ظاهرة اللون
في القرآن الكريم
- محمد قرانيا
القرآن
الكريم، كتابُ الله الحكيم، هديةُ السماء إلى الأرض، ومنقذُ الإنسانية من ربقة الطين، ليرتقي بها إلى شفافية الروح السامية، وليرسخ في النفس قيم الحق والخير والجمال، وليمدها على مدى الزمان بما ينفع في الدنيا والآخرة.
لقد تلقى العربي القرآن الكريم، مأخوذاً ببلاغته وإعجازه، حتى قال فيه الوليد بن المغيرة، كما في سيرة ابن هشام: "فماذا أقول فيه؟ فو الله ما منكم رجلٌ أعلم مني بالشعر، ولا برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا، والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يُعلى".
ولقد استطاعت الآيات القرآنية بتعبيرها الفني أن تجعل بُلغاء العرب وفصحاءهم يصمتون أمام روعتها وبيانها، وشحناتها الانفعالية، وطاقاتها التعبيرية التي ليس لها حدود.
واللون في القرآن الكريم، المتغلغل في ثنايا الآيات، يعدّ ظاهرةً فريدةً من مظاهر التعبير الفني، والجمالي، وحليةً لفظيةً يتميز بها الأسلوب القرآني المعجز، جاءت متناسقةً في النصّ لتؤدي وظيفةً هامة إلى جانب الوظائف التعبيرية التي حفل بها كتاب الله العزيز الحكيم.
لفظ اللون:
إن لفظ (اللون) ورد في القرآن الكريم تسع مراتٍ:
"قالوا ادعُ لنا ربك يبينْ لنا ما لونُها" البقرة- 69.
"قال إنه يقول إنها بقرةٌ صفراءُ فاقعٌ لونها تسرّ الناظرين" البقرة- 69.
"ومن آياته خلقُ السموات والأرض واختلافُ ألسنتكم وألوانكم" الروم- 22.
"وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانُه" النحل- 13.
"يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانُه فيه شفاءٌ للناس" النحل- 69.
"ومن الناس والدوابّ والأنعام مختلفٌ ألوانُه كذلك" فاطر- 35.
"ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانُه ثم يهيج فتراه مصفراً" الزمر- 21.
"فأخرجنا به ثمراتٍ مختلفاً ألواُنها" فاطر- 27.
"ومن الجبالِ جددٌ بيضٌ وحمرٌ مختلفٌ ألوانها وغرابيب سود" فاطر- 27.
والمتبصّر في هذه الألفاظ، يجد في لفظي سورة البقرة، تحديداً لهويةِ وماهيةِ اللون، في حين وردت الألفاظ السبعة الباقية مقترنةً بلفظي المصدر (الاختلاف المختلف) ويبدو واضحاً أن اللون هنا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه اللفظة التي تدل على الفروق والتباين وتعدد المشارب، لإظهار أمرين:
الأول: قدرةُ الله سبحانه وتعالى وإعجازه فيما خلق من كائناتٍ ومخلوقات، وما يضفي عليها من سماتٍ وأوصافٍ في اختلاف الألسنة وتباين الناس في اللون والميل، واختلاف الكائنات الأرضية الحيّة والنباتية والجامدة وما ينتج من البطون الجامدة والحيّة.
الثاني: دعوة الإنسان إلى التبصر والتفكير، لأن عدداً من هذه الألفاظ اللونية قد سُبِق بقوله تعالى: "ألم ترَ أنّ اللهَ.." وفي هذا دعوةٌ صريحةٌ للنظر بالعين، والتفكير بالعقل، والتبصر بالقلب، لدراسة هذه الظاهرة التزيينية دراسةً واعيةً نستخلص منها العبرة والموعظة، ونقرَ فيها للخالق بالتفرد، والإبداع والإعجاز.
الألوان في القرآن الكريم:
في القرآن الكريم ستة ألوان هي الأخضر والأصفر والأبيض والأسود والأحمر والأزرق، كما أن هناك ألفاظاً أخرى تحمل معاني الألوان من دون لفظها، كألفاظ: (أحوى) و(مدهامّتان) و(وردة كالدهان) وتدخل الدراسات الحديثة (النور والظلام) ضمن أبحاث اللون، وهو كثير في القرآن الكريم، يرمز إلى الخير والشر، والإيمان والكفر، والحق والباطل. وقد ارتبط النور في الأذهان بالإيمان، والظلام بالظلم والكفر.
اللون الأخضر:
اللون الأخضر من الألوان المريحة المحببة للنظر، ومنها ثيابُ أهل الجنة، وهو رمزٌ دائمٌ للحب والأمل والخصب والخير والنماء والسلام والأمان، وقد ورد في سبع سورٍ ثماني مراتٍ هي:
"وأخرجنا به نبات كل شيءٍ فأخرجنا منه خضراً" الأنعام- 69.
"الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون" يسن- 36.
"إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ يأكلهن سبعٌ عجافٌ وسبع سنبلاتٍ خضرٍ وأُخَرَ يابسات" يوسف- 42.
"أَفْتِنا في سبع بقراتٍ سمانٍ يأكلهن سبعٌ عجاف وسبع سنبلاتٍ خضرٍ وأُخَرَ يابسات" يوسف46.
"متكئين على رفرفٍ خضرٍ وعبقريٍ وحسان" الرحمن- 55.
" عاليهم ثيابٌ سندسٍ خضر واستبرق" الإنسان - 21.
" ويلبسون ثياباً خضراً من سندسٍ واستبرق" الكهف- 31.
" ألم نرَ أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرةً" الحج- 63.
والتدقيق في ألفاظ هذا اللون يثبت أن اثنين من هذه الألفاظ الثمانية قد ارتبطا بلون ثياب ومجلس المؤمنين في الجنة، بينما اقترنت الألفاظ الباقية بالنبات، ليدلّ دلالةً واضحة على قدرة الله المطلقة في الخلق، والاعجاز في الإخصاب.فالنبات الأخضر ينبتُ من الأرض، والأرضُ تستمدّ ماءها من غيث السماء، لتنبت من كل لونٍ وطعمٍ ورائحةٍ بأبهى حللٍ ، وتروق النظر، وتنعش النفس، وتبعث فيها الأمل والحياة " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج" .
حتى لكأننا نرى مهرجاناً حقيقياً زاخراً بالألوان والأشكال ، وكلها مبهجٌ وجميلٌ، يلذّ الأعين والأحاسيس، موّار بالحركة ، متسع الرقعة ،متناسق التكوين والتلوين منعش الرائحة ، وهذا كله من نعم الخالق الباهرة التي تتجاوبمع روح الكون الكبير، وتعبّر عن المعاني النفسية والفكرية والاجتماعية التي لا تخطر على بلا البشر في استخدام الطببيعة للتعبير عن تلك المعاني الإنسانية الحيّة لا تخطر على بال البشر في استخدام الطبيعة للتعبير عن تلك المعاني الإنسانية الحيّة وتوضيحها ، وهي من الوفرة في القرآن الكريم بحيث تظهر ندرتها في الشعر العربي ، كما تظهر مدى الخسارة التي أصابت الفن العربي نتيجة لعدم استمداده من الرصيد القرآني المذخور ، ومدى ما كان يمكن أن يكون عليه من الثراء والغنى ، فيما لو أنه اتجه إلى الكتاب الكريم ، ورصيده الفني ، واستمّد منه الوحي والتوجيه .
اللون الأصفر :
الأصفر لونُ الذهب الإبريز، ونور الشمس ، يتجلى واضحاً عند الغروب في السماء والآفاق ، وهو لون النار والزرع اليابس والناضج ، يتميز بخصائصه الجمالية ، التي تسيطر على الأحاسيس البشرية والمشاعر العاطفية ، استعاره الإنسان منذ القديم للقداسة والتعبير عن المشاعر السامية والغامضة .
وقد ورد لفظ اللون الأصفر في القرآن الكريم خمس مرات:
" قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها" البقرة - 69.
" إنها ترمي بشررٍ كالقصر . كأنه جمالة صفر " المرسلات -33
"ولئن أرسلنا ربحاً فرأوه مصفراً لظلّوا من بعده يكفرون " الروم - 51.
" ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً " الزمر - 21
" ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً " الجديد 20
وقد ارتقى مدلول هذا اللون إلى أرقى ألوان الجمال اللوني، حيث وصف الله تعالى به البقرة الصفراء الفاقع لونها بأنها تسر الناظرين إليها، وهذا يعني أن أجمل الألوان في البقر هو الأصفر، وقد يجد فيه الجزارون أطيب اللحم بالنسبة للبقر الذي تلون جلده بغير هذا اللون.
وإذا كانت الصفرة في البقر تسر العين، فإنها في الآيات الباقية، تدلّ على المرض والموت ونهاية الحياة، وقد استفاد المتخصصون في علم الجمال، وفيزيولوجيا اللون من هاتين الخصيصتين. (جمال المنظر، والدلالة الحزينة)، وطبقوهما على كثيرٍ من الدراسات المعاصرة. لذلك قالوا: إذا كان الأصفر هو لون الذهب والشمس، والغروب الجميل فإنه أيضاً لونُ الخريفِ، نهايةِ ا لحياة، ولونُ الصحارى القاحلة، ولونُ الجسم مع الأمراض المزمنة، وغير ذلك من الموحيات المؤثرة التي تثير الأسى في النفس.
اللون الأبيض واللون الأسود:
اللون الأبيض، لونُ الصفاء والنقاء، والهداية والحب. والخير والحق والعدل والجلاء. وإثارة المشاعر الإنسانية النبيلة، وهو لونٌ تعبيريٌ في الدرجة الأولى، كما هو لونٌ رمزيٌ. وقد ورد في القرآن الكريم إحدى عشرة مرةً، وعكسه اللونُ الأسود الذي كثيراً ما يعبر عن الظلم والظلام والضلالة والإثم والحقد والغضب والكذب، وقد ورد في الكتاب العزيز سبع مرات كما ورد لفظا الأبيض والأسود في أكثر من آية جنباً إلى جنب لإظهار مفارقةٍ بين ضدين كالحق والباطل أو الإيمان والكفر أو لبيان مقدرة الله تعالى في الخلق. وألفاظُ البياض والسواد نجدها في الآيات الآتية:
"وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله" آل عمران- 107.
"وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم" يوسف- 84.
"يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه" آل عمران- 106.
"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود" البقرة- 187.
"ونزعَ يده فإذا هي بيضاءُ للناظرين" الأعراف- 108.
"واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى" طه- 22.
"ونزعَ يده فإذا هي بيضاءُ للناظرين" الشعراء0 33.
"وأدخلْ يدك في جيبك تخرجْ بيضاء من غير سوء" النمل- 12.
"اسلك يدك في جيبك تخرجْ بيضاء من غير سوء" القصص- 32.
"يُطافُ عليهم بكأسٍ من معين. بيضاء لذة للشاربين" الصافات- 46.
"ومن الجبال جددٌ بيضٌ وحمرٌ مختلفٌ ألوانها وغرابيب سود" فاطر- 27.
"فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم" آل عمران- 106.
"وإذا بُشِّرَ أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم" النحل- 58.
"وإذا بُشّرَ أحدهم بما ضَرَبََ للرحمن مثلاً ظلّ وجهه مسودّاً وهو كظيم" الزخرف- 17.
"ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة" الزمر- 60.
إن دلالة اللون الأبيض في الآيات الكريمة توحي بالإيمان والحزن الصادق، كما تشير إلى ميقاتٍ زمني يحدد بدء شعيرةٍ تعبّدية، واللون رمزٌ للنقاء والصفاء والطهارة، وصفةُ شرابِ أهل الجنة.
وهو في الطبيعة لونٌ متميز من صخر الجبال "جدد بيض وحمر.." يدل على مقدرة الخالق في الحجر الذي تعدّدت ألوانه.
واللون الأبيض في كل ذلك محبب مريحٌ للنفس على عكس اللون الأسود، وما يوحي به من قتامةٍ وكآبةٍ وألم نفسي.
والوقوف عند اللون الأبيض، يرينا أنه قد ورد ثماني مراتٍ مترافقاً بأعضاء جسم الإنسان منها خمس لليد، واثنان للوجه، وواحدة للعين.
أما اللون الأسود الذي ورد في الآيات الكريمة سبع مراتٍ، فإن منها خمساً اقترنت بالوجه لتجسيد حالةٍ محددةٍ يتصفُ بها الكفار والذين في قلوبهم مرضٌ، وتعبيراً عن حالة من الاكتئاب النفسي تنعكس على الوجه بشكلٍ خاص لأنه مرآة النفس والروح، الظاهرُ للعيان، حيث لا يمكن إخفاء ملامحه وتعابيره.
واختيارُ الوجه لتنعكس عليه الحالة النفسية من دون غيره من أعضاء الجسم، فيه حكمةٌ بالغةٌ، ليُعبّر عما في الجوانح من أحاسيس وهمومٍ وخوفٍ وألم. وهذه الصورةُ الإنسانية الكئيبة التي تصور حال الكافرين من شأنها أن تفعلِ فِعلها المؤثر في النفوس، فتعمل على التنفير من الأخلاق الذميمة، ونكران الجميل، والظلم، والكفر والكفران بنعم الله التي لا تعد ولا تُحصى. ولعل هذا اللونَ القاتمَ الحالكَ قد ارتبط بالظلم، إذ بين الظلم والظلام أشياء كثيرةٌ مشتركةٌ في المعنى والدلالة واللغة، وله تأثير بالغٌ في زرع الرهبة في نفوس من بتوعدهم النص القرآني بوخيم العاقبة. والظلمُ ظلماتٌ يوم القيامة.
اللون الأزرق:
إن الله تعالى، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرّمه على جميع مخلوقاته، ووصف في الكتاب العزيز بأحسن النعوت وأجملها، حين يكون إنساناً سوياً يقيم أسسَ الحب ويزرع الخيرَ والعدل في الأرض، ويرتفع بأفكاره وغرائزه عن الدنايا.
ولكن هذا الإنسان، حين ينحرف عن جادة الحق والصواب، ويسير في دروب الضلال والظلم، فإن القرآن الكريم يقف منه موقفاً آخر، إذ يعرض في لوحةٍ مجسمةٍ، نفسيةٍ وخلقيةٍ، منفّرة، تنافي جوهر الجمال ووظائفه، فيستخدم، اللون الأزرق في وصف ما يؤول إليه حال المجرمين يوم القيامة. يقول تعالى: "يوم يُنفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذٍ زرقاً" طه- 102. والصورة على جانبٍ كبيرٍ من الإيحاء. لأن منظر عيون المجرمين (عمياناً)- وهذا ما أوحت به كلمة (زرقاً) للمفسرين- من الخوف، ووجوههم المسودة من الضلال والكفر تجعل الإنسان يخاف عاقبة إجرامه، وتجعل المؤمنَ أشدّ تمسّكاً بأهداب الدين ليضمن العاقبة الحسنة والنجاة من أهوال العذاب يوم الحشر.
كما أن مجيء لفظ اللون الأزرق في هذه الصورة المخيفة، كان على عكس ما يراه علماء اللون، الذين وجدوا فيه لوناً بارداً، ورموزاً للصداقة والحكمة والتفكير والخلود والسعة والهدوء والسكينة والوقار، وبرودة الليل.. إضافة إلى الحقيقة المنطقية التي وُجد عليها هذا اللون، إذ هو أكثر الألوان انتشاراً في الطبيعة، لأنه لون السماء الصافية ولون البحر، ولو أن المهتمين فكروا- بعد تدبر الآية الكريمة- لتغيرت نظرتهم، واستفادوا من مدلول اللفظ القرآني.
إن التربية الحديثة، قد أولت اللغة عنايةً خاصةً، ورأت أن اعتمادها على اللون إضافةً إلى المؤثرات الأخرى. لها دورٌ كبيرٌ في العلم والمعرفة، لأن الإنسان لا يستعين بلغةٍ ملفوظةٍ أحاديةِ المعنى والدلالة، وإنما لابد من الاستعانة بلغةٍ ثانيةٍ، ليست لفظيةً بالمعنى المصطلح عليه، حيث تساعده هذه الأخيرة على التصور بشكلٍ أكثر دقةً ووضوحاً وتجسيداً "وتعد اللغة المسماة غير اللفظية- ومنها مدلول اللون الأزرق في الآية الكريمة- أكثر مرونةً في حالاتٍ عديدةٍ. لأنها تخضع لبعض ما تخضع له اللغة من قيود، وبذلك تتيح مجالاً واسعاً للتفكير، وعلى هذا إذا كانت اللغة اللفظية وعاءً للفكر، فإن اللغة غير اللفظية تعد وعاءً آخر له. ويتيح التجسيد الفني- من جانب آخر- للعمليات العقلية والمعرفية، القيام بدورٍ فعّال حين تجد اللفظ مقترناً باللون وهما يشكلان صورةً حيةً ومركبةً، تتمكن من القلب والعقل معاً.
والكتاب الكريم عندما أتى بهذه اللفظة في مكانها المتناسق، فإنه يقدم صورة معجزة من صور الإعجاز البلاغي.
اللون الأحمر:
لم يرد اللون الأحمر في القرآن الكريم بلفظهِ الصريح سوى مرةٍ واحدةٍ مزروعةٍ بين اللونين الأبيض والأسود في الآية 27 من سورة فاطر: "ومن الجبال جددٌ بيضٌ وحمرٌ مختلف ألوانها وغرابيب سود" كما وردت في لفظ آخر لتدلّ على لون السماء حين تنفرج أبوابها لنزول الملائكة في قوله تعالى: "فكانت وردةً كالدهان" الرحمن- 37، ولونُ الوردة هنا يدل على لون الجلد، كنايةً عن عظم هول يوم القيامة.
ولونُ الحمرة الصريح في الآية الأولى يقع ضمن سياقٍ متناسقٍ تناسقاً فنياً فريداً من التصوير الرائع، حيث تتوزع الألوان في رقعةٍ حجرية من الأرض، وفيها ما يريح النظر ويبعث المتعة في النفس الإنسانية، ويأخذ بها إلى التأمل والتفكير في براعةِ الخالق وقدرته العجيبة "فتبارك الله أحسن الخالقين".
وظائف الألوان في القرآن الكريم:
إن ورود ألفاظ الألوان بهذا العدد في كتاب الله، يشكل ظاهرةً لافتةً للنظر، ويضع الإنسان المتبصر أمام واجهةِ الطبيعةِ الواسعةِ في الأرض والسماء، والكائنات التي تتحرك ما بينهما، ليصور الكون والحياة والإنسان من خلال مهرجانٍ زاخر بالحيوية، موّارٍ بالحركة غنيٍ بالجمال، حيث تغدو ألوانُ الطبيعةِ بمثابةِ مظهرٍ تزييني احتفالي، تعكس في جوانبها أسرار الوجود والبقاء والنماء والخصب، وهي تكون بذلك لذةً للعين وراحةً للنفس، ومدعاةً لإعمال الفكر. لتحقق - بجانبيها المادي والمعنوي- وظائف متعددة لم يفطن إليها الشعر العربي القديم على الرغم مما ورد فيه من التدبيج في ألفاظٍ لم تكن أكثر من حليةٍ لفظية في الغالب، ولم يدخل اللون- على حد تعبير الدكتور نعيم الياقي في الصورة الفنية - "كعلاقةٍ تنمّ عن رؤية تعبير مرتبطةٍ بوظيفةٍ معينةٍ ووعيٍ ذي دلالاتٍ موحية.. ولعلنا نستطيع تمييز عدة وظائف للون القرآني أهمها:
1- الوظيفة التعبيرية:
وقوامُها اللفظ الصريح، الذي يحمل معاني كبيرةً مشحونةً بطاقاتٍ هائلةٍ من التعبير. ، تثير المشاعر، كالبهجة والفرح والمتعةِ والحزن والخوف والرهبة.
2- الوظيفة الرمزية:
وقوامُها اللفظ الموحي، الذي يمكن أن يُحدث استجابةً نفسيةً بشعورٍ ما يحرك عواطفَ الإنسان ويدعوه إلى التأمل والتفكير والتدبر، كما في قوله تعالى: "الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً، فإذا أنتم منه توقدون" فاللون الأخضر الذي يرمز للخصب أولاً وللحياة واستمرارها ثانياً جعل منه وقوداً للاحتراق والموت، وجعله متناسقاً متناغماً مع سياق الآيات قبله، والتي يستنكر فيها الكافرون قدرةَ الله على البعث وإعادة الحياة إلى الأموات "وضرب لنا مثلاً ونسيَ خلقهُ، قال من يحيي العظام وهي رميم".
3- الوظيفة الحسية:
وقوامها تأثّر العينِ، والعينُ وسيلةُ الاتصال المباشرةُ مع الكون والكائنات، يجذبها اللون في الطبيعة بجماله وكماله وتناسقه وتنوعه، مما يجعل الإنسان يتعاطف مع ما يريح ناظريه ويسعد نفسه، ويتخذه وسيلةً لمتعته، ويساعده على تحقيق تواؤمٍ وتوازنٍ في الأشكال والمرئيات التي يأنس إليها.
وقد عملت الألوان في النبات وأزهاره، على جذب الحشرات للوقوف على ألوانها لامتصاص الرحيق ومن ثم لنقل أعضاء التذكير إلى المؤنثات النباتية، وصنع العسل الذي فيه شفاء للناس.
4- الوظيفة الجمالية التزيينية:
إن الجمال واحدٌ من القيم الخالدة الثلاث، الحق والخير والجمال والتي شغلت الفكر الإنساني منذ فجر الخليقة. وجاءت الرسالات السماوية لتؤكدها وتلحّ عليها، وقد وردَ لفظُ الجمال والجميل في ثماني آياتٍ، بينها لفظٌ حسيٌّ واحد "ولكم فيها جمالٌ حين تريحون، وحين تسرحون" والألفاظ السبعة الأخرى تتحدث عن الجمال المعنوي والخلقي، مقروناً بأنماطٍ شتى من السلوك البشري، كالصبر الجميل، والصفح الجميل، والسراح الجميل، والهجر الجميل.
ولقد رأى بعض الباحثين أن ثمة تعارضاً بين (الفن) الذي يتحرى الجمالَ في كل شيءٍ من دون أن يتقيد بشيءٍ، لأن الفن تحليقٌ وهيامٌ طليق، وسباحةٌ في عالم الخيال، وبين (الأديان) التي لا تعترف بغير (الحقيقة) المقيدة بضوابط المنطق والفكر، لكن هذا الرأي لم يثبت أمام معطيات الدين التي تلتقي في حقيقة النفس بالفن، فكلاهما انطلاقٌ من عالم الضرورة، وكلاهما شوقٌ مجنّحٌ لعالم الكمال، وهما يتآلفان ويلتقيان معاً في أعماق النفس البشرية.
والحديث عن الجمال يقود الذهن إلى (الزينة) التي وردت في مواضع عدة في الكتاب الكريم: "قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" الأعراف 32. وقوله تعالى:
"حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت.." والزينة جمالٌ، والجمالُ عنصرٌ جوهريٌ في بناء الكون، وقد وردَ في الأثر: "إن الله جميلٌ يحب الجمال" والنفسُ الإنسانيةُ التي تسعى إلى الإيمان الكامل، تعيش الجمال وتتملاّه، وترى فيه صفةً جوهريةً، تنطلق منها إلى آفاق السمو والكمال البشري.
وفي قوله تعالى: "ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح" والمصابيح هي النجوم، والنجوم زينةٌ ونورٌ، والنورُ أيضاً ضربٌ من ضروب اللونِ، والزينةُ حليةٌ ماديةٌ ولفظيةٌ، فيها جمالٌ متجددٌ، تتعدد ألوانه وأوقاته ويختلف من ليل إلى ليل، ومن فجرٍ إلى مساء، من أغراضها أن تجذب الإنسان إلى إمعان الفكر، والنظر في دقيق صنع الله وعجيب خلقه وروعة إبداعه في ألوان الجمال. وكذلك الأمر بالنسبة للآيات التي وصفت وجوه الكفار بالسواد، وعيونهم بالزرقة، فإننا نجد اللون قد أضحى وسيلةً مؤثرةً تأثيراً معنوياً نفسياً، لتقدم صورةً عن فئةٍ لم تكن تبصر جمال الله في الكون والخلق، فكانت الصورة الحزينةُ مساويةً في التأثير لتلك الصورة المفرحة المتألقة التي وصف الله بها (في الآية نفسها) وجوه المؤمنين بالبياض.
إن وظيفة اللون الجمالية والتزيينية، عملت على توضيح الصورة وإبراز الفكرة، وتعميق المعنى وبلاغة التعبير، والتأثير في التشويق أو التنفير، وفي الترغيب والترهيب، وهي بذلك توقظ القلب، وتنبه الحواس، وتثير الشهية للتذوق، بما ترسمه من تنميقٍ وتنسيقٍ وتصويرٍ وتدريجٍ في الظلال والإيحاءات، حيث تحقق عوالم فريدةً ومتكاملةً فيها البلاغة والإعجاز، ومنها تؤخذ العبر.
خاتمة:
إن ظاهرة اللون في القرآن الكريم، ظاهرةٌ هامةٌ من مظاهر الإعجاز في كتاب الله نظراً لما تقدمه للإنسان من دلالاتٍ نفسيةٍ. وبما تثيره من مشاعر وأحاسيس تبعث على التفكير والتدبر. وهي بحاجة إلى مزيدٍ من البحث والاستقصاء، وحسبنا- في هذه الإطلالة -أن نكون قد وقفنا عليها للتنبيه على أهميتها أولاً، ومن ثم للذكرى، ولعل الذكرى تنفع المؤمنين.
إشارات
1. اعتمد الموضوع على القرآن الكريم بالدرجة الأولى كمرجع ومصدر وحيد نظراً لجدّتة.
2. كما اعتمد على تفسير جلال الدين السيوطي.
3. والقاموس المحيط للفيروز أبادي.
4. والمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم تأليف محمد فؤاد عبد الباقي. القاهرة- 1985-( كما استفاد من بعض الكتب الحديثة ومنها
.
5. كتاب الرسم واللون. تأليف محيي الدين طالو- دار دمشق.
6. كتاب منهج الفن الإسلامي.
7. شعر الأطفال في سورية- تأليف محمد قرانيا- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1996 وخاصة بحث: (اللون في شعر الأطفال).
8. كتاب تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث. تأليف: د. نعيم اليافي- اتحاد الكتاب العرب. دمشق 1983.