نظرة ناقدة إلى تراثنا العلمي العَربي - محمدّ وائل الأتاسي
نشرت مجلة الوحدة في عددها الـ 68 الصادر في شهر أيار/ مايو 1990 حواراً أجراه الأستاذ هاشم صالح مع الدكتور رشدي حول مساهمة العرب في تاريخ العلم وكان السؤال البارز في هذا الحوار، هو: هل العلم العربي الاسلامي أرسطي (نسبة إلى ارسطو)؟ أو بمعنى آخر هل ينتمي العلم العربي الإسلامي فكراً ومنهجاً إلى ما شاع في القرون الوسطى، في العالمين الشرقي والغربي، من فكر يصطبغ بصبغة أرسطية؟
وقد أعطى الدكتور رشدي راشد، بما عهد فيه من روح علمية، إجابة عادلة تؤكد أن إطلاق هذه الصفة بوجه عام يعني إعطاء حكم تعسفي جائر، غير دقيق، يترتب عليه تأكيد وجود انقطاع في تاريخ الفكر، في القرون الوسطي، وهذا ما ينادي به معظم مفكري الغرب.
والدكتور رشدي راشد باحث عربي من مصر، متفرغ في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، وبوجه خاص لتاريخ الرياضيات في القرون الوسطى.
وقد حقق الكثير من الكتب التراثية القيمة، والتي كانت مطويّة في عالم النسيان، مثل أعمال عمر الخيام في الجبر، وكذلك أعمال الكرخي. كما حقق مع الدكتور صلاح الأحمد كتاب الباهر في الجبر للسموأل المغربي.. إلخ...
وسنحاول في هذه الدراسة إعطاء إجابة عن السؤال المطروح في مقدمتها،ولكنها لن تكون إجابة قاطعة بالنفي أو بالايجاب. لأننا نرى أن إطلاق حكم عام تلخصه كلمة أرسطية، هو حكم سيكون على الأرجح مفتقراً إلى الدقة.
لذلك سنسعى إلى تمييز بعض الملامح في تراثنا العلمي.
وإني لأعترف منذ البدء بأن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة أعمق وأشمل من هذه، إلا أنها محاولة أرجو أن تعقبها محاولات أخرى، لكي يكون ذلك حافزاً لنا على تبني الروح العلمية الحقيقية والصادقة.
ان من يتأمل في انتاج العالم العربي الاسلامي على الصعيدين العلمي والفكري خلال الفترة الممتدة من القرن العاشر وحتى القرن الخامس عشر للميلاد، لا بد من أن تتملكه الدهشة لأمرين: أولاً وفرة هذا الانتاج (نسبياً)، ثم لاستمراره في هذه الفترة التي عرفت بكثرة تقلباتها السياسية وتمزق أطراف الدولة فيها بين دويلات متطاحنة أو طوائف مذهبية أو شعوبية متصارعة، وثورات متلاحقة، وتهديدات بالغزو تهب من الشمال والشرق والغرب. هذا إضافة إلى أهواء الساسة الذين كانوا في كثير من الأحيان غرباء عن المنطقة، ولا همّ لهم سوى السلطة، وبسط النفوذ، وجني الأموال، وتعبئة الجيوش وتدبير المكائد والتربص بالخصوم وإن كانوا د أبدوا في بع الأحيان حماسة للعلم والفكر، فكثيراً ما كانوا يخشون كل تفكير حر يستشمّ منه مخالفة لعقائدهم، أو يفتّح أذهان العامة على جورهم وظلمهم.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يدهشنا ظهور أصالة في بعض هذا الانتاج، سواءٌ من حيث المضمون، أم من حيث المنهجية في البحث. وقد يلمح المرء في ثنايا بعض المؤلفات تباشير فجر جديد، سرعان ما بزغ فعلاً منذ القرن الرابع للهجرة، العاشر للميلاد، ولكن ليس في قطر عربي أو إسلامي واحد، بل يمكن القول في أكثر تلك الأقطار. ولسنا بحاجة للبحث والتقصي لكي نقيم الدليل على ما ذهبنا إليه. فالكندي والرازي والبيروني وابن سينا والحسن بن الهيثم وأبو بكر الكرخي وابن البناء المراكشي وابن طفيل وابن النفيس والغزالي وابن عربي وابن خلدون والمقريزي وغيرهم. كلها أسماء معروفة لأعلام كان أصحابها قد عاشوا في تلك المراحل المضطربة من تاريخ العالم العربي الاسلامي. لقد مهّد هؤلاء الاعلام الطريق بأعمالهم لمن أتى بعدهم من علماء عصر النهضة في أوربا، أمثال كبلر وغاليليه وباسكال وديكارت وفيرما، ولا يمكن لباحث ومؤرخ للفكر أن يتجاهل مؤلفاتهم دون أن يترك في بحثه ثغرة في تاريخ العلم يصعب عليه جداً رأبها.
فابن الهيثم المتوفى عام 1039م لم يكن فحسب المؤسس الحقيقي لعلم البصريات (الضوء) في كتابه "المناظر"، وإنما وضع منهجاً واضحاً في البحث سار عليه ومارسه. ولقد سبق كبلر (1571- 1630م) وغاليليه (1564- 1642م) في اتخاذ الرياضيات وسيلة لإقامة الدليل وطريقاً للكشف. فبرهانه على أن القمر لا يمكن أن يكون كرة ملساء، مثال بارز. كما أن طريقته في تفسير انعكاس الضوء التي اتبع فيها منهجاً تحليلياً صاغه وفق متطلبات المسألة، يستحق الاعجاب. والفكرة فيه هي نفسها التي وردت بعدئذ عند نيوتن ا(1642- 1727م). ويكاد يكون مؤكداً أن نيوتن قد اطلع على أعمال ابن الهيثم، لأن مرشد نيوتن وأستاذه ويدعى "بارو" كانت قد اطلع على هذه الأعمال بعد ستة قرون أو يزيد. هذا فضلاً عن أن ابن الهيثم كان يقيم الدليل التجريبي على صحة أعماله، وكان في بعض الأحيان يبتكر أدوات مخصصة لهذا الغرض. وهذا بعض ما أخذه الغرب عن العرب، ولم يكن معروفاً عند اليونانيين. كما أعطى ابن الهيثم أول وصف صحيح لتركيب العين، ودرس أوهام البصر وإدراك الرؤية، إضافة إلى مسألة هامة مشهورة لا تزال تحمل اسمه (1). وفيها تمهيد واضح لمسألة الطريق الضوئي الذي وضع فيه فيرما (1601- 1663م) مبدأه الشهير.
وأما الكرخي، الذي عاش في الفترة نفسها (توفي 1020م)، والذي أتم عمله السموأل المغربي في القرن الثاني عشر الميلادي، فقد أخرج الجبر من دائرة المعادلات إلى مرحلة التطبيق العملي. فقد طبق الحساب على الجبر بوضع قواعد العمليات الأربع على كثيرات الحدود (التي كانت تعد إلى حين من منجزات عصر النهضة في أوربة). كما أنه سبق باسكال (1620- 1662م). بستة قرون إلى وضع مثلث الاعداد الذي يساعد على كتابة منشور أي قوة لذات الحدين. ومن ينظر إلى مثلث الكرخي ومثلث باسكال يظن أن الثاني أخذ عن الأول (2). وقد تبين أن هناك من أتى بعد الكرخي واستفاد من مثلثه. كما مهدت أعمال البيروني (971- 1051م)، في توازن السوائل والأواني المستطرقة، لأعمال باسكال وتوريشلّي. فقد شرح بعض الظواهر التي تتعلق بضغط السوائل وتوازنها، وعلّل صعود مياه النوافير والعيون، وظاهرة الأواني المستطرقة (3).
ولا نظن القارئ إلا مطلعاً ولو بعض الاطلاع على أعمال ابن خلدون (1332- 1406) وتلميذه المقريزي (1364- 1442م) وتحليلاتهما الاجتماعية – الاقتصادية. وعلى تأملات ابن طفيل (1106- 1185م) في الطبيعة وأحوال الخلق، ومنهجية ابن رشد (1126- 1198م) العقلية. وهنا نلاحظ أن بعض من ذكرنا أسماءهم كانوا أطباء، استفادوا من سعة اطلاعهم، ومن تعددية معارفهم في دراسة وممارسة مهنة الطب. أو ربما كان تجسيداً لفكرة تقول إن العلم في نظرهم كان مآله وهدفه الإنسان الذي يجتمع فيه العالمان: عالم الروح وعالم الجسد. وهذه على كل حال ظاهرة تستحق الدراسة كما يقول جورج برنال في كتابه "العلم في التاريخ" (4).
لقد استفاد العلماء العرب والمسلمون أحياناً من بعض علومهم لاجراء بعض التطبيقات العملية كتحديد المواقيت، في بعض المدن الكبرى، وتعيين اتجاه القبلة، وحساب مساحات الأراضي، وتحسين طرق الري وغير ذلك.
ولكن ليس على النطاق الذي يؤهلنا للقول إنهم علمنوا الصناعة، أي أنهم خلقوا صناعة تقوم على العلم بالمعنى الذي نفهمه اليوم (التكنولوجية) 1.
ويبدو أم ما تم الكشف عنه من أعمال فكرية عربية إسلامية، أنجزت في هذه الفترة التي نحن في صدد الحديث عنها، لا يساوي سوى جزء صغير مما تحتويه مكتبات العالم من المخطوطات التي تنتظر من يحققها. فمنذ ما لا يزيد كثيراً عن عقد من الزمن، اكتشف الدكتور رشدي راشد، بعد تحقيقه لمخطوطة تأكد من نسبتها إلى شرف الدين الطوسي، أن هذا العالم قد أوجد طريقة لحساب جذور معادلة من الدرجة الثالثة بطريقة تقريبية، وهي الطريقة نفسها المعروفة اليوم باسم طريقة روفيني هورنر Ruffini- Horner. وهذه الطريقة، في حقيقة الأمر، عامة، يمكن تطبيقها في كثير من الحالات. ولكن أهم ما فيها هو أن شرف الدين الطوسي سبق فيرما إلى وضع طريقة لإيجاد النهاية الحدية Extremum التي هي عنده "العدد الأعظم". وطريقته لا تختلف في شيء عن طريقة فيرما، كما يمكن تطبيقها على أي دالة (تابع). وبذلك يكون الطوسي أيضاً بعد البيروني وابن الهيثم وثابت بن قرة (المتوفى عام 901م) من الأعلام البارزين الذي فتحوا الطريق على تحليل الصغائر بعمليات حسابية فعلية لا شكلية كما ورت عند اليونانيين كأودوكس وأرخميدس. فقد وازن الطوسي بين اللامتناهيات في الصغر واكتفى منها عند الضرورة بالجزء الرئيس من تغير الدالة، وذلك لدراسة تحولاتها (5).
ومهما يكن من أمر فإن الشواهد التي يمكن إيرادها في هذا المجال كثيرة، وتكفي للدلالة على أن العطاء الفكري ظل مستمراً في العالم العربي الإسلامي في تلك الفترة المضطربة القلقة التي انتهت بحدثين هامين، وهم سقوط القسطنطينية في المشرق 1453م. وسقوط غرناطة في الأندلس 1492م.
وهما حدثان ترددت أصداؤهما في العالم كله، حتى لقد عُدَّ كلّْ منهما نهاية لمرحلة تاريخية وبداية لأخرى جديدة. لقد كان الكثير من الانجازات الفكرية، التي انبثقت في العالم الإسلامي قبل هذين الحدثين، وكأنها أعدت لتكون بشيراً بمقدم ما بعدها. إذ إن كل دارس للعلوم يعرف أن هذه المنجزات كانت، أو كادت تكون في بعض الأحيان، هي النقاط التي انطلق منها الغرب.
ولا يستطيع الإنسان أن يماري مثلاً في أنه "لو لم يكن علماء الجبر العرب قبل ديكارت لما كان ممكناً فهم أعمال هذا الأخير" (6). وهذا ما ينطبق على كثير من شؤون العلم والفكر.
ولكن السؤال الذي حاول الكثيرون أن يجيبوا عنه هو: ما هي الأسباب التي أدت إلى تدهور هذه المعالم الحضارية في العالم العربي الإسلامي بعدما سطع نورها فيه؟ ولماذا طمست هذه القبسات المضيئة وأدرجت في عالم النسيان؟..
لقد وضعت لذلك أجوبة كثيرة كانت كلها مقبولة، لأنها عملت معاً متضافرة للوصول بعالمنا إلى هذا الموضع الذي آل إليه منذ القرن الخامس عشر. لقد مرّ العالم العربي الإسلامي بسلسلة من الكوارث والنكبات جعلته يغرق في سباب لم يستفق بعده إلا على أصوات المدافع تجلجل على سواحله في حملات نابليون ومنافسيه البريطانيين وغيرهم من الطامعين.
وكان أول عوامل التخلف وأكثرها وضوحاً هو تمزق الدويلات الإسلامية وعدم استقرارها. فلو عدنا مثلاً إلى شرف الدين الطوسي الذي سبق فيرما بخمسة قرون، لوجودنا أنه نشأ في عصر كانت الامبراطورية الإسلامية فيه ممزقة مشتتة تئن تحت وطأة الطامعين. فقد ولد شرف الدين في طوس في شمال إيران حول العام 1120م. وكانت طوس حينذاك تابعة للدولة الغزنوية (7). ثم حين بلغ أشده تنقل بين الموصل وحلب ودمشق وهمذان. وكانت الموصل حينذاك خاضعة لحكم بني زنكي ثم لحكم خوارزم شاه (8). وكانت حلب ودمشق وعموم سورية موزعة بين الفاطميين والزنكيين والصليبيين الذين كانوا على السواحل. وفي عام 1144م زال حكم الفاطميين نهائياً من سورية، واستمر حكم الزنكيين في الداخل والصليبيين. وكانت الحروب والمشاحنات مستمرة بين هذه الفئات فما أن تهدأ هنا حتى تستعر هناك. وفي كل يوم أحلاف جديدة وتبدل في المواقف.
وعلى الرغم من كل ذلك، فقد استطاع شرف الدين الطوسي أن يؤدي رسالته التعليمية. فكان له تلاميذ في دمشق وحلب والموصل. وكان أبرزهم كمال الدين بن يونس المصري (أستاذ نصير الدين الطوسي)، وهو الذي صنع له شرف الدين الطوسي الاسطرلاب المستقيم الذي اشتهر به، بناء على طلبه. ولكنه لم يشتهر بانجازه الأهم "تحليل الصغائر" الذي ورد ذكره منذ قليل (10).
وتعطينا تنقلات شرف الدين الطوسي مثالاً جعل العالم الباكستاني محمد عبد السلام (جائزة نوبل للفيزياء)، يدعو إلى ضرورة فتح الأبواب بين الدول العربية والإسلامية أمام الفكر وأهله، فلا يفرض أمامه أي نوع من أنواع الحواجز.
لقد ظهرت المذاهب الأربعة لأهل السنة بين القرنين الثاني والثالث للهجرة، وتم بعد ذلك إغلاق باب الاجتهاد (11). وهو قرار كان قد اتخذ استنكاراً للتأويلات التي بدأت تأخذ عند أصحاب بعض المذاهب الأخرى أشكالاً تسربت إليها في كثير من الأحيان من معتقدات وفلسفات قديمة كانت منتشرة في المنطقة قبل الإسلام. وقد تطورت في ذلك العصر أيضاً بعض الحركات الصوفية، التي أخذت عند بعضهم شكل نظام فلسفي متكامل مرتبط بتطورات خاصة لأركان العقيدة، كما هو الحال عند السهروردي، الذي أعدم سنة 525ه، وابن عربي (ت 638ه). لقد قاوم الحكام مثل هذه الحركات حين لم تكن تلائم حرفية معتقداتهم (12). وإذا كان هذا القمع الفكري قد أوقف عمل العقل والاجتهاد، فانه لم يمنع ظهور حركات متطفلة على الصوفية صار لها أتباعها وطرقها، ويتزعمها بعض المشعوذين. وأخذ يطغى على العامة فكر غيبي يؤمن بالسحر والتمائم وقراءة الغيب، على الرغم من أن الدين الإسلامي ينهى عن ذلك. وهكذا تشكلت شيئاً فشيئاً طبقة تمثل ما يسميه بعضهم نوعاً من الاقطاع الديني (13). إذ تشكلت طبقة أشبه ما تكون بالكهنوت، على الرغم من عدم وجود كهنوت في الإسلام. وصار أصحاب كل طريقة يأتمرون بأمر زعيم طريقتهم كالمرابطين في المغرب، ومشايخ الطرق في المشرق، ولا تزال بعض هذه الطرق موجودة في كثير من بلدان إفريقية الإسلامية، وحتى الآسيوية، وإن كانت في مصر وسورية تأخذ شكلاً آخر هو تجمع من المريدين حول بعض أئمة المساجد. ولذلك كان ظهور رجل مثل ابن خلدون وتلميذه المقريزي معجزة في ذلك العصر. (ولكن يبدو أن ابن خلدون نفسه لم يستطيع التخلص نهائياً من الفكر الخرافي) (14). لذلك لم يكن وجود مثل هؤلاء المفكرين ليوقف مدّ اللاعقلانية، الذي راح يطغى على القاعدة العريضة من عامة الشعب.