والجداول وإعطاء الجميع أشكالاً هندسية ونِسباً متسقة متصلة ومنفصلة.
هذان الحدان المتقابلان الطبيعي والهندسي يترجح بينهما تاريخ فن الحدائق كله منذ القديم إلى العصر الحاضر. فن الحدائق الصيني والياباني ثم الإنكليزي مثال على النوع الأول، وفن الحدائق البابلي ثم الفرنسي مثال على النوع الثاني. والجامع للنوعين هو الفن العربي الإسلامي.
إن موضوع الحدائق مادة الحياة وما فيها من عناصر. ولما كان الكائن الحي رهن التبدل والتغير احتاج هذا الموضوع إلى التعهد الدائم والصيانة الدائبة، وإلا سرعان ما ينتهي إلى التصوّح والاضمحلال ويفضي إلى الذُّوِيّ واليبس والانقراض.
يُلحق الفيلسوف الألماني "كانت" فن الحدائق بفن الرسم والتصوير. ويضع مواطنه وتلميذه "شوبنهور" فن الحدائق وتصوير المناظر ورسم الطبيعة الميتة في مرتبة واحدة من تصنيفه للفنون، إذ تشف جميعها عن تصورات الطبيعة النباتية من نموّ وتشكل إلى جانب سيولة الماء الجاري والظل والنور والحرور وهي كلها نغمات الطبيعة الصم العميقة كالجاذبية والثقل والمقاومة وغيرها مما يؤلف تصورات فن العمارة وينم عن درجة من درجات تحقق الإرادة التي هي عند فيلسوفنا المتشائم جوهر الرغبة في الاستمرار والبقاء.
ولقد كان الفلاسفة الحديثون الذين عالجوا الفنون متفاوتين في النظر إلى قيم الجمال في الطبيعة وإلى تقدير يد الإنسان الصّناع في تنسيقها. ولاشك أن الأدباء والفلاسفة الرومنسيين أعلوا شأن حب الطبيعة وعكفوا على التعاطف معها حتى أن المشاعر العميقة تلقاءها تؤلف عنصراً مهماً من عناصر الأدب الرومنسي الأوربي في القرن التاسع عشر.
ولكن لابد من التنويه بالفيلسوف الإنكليزي "جون رسكين"، الذي أعلى شأن الطبيعة وجعل كل مجلى من مجاليها جميلاً وزعم أن مناظرها كلما خلصت من أثر الإنسان كان جمالها أوفر. ألا ترى إلى السحاب حين تنظر إليه في السماء تجتذبك أشكاله المتغيرة المتبدلة وكل هذه الأشكال تتفق مع قوانين الجمال. ويرى رسكين أن الطبيعة هي معلمة الفن الأولى والوحيدة وأنها الرمز الذي يشير إلى بارئها جلّ وعلا، كما يرى أن الفن غذاؤه حبّ الطبيعة وتأملها، وقوته في تواضع الفنان واقتدائه بها.
وينطوي التراث الحضاري العربي على صور فكرية وفنية وأدبية بديعة في حب الطبيعة وتصوير مفاتنها. وقد عقدنا في كتابنا "دراسات فنية في الأدب العربي"، فصلاً عرضنا فيه صوراً بليغة في هذا الشأن. فلا حاجة للإفاضة هنا فيه.
على أن الحديقة باختصارها للطبيعة واعتبارها معرضاً لبعض مجاليها وصورها تضم ما في الطبيعة من قيم جمالية. فلاشك أن الورود والنرجس والبنفسج والريحان والأقاحي ينظر إليها الفن بمنظاره ويصنف قيمتها الجمالية في مرتبة الرقة واللطف والحلاوة والرهافة، كما ينظر إلى الدوحة الباسقة والأرزة الشامخة الباذخة فيشعر تجاهها بعاطفة السمو و الروعة، وينظر إلى البركة المتسعة التي يسبح في سطحها البط فيشعر بالحسن والرشاقة والانسياب والسهولة، وكلما أنعم المرء النظر في الطبيعة تأمل محاسنها في مختلف الآناء والفصول استخفته مجاليها الممتعة وأنس بعناصرها البديعة وأخلد إلى ما فيها من الائتلاف والاختلاف وتعدد الألوان والأصباغ وإلى قوة الحياة المنبثة في غضارة نباتها وإلى ما ينبعث في مجاليها من رأم وحنان. وقد يتمثل بقول الشاعر أبي نصر المنازي أو الشاعرة حمدة بنت زياد:
وقانا لفحة الرمضاء وادٍ
سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحة فحنا علينا
حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالاً
ألذ من المدامة للنديم
تروع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم
يصد الشمس أنَّى واجهتنا
فيحجبها ويأذن للنسيم
ثم إن إنشاء الحدائق وتعهدها يقتضيان تقدم الفلاحة ووجود زرّاع وأكّارين يستصلحون الأرض ويجعلونها مخصاباً إن لم يكن الخصب من صفاتها ويعرفون أنواع النبات وخصائصه وحاجاته ومايزكو ويربو به من تراب وسماد وسقاية ويدركون أشكال نموه وتفرعاته وأغراسه ومزاياه.
وأقدم ما يعرفه المؤرخون عن تقدم الفلاحة يرجع إلى عهود مابين النهرين أحد مهود الحضارة الإنسانية. يقول المؤرخ المسعودي في كتابه "مروج الذهب" عند بحث ملوك بابل: "فهؤلاء الذين أتينا على أسمائهم وذكرنا مدة ملكهم هم الذين شيّدوا البنيان ومدنوا المدن وكوَّروا الكُور وحفروا الأنهار وغرسوا الأشجار واستنبطوا المياه وأثاروا الأرض واستخرجوا المعادن من الحديد والنحاس والرصاص وغير ذلك.".
وأكثر ما اعتمد البابليون والآشوريون في الفلاحة أشجار النخيل الباسقة. وكانت تؤلف غالبية الأشجار والدوح في البساتين. ويصعب معرفة المكان الأصلي الذي دخلت منه النخلة الأولى إلى العراق. ويظن أنه شبه جزيرة العرب. وكثرت زراعتها في الجنوب. وقد عرفوا فوائد هذه الشجرة فأكلوا ثمرها واستخرجوا منه أصنافاً من الأشربة والخمور ثم صنعوا منه الدبس ثم الخل، واستعملوا النوى وقوداً أو سحقوا النوى وقدموها علفاً للحيوان كما استعملوا السعف والجريد في صنع البيوت، واصطنعوا الألياف في عمل الحبال. ثم إنهم عمدوا إلى تكثير النخيل بالفسيل وباستنبات النوى وإن كان الاستنبات بالنوى أبطأ جداً منه بالفسيل. وكانوا يتركون مسافات كافية بين النخلة والنخلة، ويستفيدون من هذه المسافات حيث يضؤل البخر في زراعة النباتات الظليّة إذ كانت تتيح تلك الفُرَج رطوبة تكاد تكون دائمة فيساعد ذلك على إنبات ماهو غض لطيف لا يحتمل لفح القيظ الشديد ولا نفح البرد القارس.
ومن غرائب مساعي الإنسان أن البساتين والحدائق لم تنشأ أول ما أنشئت لزيادة المحصول الغذائي بل للمتاع والبهجة ولزراعة الأزهار والزينة. كانت تتجلى فيها شدة الخصب وتتبدى قوة الحياة وتباركها الآلهة التي تشرف على الحياة وعلى الإخصاب. ولا غرو أن تكون عشتار هنالك عندهم وفي أوهامهم راضية عن إقامة تلك الحدائق والبساتين.
أقام الملك الآشوري سرغون (الذي حكم بين 722 ـ 705ق.م). في عاصمته دور شروكين على مقربة من نينوى حديقة واسعة جلب إليها من جبال الأمانوس في جنوبي الأناضول أنواعاً من الأشجار كالصنوبر والسرو كما جلب من شمالي سورية التين والعنب والغار والآس وأصناف الورود. وكأن حديقته تلك كانت تختصر نبات البلاد التي دوّخها. وربما كان قد جلب إليها أيضاً بعض أنواع الطيور والطرائد والسباع. وأربى خلفه سنحاريب عليه اهتماماً بالزراعة وتعهداً لها.