«كلام منحى» لزليخة أبو ريشة .. سلطة اللغة وهندسة المعنى فـي المثلث
عندما قرأت مجموعة الشاعرة زليخة أبو ريشة «كلام منحى» قفز إلى ذهني العديد من الأسئلة حول قراءة الشعر وكتابته
لماذا تكتب المرأة الشعر؟
كيف تقرأ قصيدة المرأة؟
وربما يكون في طرح السؤال الثاني تحصين من الشبهة التي يمكن أن يقع فيها السؤال الأول إذا فهم على محمل التمييز، خصوصاً وأن «لماذا» يقع في مجال التساؤلات النقدية التي لا يركن اليها، فيما (الكيف) يتعدى الوصف، ويخرج عن التصنيف إلى اقتراح منهجية للقراءة النقدية التي تحول دون الرؤية المقلوبة أو المعكوسة، أو القراءات التي تنطوي على آراء مسبقة.
ومن هنا فثمة درجة من (التمايز)، وليس التمييز بين (لماذا) و (كيف)، ذلك أن الأولى تمتلك حرية ذاتها وخياراتها، أما الثانية فهي تسعى الى تعميق فاعلية أدواتها، وتعزيز موضوعيتها.
أجدني قد تورطت في هذه المقدمة التي لا تخلو من تبرير توضيحي، لأن قراءة إبداع المرأة لا يخلو من إشكالية تحتاج معها إلى دقة اختيار السؤال، وهي إشكالية تاريخية وثقافية معقدة، يتداخل فيها الاجتماعي والأسطوري والرمزي والحضاري والديني،
وإن كتابات زليخة أبو ريشة الإبداعية والبحثية لا تخلو من مساحة للجدل أو الإشكال التي تتصل باللغة، ومفهوم أدب المرأة، والحرية.
وأجدني مرة أخرى أوضح استهلال السؤال بكيف، لأنه يتعلق بأداة التعبير والكتابة التي وضعت فيها المرأة تاريخياً في المعنى.
والسؤال : كيف نقرأ أدب المرأة في ظل الشراك التي تنصبها اللغة التي تطورت تاريخياً في سياق قوانين المجتمع الذكوري، واجبرت المرأة على التخلي عن ذاتها مقابل احتوائية السلطة الذكورية، وأن تتنكر لجسدها وعقلها ومشاعرها، وتطور لغات وسلوكات تقع بين الإيماء والصمت كتعبير عن اللارفض والولاء الاستجابي الساكن (السلبي) لمواجهة النسق الثقافي، في المجتمع القبلي الذكوري (الفحولي) الذي حول المرأة الى حاجة حسية لا عقلانية قابلة للتداول والملكية وتضعها خارج دائرة المجتمع وبنائه الحيوي، وخارج لغته.
ف «المرأة محجوبة عن حيز كبير من اللغة، وليس لها سوى بعض اللغة، مثلما ان ليس لها سوى بعض العمر، وبعض الحياة» (١)
وهي بهذا المعنى، لا تنتج الكلام (اللغة)، وانما تستقبله، فهي ارض للاستزراع والاستنبات والاستكثار، والصمت هنا معادل للفراغ او البياض الذي يكتب عليه (×) وعنه، والصمت في عرف مجتمع النسق الذي أنتج المثل الشعبي هو حسنة وميزة للمرأة الصالحة: «لا من ثمها، ولا من كمها»، «إلها ثم ما إلها السان»، وأن فصاحة المرأة توصف بالثرثرة، فيما العقل والذكاء ليس أكثر من كيد ودهاء: «النساء أحابيل ابليس»
ويعزو المجتمع الذكوري ذلك الى أن عقل المرأة لا يمكن أن يمتلك الفصاحة، لأن عقلها دون عقل الرجل، وإذا تيسر لها ذلك فإنه يعزى للرجل « بنت الرجال شاورها، شورها من شور أبوها»
«ان الثقافة النمطية، تحرم الجسد المؤنث من حقه اللغوي، العقلي
وتحصره في حقل دلالي واحد لا يغادره، ولا يخرج عنه إلا الى متاهات الإقصاء والإلغاء» (٢)
تمرد الوعي
قبل الحديث عن ديوان الشاعرة زليخة أبو ريشة لا بد من القول إن وعي الوهم يخلق وعياً متمرداً، متصادماً مع النسق، ومضاداً له للبحث عن الذات في فضاء اللغة، وبالتالي فإن قصيدة «كلام منحى» لا يمكن فهمها بعيداً عن الوعي الذي أنتجها، وبعيداً عن النسق الثقافي الذي أنتج صورة المرأة في اللغة، وقد تجلى هذا الوعي عند الشاعرة زليخة أبو ريشة التي وجدت في اللغة ذاتِها أداةً لحريتها، ومقاومة حصاراتها وعزلها. وفي هذا السياق يمكن تبرير المقدمة النظرية التي اسُتهلَت بها هذه الورقة، ويمكن فهم «المنهج الثقافي» لقراءة مجموعتها الصادرة العام ٥٠٠٢ عن منشورات امانة عمان الكبرى. بعنوان «كلام منحى». (٣)
ومن المهم التوقف عند العنوان الذي يحمل خطاباً فنيا وجمالياً وفكرياً، فقد جاء العنوان في كلمتين: مبتدأ وخبر ليلخص المتن الكلي، وينطوي على دلالة مهمة تقوم على مفردتين متكاملتين، الأولى: ابتدائية، عامة، والثانية: استدراكية تخصيصية للتركيز على مفهوم الكلام ودلالاته.
فالكلام يرتبط بالشفهية والخصوصية والقصدية، ويحمل زمن قائله، وصفاته، كما أن الشفاهية تتصل بنمط خطاب المجتمع القبلي وسماته التي لم يكن ينفصل فيها القول عن قائله.
ويتصل الكلام بالمشاعر الجوانية والحميمية والبوح والعفوية، كما يرتبط بطريقة الإلقاء التي تميز قائله في مخارج الصوت بين القوة والضعف، والمد والقطع والترخيم، والخفوت والتلوين والتنغيم والتطريب، والسرعة والبطء ، والفرح والحزن.
والكلام غالباً ما يقع خارج التدوين، وهو جزء من اللغة التي تنطوي على الاشارة والرموز والايماءات والعلامات والصمت، يدلل على القداسة.
أما المُنحى المشتق من النَحو فهي مفردة تقوم على مصدرية لضبط بناء الجملة، والإفصاح عن معناها، وهو أس اللغة التي تتكون من عدد من الأنظمة والنحوية والصرفية واللسانية التي تميز بين الفصاحة واللحن، ويقابلها الافصاح لمطابقة الكلام للمعنى.
وفي تجاور المفردتين وتتابعهما (المضاف والمضاف اليه) دلالة اقتران دائرتي الذاتي والموضوعي، ذاتية الكلام، وموضوعية النحو، وهي مجاورة تملكية يقصد منها السيطرة على اللغة، وفي المقابل التمرد على
أنماطها القهرية بإشباعها بكلامها وذاتها التي تتحول فيها المرأة من اداة للتوصيف والتشبيه إلى ذات منتجة للمعنى، تساهم في صنع اللغة بالطريقة التي تعادل فيها انوثتها حضورها الإنساني.
اللغة والنسق الثقافـي والشعر
إن الشعر كأداة تعبير تتصل باللغة يظل أكثر الفنون التي يتجلى فيها الجدل حول إنتاج المعنى واللغة ذاتها، والكشف عن جوهر الوجود، وفهم مغزى التاريخ وحركته.
وربما هذا ما يفسر ارتباط الشعر في المجتمع القبلي بالفحولة التي تستمد دلالتها من النص الذكوري، وأن المرأة حتى لو قالت الشعر فإنها لا ترتقي الى فصاحة الرجل وفحولته، بل إن توصيف المرأة بالفحولة يجيء من باب التندر والذم وليس من باب المدح والثناء.
سلطــــــة اللغـــة
ترتبط الفحولة في مجتمع الكثرة والانجاب كقوة لحماية القبيلة. وهو مصطلح يمنح من خارج نظام اللغة، حيث يستعار من نظام مملكة الحيوان للإعراب عن القوة الجسدية، والانجابية (الجنسية)، ويتصل بنسق يقوم
على الثروة التي تميز مكانة الرجال في القبيلة، لتكون اللغة هي نتاج تحالف الكثرة والثروة التي تدلل على السلطة في المجتمع القبلي (الرعوي) الذي لم تكن الارض (المكان) جزءا من حسابات الثروة فيه، فيما عادت المرأة في مجتمع الكثرة مظهراً من مظاهر الثروة والجاه التي كانت تتحقق عن طريق الملكية بالزواج أو السبي والغنيمة. وبهذا المعنى فإنها لم تكن جديرة بامتلاك القوة - اللغة - وإنما كانت القوة (السلطة) هي التي تمتلكها، وتمارس عليها فحولتها رغم ما يجتمع بينهما من صفات التأنيث. وفي المحصلة فإن المرأة لا تقول القصيدة، وانما هي غرضها.
وفي عنوان المجموعة الشعرية ثمة خروج وتمرد على الوعي الذي يصادر حق المرأة في امتلاك لغتها، وإعادة توصيف (الفحولة) من داخل النص (القصيدة)، وليس باستعارتها من أنظمة تقع خارج اللغة. فهي تُذَوِت القصيدة وتظللها بمشاعرها وأحاسيسها وعواطفها الإنسانية كمرادف أنثوي لإنتاج المعنى من خلال مقاربة بين وظيفة الشعر ومكابدة الإنسان وقلقه الوجودي في بحثه المستمر عن مصيره ومغزى حياته.
«الخطاب الشعري المعاصر اصبح يمثل مركز تصادم الأفكار والتيارات والتجارب، وانتقل النص من بنيته السطحية المباشرة فينقل المعنى الى نص قابل لجميع التأويلات والمحمولات». (٤)
فالشاعرة زليخة أبوريشة تفصح عن جدل يتصل بالذات والكون في تشاكلهما وتصادمهما للكشف عن مأساة الإنسان، التي لا تخلو في جزء كبير منها من قهر الإنسان للإنسان عبر تقسيماته الوهمية، وأنساقه النمطية التي تؤسس عليها النسق الثقافي الذي اقصى المرأة خارجه كما يقول سيجموند فرويد: إن الحضارة الإنسانية ليست سوى تراكم الكبت والتسلط على الإنسان، وربما مثل هذا الجدل هو الذي دفع الكثير من النقاد في الغرب الى النظر للأدب التقليدي (الكلاسيكي) بوصفه سلطة قهرية يتأسس عليه الأدب العربي المعاصر الذي يتسم بنزعة مركزية مشيرين إلى ضرورة الاهتمام بأدب الأقليات والعالم الثالث وأدب المرأة.
«ان العديد من كتب الأدب يحسن بها ان تسقط عدداً من الكلاسيكيات التي كتبها (رجال بيض موتى) ليفسح المكان لإدراج عدد من كتب النساء والسود وكتاب العالم الثالث». (٥)
ولعل اختيار العنوان «كلام منحى» هوعودة إلى توصيف اللغة باللغة، وتعريف الأشياء بذاتها، لقراءة النص بمقدار تشبعه بالأنوثة كما يتشبع بالفحولة إذا جاز التوصيف، فالقصيدة تجربة إنسانية، تعرف بإيقاعها، ولغتها وصورها، وتوترها وجمالياتها، فالشعر كما تقول د. سلمى الجيوسي يتطور وفق أنظمة خاصة به، وبالتالي فإن مقايسة (فصاحة) القصيدة لا تتم باستعارة أنظمة وأنماط تقع خارج سياقاتها.
وتعرف الشاعرة زليخة أبو ريشة الأشياء من خلال ذاتها، لتأنيث اللغة ومنحها ملامح جسدها كجزء من بحثها عن الحرية في مواجهة الحصار الذي يحيط بها نتيجة خواء المعنى الذي لا تستطيع فيه المرأة معرفة ان كانت في اللغة ام خارجها، حاضرة أم غائبة، لتختزل القصيدة رحلة معاناة المرأة بإزاء سلطة اللغة التي كرسها المجتمع في الشكل والمعنى والمفردة، وربما هذا ما يفسر اصدارها لخمس مجموعات شعرية مقابل كتاب واحد حول اللغة الجنسوية والجندر:
«كان جسداً
ذلك الذي كان بين يدي
كان يفيض عن جسد واحد ولا يشف الا
عن نعاس وانخطاف ملول
فوقنا كان من موته رشش
كان يقصي حضوره في الحواس
..... .......
لم نكن لعمق انشغالنا بطراد صرخاتنا في خواء المعاني
نميز من يفوح
نحن في الزبد
أم تلك الحقول
عبثا يأتي الكلام
ولا صمت..
لا دموع تأتي.. ولا باب يمحو كلاماً
..... .......
بياضي يحاصرني
وأنا أستعيد لي جسداً ضاع في بياض مقفى
وتهيأت أن أسترد يقظته من
غرفة بحر ضمني
...... .......
إنني الآن وحدي
خلفي مراحل من مفازات نعمى
وقدامي البحر يصطاد أمواجه». (ص ١٣)
إعادة تشكيل اللغة
إن تجاور مفردتي العنوان الذي جاء تاماً في معناه لم يشكل حالة من الطمأنينة، بمقدار ما أثار جدلاً بين الذات والموضوع، وتصادماً بين رغبة الحرية وقيود الاستبداد، فالعنوان يحمل المعنى ونقيضه في آن واحد - الإفصاح ،البعد- ينطوي على خصوصية ذاتية وشفاهية تعبر عن رؤى فنية وجمالية وأخرى فكرية متعددة ومتداخلة تقترب من منطقة الالتباس الذي يوحي به غموض الفضاءات الجديدة.
«البنية اللغوية التي تتسم بالاحتمالية والتعدد، ..، تسمح للنصوص الأخرى والأصوات بالنفوذ الى الداخل ، كما يتقدم فيها المدخل (المبتدى) والمنتهى» (٦)
ومن هنا فإن العنوان لم يقصد منه أن يكون علامة لإغواء القارىء حسب، وإنما دليل لكيفية قراءة النص - القصيدة - التي تنطوي على عدد من الخطابات التي تصدر عن الذاكرة (التاريخ)، العقل (الفلسفة)، الخيال (الفن) التي تنصهر فيها اللغة والأنثى والطبيعة كمرادفات للنص الغائب، أو الذي تم تغييبه، وإنتاج وعي يتمرد على الذكورة التي اغتصبت الذاكرة والتاريخ والفن، وليس من المصادفة أن ترتبط المحاولات التجديدية الأولى في القصيدة العربية (التقليدية) بالشاعرة (المرأة) نازك الملائكة انطلاقاً من موضوع اللغة، ثم الشكل، وتزامن ذلك مع حراك اجتماعي وثقافي يتصل بالانفتاح على الأدب الغربي، وبروز قضايا الحرية والتطور التكنولوجي وظهور قضية المرأة، والتيارات الفكرية الحديثة التي عكست ظلالها على الأدب.
وبدا من الواضح أن القصيدة الحديثة قد تخففت من قيود القصيدة التقليدية بالمقدار الذي تزحزح فيه المجتمع التقليدي (القبلي) نتيجة اتساع التعليم والعمل وتطور وسائل الاتصال والتشريعات، والتيارات الفكرية، ولم يغير التحول من المجتمع القبلي الى المجتمع (الحداثي) واقع المرأة، بل عملت ديناميات السوق وقوانينه، والنزعات الاستهلاكية على تعميق ازمتها التي جعلت من جسدها مجرد صورة وهمية تتناقلها وسائل الإعلام للترويج الاستهلاكي، وتضعها حسب تعبير جان بودريا في (صحراء اللامعنى)، وأعادت انتاج العلاقات السابقة التي أبقت المرأة خارج اللغة.
والواقع أن الشاعرة نازك الملائكة في التفاتها إلى جمود اللغة كانت قد مست العتبة الأولى للإحساس بالمأزق الذي يحاصر الإنسان وهواجسه الوجودية، وكانت العودة إلى الأسطورة والرمز في شعر الرواد ونصوصهم بمثابة استدراكات لا وعي الذاكرة لاستحضار الصور الغائبة او المغيبة تاريخياً. وعمل هذا الاستدراك على انتقال القصيدة إلى فضاءات جديدة تهمل الغرضية التي ولدتها شروط الفضاء المفتوح (اللامكان) وإيقاعاته ومفرداته إلى جوانيات الإنسان.
ومهدت قصيدة الشعر الحر والتيارات النقدية والفكرية، البنيوية والتفكيكية إلى بروز قصيدة النثر التي انتفضت على سلطة اللغة وتمثلاتها الاستبدادية في الأدب، وأضفت على الشعر خفوتاً وإيقاعاً جوانياً، وأنماطاً توالدية تتصل بالسرد الذي يعيد الى المرأة ريادتها التاريخية، ويقرب اللغة من صفة الطبيعة وخصوبتها، التي تمثلت تاريخياً في (المرأة الإلهة)، وعمل استدخال السرد في القصيدة على نزع الصورة التميزية التي تضفي على الشعر صفة الفحولة، لتغدو القصيدة مختبراً لإطفاء السيطرة الذكورية على الشعر، ووسيلة لتطوير اللغة من خلال انسراب المفردة الأنثوية إلى القاموس الشعري واللغوي، فالشعر كما يقول أدونيس ليس مجرد إيقاعات وشكل وإنما هو إعادة في تشكيل اللغة.
ومن هنا فإن قراءة نصوص زليخة أبو ريشة ينبغي أن ينظر إليها وفق هذا التيار الفكري والفلسفي والنقدي الذي يقوم على ثلاثة أضلاع تزاوج بين المرأة والطبيعة والفن في تصادماتها وجدلها مع النسق الثقافي بالمعنى العام.
«يتجلى المأزق اللغوي للعربية في انه تمظهر للمأزق الثقافي الذي يقصي المرأة ويغيبها». (٧)
فهي تؤسس نصوصها على خطاب معرفي تجتهد في دراسته والتنظير حوله من خلال مؤلفاتها وبحوثها ودراستها الاكاديمية، وتسعى الى تفكيك اللغة الذكورية التي تقصي الوجود الانساني للمرأة، وتختزل وجودها في جسدها ضمن أبعاد غرضية ودلالية، وتنطلق زليخة أبو ريشة من وعي وجودي لوحدة الكون الذي يحافظ على توازن الأشياء. وهي وحدة تقوم على جدل الاختلاف والتمايز وليس التمييز، فالتمايز هو حضور ذاتي من خلال الفعل الإنساني الذي يحقق تكامل الوجود وجماله، ويتمثل في القادم الذي يحمل الحرية ويعيد العلاقة المتكافئة بين الذكورة والأنوثة:
«أيها الليلك الذي لم يعد يصب
على مرتفعات الكلام
أيها المضاد المعاد المرجى لحملقة البرق
وجرح الهيولي، وفوضى منابت رضوى
تنمر زهر السنونو
وضحكة ريش العشابا
وفجر إذا ضل.. ضل الصباح
إلى حين يأتي صباح الكلام
أيها الليلك المتصف بسرسبة الوجد..
أيها الليلك
اختلف». (ص١٨)
اللغة (المؤودة)
تشكل القصيدة أداة للبحث في جوهر الوجود، ومختبراً لغوياً للإفصاح عن كينونة الانسان وهمومه وأمنياته، وغموض الكون وأسراره. وحلماً يعيد اقتراح العالم في صورة جديدة تطمئن الروح.
وتحاول الشاعرة زليخة ابو ريشة في ديوانها «كلام منحى» اكتشاف كينونتها عبر استعادة لغتها المسروقة و(الموؤودة) بسبب انحيازات النحاة، الذين ردوا أصل كل فعل إلى المذكر. «إذا كان هناك من تحيز، فإنه ربما لا يعود إلى اللغة، بقدر ما يعود إلى الثقافة النحوية التي من المحتمل أن تكون قد مالت إلى الذكورة».(٨)
وكانت القصيدة في وظيفتها الفنية والجمالية ضرورة حياتية بالنسبة للمرأة لإثبات ذاتها من خلال امتلاكها للغة، وهي ملكية ليست قهرية أو تسلطية، وإنما تصالحية تقوم على تعزيز العلاقة بين اللغة والمرأة اللتين تقعان في دائرة الأنوثة. «النص يعتبر أحد الفضاءات التوليدية والتحويلية للجسد». (٩)
على أن الشاعرة زليخة ابو ريشة لا تريد اجتراح لغة جديدة، وإنما تسعى إلى وقف استبداد اللغة التي صنعها النسق الثقافي، وبنيته التقليدية. وتريد أن تعيد العلاقة الحميمة بين مفردات الطبيعة والقصيدة بإطلاق طاقة اللغة الاحتياطية (المغيبة) والمسكوت عنها، والمساهمة في إنتاج إبداع ينحاز إلى الحرية والجمال والإنسان، ويقف ضد الظلم والقهر الذي طاول تاريخ المرأة وأقصاها عن الفعل الإبداعي.
«إن طريق المرأة الى موقع لغوي إبداعي، لن يكون إلاّ عبر المحاولة الواعية نحو تأسيس قيمة إبداعية للأنوثة». (١٠)
وتقارب الشاعرة بين جوانيات المرأة ومظاهر الطبيعة وفق قراءة معرفية واعية للفكر الإنساني الذي كانت المرأة في مراحله التاريخية القديمة تحظى بالقداسة وتسعى إلى استعادة القيم التي تأسست عليها جماليات أنثوية العالم قبل ان يصيبها الخراب، وتتميزعناوين القصائد بحساسية سوريالية صادمة، تهشم الواقع، وتترك اثراً منه معلقا في الفضاء الواسع، او في الزوايا التي تخنقها الوحدة، وتترك الأشياء تتحدث عن ذاتها بذاتها، كما الصوفي الذي يتماهى مع الكون ليقول صوته وصمته بلغة جوانية تنطوي على غموض وكشف يصدران عن لغة سرية، أو لغة تحمل أسرار معرفة متجلية تطمئن الروح بازاء قلق الوجود ولا يقينيته.
وتقترح الشاعرة عناوين القصائد بلغة فانتازية تقع في منطقة الحلم الذي يتراءى بالرمز ويعود في اشارات لغوية تمجد ثلاثية الحياة:
«حال المثلث يعلو فيه الكلام»، «حال الذي يطفو في الضياء»، «بحر يصطاد موجه»، «فنجان يفيض عن ذاته»، وهي عناوين تنطوي على مغامرات تنفذ الى أعماق النفس وتجعل من اللغة حاملة لنوعين متناقضين من الوعي (النمطي، المعرفي)، قابلين لتفجير فكرة التجديد
والاختلاف وتكمن في اجتماع أضلاع المثلث الذي يشكل بؤرة النص وفكرته ودلالات الحياة والثورة والقداسة، كما أنه يدل على القلق والقوة التي تتصل بالنفس الإنسانية وهواجسها.
وتشكل المرأة، الطبيعة والقصيدة مثلثا متساوي الأضلاع في اختزاله لكينونة الوجود الانساني وتشابه دورات الحياة في الخصب والتوالد والموت، وبالمقدار الذي يعبر فيه المثلث عن الفعل المادي فهو يشير الى البعد الروحي الذي يجتمع فيه المعنى الكلي للوجود الذي يمنح الحياة حركتها وسكوتها وطعمها ولونها، ويفيض على الأشياء لغتها واكتمالها وتواصلها في الكلام.
وقد قاربت الشاعرة من خلال هندسة الطبيعة صورة العلاقة بين المرأة واللغة لإعادة واقع العلاقة المتكافئة بين الذكورة والأنوثة. «التي تضع الشخصية الأنثوية في مواجهة الأشياء، ومواجهة العالم، ومواجهة شريكها الرجل في علاقة حميمة تلخص وعيها في الحياة». (١١)
ومن المهم القول أن اللغة - ككائن حيّ- لا تعبر عن الوجود فحسب، وإنما هي الوجود ذاته كما يقول الفارابي: (اللغة مثوى الوجود)، وإن هذا الوجود لا يمكن أن يتحقق إلاّ مجسداً، فالمكان والإنسان والأشياء يتم التعرف اليها حسياً، لتتحول بعد ذلك من لغة الجسد إلى جسد اللغة بصفات الطبيعة التي تقترح اللغة، وتمنح الإنسان وضوحه، وتفيض عليه بالمعاني:
«هي ذي عتبة البيت
مفتتح الكلام
...
مالة السارح في غبطة الغياب
...
المثلث غضبان
مدّ يديك اتضح
وخذ حليب عروقي ودور كلامي إليك
...
أقول له
هذا عصير التقى والفجور
...
المثلث ملآن
إليك الملاذ الذي إليه
يكون الملاذ» . (٢٥)
الطبيعة واللغة
بين الطبيعة واللغة تشابه كبير يصل حد التماهي، فاللغة هي استعارة لأصوات الطبيعة وحركتها وسكونها ومزاجها، ولا يتوقف هذا التشابه عند التمثلات المباشرة، وإنما يذهب إلى الدلالات والرموز والإشارات التي تستعير من الطبيعة فكرة الخصب والتوالد والمخاض والخلود والسكون والحركة، فالكلام ليس مجرد ألفاظ متجاورة، وإنما هو أفكارمتوالدة يسبقها حالة من المخاض، المعاناة التي تولد المفردات وتستنبتها في أرض خصبة وفضاء رحب، قابل للحركة والخلود.
ومع التقارب بين صفتي الطبيعة واللغة (الأنثوية) فإن الكثير من المفردات العربية تعود في جذورها الى الطبيعة الحسية وصفاتها وجمالها، مثل: الكلمة، القصيدة، الحكمة، الشفقة، الحياة، الوردة، الزهرة، الحرية، السماء، الغيمة، الأغنية، الجنة،الحمولة، العشيرة، الرحمة، ..، وتحاول الشاعرة استعادة التواصل مع الطبيعة من خلال استعارة مفرداتها لتوحيد الدال والمدلول في المعنى واللفظ، والصورة، التي تشكل مثلثاً متطابقاً بين صور المرأة الطبيعة واللغة، وتعبرعن نفسها بمتخيلات متنوعة عبر اللغة الصوفية، واللوحة السوريالية، والمفردة الأسطورية:
الصوفية:
تقوم الصوفية على حس روحاني يمجد الطبيعة، لإيمانه أنها مُعلّمَهُ الأول، يختلي بها متأملاً لتحقيق طمأنينة الروح، فهي سبيله للمعرفة والحقيقة والحرية ووسيلته لإطفاء نزعة الشر من خلال المكان الذي يقول عنه ابن عربي :
«كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه»، وهي فلسفة تسعى إلى الاندماج مع المكان (الطبيعة) كفضاء للوحدة الكونية التي يرى الصوفي أنه جزء منها، وهي جزء منه». ولأن الصوفية هي تجربة ذاتية فإن مفرداتها تظل أقرب إلى الأسرار الذاتية التي تهيم في برزخ بين الروح والجسد، واليقين واللايقين، والغموض والانكشاف، وهذا الهيام هو الذي يحقق الطمأنينة الروحية التي تغسل أدران القلق الذي يعيشه الإنسان في هذا العالم بعد أن يكشف أسراره وجوهره، ويغرق في فتنته و ضوئه الكوني، فالشاعرة تحول الأشياء الى لغة مموهة ، رمزية، تخالف السائد، تشي بالوجود ولا تحدده، وتسعى إليه، لتثري ذاتها التي تثري ذات الآخر كما يقول ابن عربي: (الأنثى هي الآخر الذي يعرفنا بذواتنا، ونعي ذواتنا المختبئة عنا من خلاله، فالمرأة والمرآة والرؤية والرؤيا تصدر عن جذر واحد يعكس وجودنا):
«انسحرت ولم أع الوقت
ولم أك أسميه
ولم أحدده يوما ليبقى
لأني علمت تماماً
بأن رحيل التفاصيل
ضوء يشح..
ويغسل وهم التفاصيل
... ... ...
من شواطئها أفضي إليها
ولعلي لا أفضي إلاّ إلى رحلتي
وقيام النهار تائباً
أن يلقي على جبهتي
تعبه» (ص١٣)
السوريالية:
ان ما يميز السوريالية هو الحلم وغموضه ورمزيته، وأحيانا غلالة الحزن التي تلفه، فالسوريالية تستمد صورها من اللاشعور، والعقل الباطن، تمنح الأشياء مشاعر الإنسان وهواجسه، وتعيد صورته في مظاهر الطبيعة وحالاتها، لتكون اللغة تعبيراً رمزياً عن التصادم بين الوعي واللاوعي، والمرئي واللامرئي، كتعبير عن المأزق الذي وصل اليه الإنسان نتيجة القهر والتسلط التي خلقت معاناته ومأساته ووحدته الوجودية، فهي لا تعيد إنتاج العالم، وإنما أيضا تعيد توصيف العلاقة بين الأشياء التي تتمارى في الواقع من خلال الحلم الممزق، والصور التي تستعيدها في اللاشعور التي تجعل من اللغة أشبه بلوحات سلفادور دالي التي تصور حطام الطبيعة في فضاء مليء بالجمال المتخيل، واذا كانت اللغة الصوفية تنهل صورها من الفلسفة (العقل)، فإن السوريالية تستعير لوحاتها من الخيال (الفن، الشعر) لتحطيم الأطر المألوفة التي تفتت ذاكرة الإنسان وتعيدها بشكل طازج يغمر الوجود بالحلم:
«كنت أنحني على الجمعة
أبحث في صرتها عن ذكر واحد
لم يك من قبل
وما مر في الحواس التي تسمرت على الشجر المنحني
كنت أغمض عيني.. استأنس بالظل داخل جفني
أستحم بقول تدفق من قلة الفودكا
وفاض وأغرق غابات حلمي
ونحى كلامي» (ص٣٥)
الاسطورة:
إن الأسطورة من أكثر أشكال التعبير اتصالاً بالطبيعة ازاء الأحداث والظواهر الغيبية والكوابيس التي تتهدد الروح، فهي نسق معرفي يسعى الى تحقيق حالة من التوازن بين الإنسان ومظاهر الكون وخصوصاً التي لم يستطع تفسيرها أو السيطرة عليها، ويمتزج في الأسطورة الحلم والمنطق والمشاعر والسحروالخرافة.
وكما يقول رولان بارت فهي: «نوع من الكلام الذي يتصل بالدال والمدلول والعلامة، ينتقل من الواقع الى المعنى الكامن في الحلم وهي نظام مزدوج يحدث فيها نوع من كلية الوجود الذي تجتمع فيه الفكرة ومعناها وصورتها». (١٢)
وهي بالميزة هذه فقد اشبعت اللغة بالمعنى الكلي الذي يتضمن الحلم والواقع، وقللت الفروق بين صورة الطبيعة وملامح الكائن ضمن مفردات تنطوي على البوح الذي يمثل داخل الإنسان بما تعلنه الطبيعة ببساطة، وبما تتشكل عليه الطبيعة من تعدد وتنوع واختلاف يتشابه مع جسد المرأة وجغرافيته. وكما يقول الناقد صبحي حديدي في ترجمته لكتاب «الأسطورة والمعنى» لكلود ستراوش إن الأسطورة لا تقرأ سطراً بعد سطر، أو من اليمين الى اليسار، وإنما تدرك بكلياتها كما الموسيقى، وهو مثال يمكن ان يقرب دوافع ذهاب المرأة الى الأسطورة، كمبررات استعادية للذاكرة، والتماهي مع الطبيعة في كلياتها:
«هنا التموز خالعا إزاره
وبعض ما يقول الحجر المسود من تبجح العلى
... ... ...
تمشي التلال نحو فهرس التلال
كي تقرأ الأوصاف.. كي تكونها
لكن ما يشوقني في لحظة الشمس هذه
لحظة الخريف عارياً في ثوبه القديم
لكن ما يشوقني في لحظة الجدوى
ولحظة التزامن الطرية
وجه من أحب
فقط» ص ٢٥
لعبة الاضلاع
إن لعبة الاضلاع الثلاثة في النسق العام الذي يحكم رؤية الشاعرة، ليست مجرد لعبة لفظية او احتيال على الهندسة وقياساتها وابعادها السيمترية، وانما هي رؤية تتصل بالشكل (الفيثاغورسي ) الذي يعتبر فلسفة لرؤية الكون . وهي مسألة تفصح عن نظرتها الى سيرورة الوجود، وكينونة الانسان، وتصادمات الذات والموضوع والماضي والحاضر، للتعبير عن موقف كلي من العالم، حيث تجلى هذا الموقف معرفيا على مثلث يتكون من: الذاكرة (التاريخ)، العقل (الفلسفة)، الخيال (الفن) وتفرعاتها التي وجدت مقابلاتها في الشكل الهرمي الذي يتكون من الصوفية، السوريالية والأسطورة كأدوات للتعبير عن ذاتها، لتشكل المجموعة الشعرية سلسلة من المرايا المثلثة أو متوالية تتجاور فيها الفنية والجمالية والتعبيرية.
ومن المؤكد أن مثل هذه البناءات لا تخلو من التعقيد والغموض والتجريد الذي يتصل بخصوصية التجربة، وتعدد الخطابات المعرفية التي عملت أيضا على إثراء التجربة.
وتمثلت التقابلات بين الذاكرة (التاريخ) في الأسطورة كنص لازماني، يسبق التقسيمات الاجتماعية وتطور الكتابة التي تمتاز تاريخيا بالشفاهية، وكانت المرأة فيها مؤلفة النص.
أما العقل الذي تم تصنيف الفلسفة في دائرته، فهو يقابل الصوفية التي تشكل منهجاً معرفياً خاصاً يتصل بتأمل الطبيعة، ويتمثل لغتها ويتماها مع عناصرها، ويوازن بين العقل والروح والجسد.
وعبرت السوريالية كأحد أضلاع المثلث عن مغزى تطور تاريخ الفن بازاء مصير الإنسان في بحثه عن الحرية وتمرده ضد أشكال القهر والاستبداد والإقصاء والنفي، وكشفت كاسلوب تعبيري صوري (نسبة الى الصورة) عن حقيقة المعنى الذي يتكون من الدال والمدلول والدلالة السيميائية التي تعبر عن ذاتها بلغتها.
وبالتوالي فقد أعادت الشاعرة في تجربتها الخاصة التي تقوم على المثلث لغتها التي تفيض بالروح الانثوية التي تستعيد عناصرها في النص من خلال صفات الطبيعة بصدى صوت (إيزيس) بوصفها «أم الاشياء، وسيدة العناصر، وبادئة العالم».×)×)
وتثري الشاعرة زليخة أبو ريشة قصيدتها بالتفاصيل التي تقترب من لغة النثر، التي ترتبط بتاريخ (الساردة الأولى)، وتمتاز بالتوالد الذي يقوم على انشاء جملة لا متجانسة، تنتمي الى كل الفنون التي تحررها من نمطية الشكل الواحد، لتأكيد (وحدة المتعدد، وتعدد الواحد).
وتستحضر الشاعرة صوت الطبيعة في تنوعها وغناها، وخفوتها وحركتها وصراعها للكشف عن (صوت الأنوثة الغائب) الذي يقوم على تماريات الارض/الأم/المرأة ووظائفها وصفاتها وتشابكاتها الرحمية التي تضفي على النصوص مسحة من الحزن الوجودي الشفيف وتعكس اصداء رحلة الإنسان ومصيره في انفصالاته المتتالية منذ الولادة وحتى الموت، ورحلة المرأة التي عانت من الاقصاء والنفي والوحدة، وعبرت عنها بلغة طقوسية حزينة:
«يا لقوت القلوب!! تفتت
من لي بملاط يشد نثيرات روحي؟
انفضحت.. فمن لي بسرداب حب اليه؟
ومن لي اليه؟» ص ٢٤
لغة الجسد.. جسد اللغة
إن معرفتنا بالوجود وعلاقتنا به يتم وفق انساق معرفية وثقافية واجتماعية واقتصادية يصوغها المجتمع وقوانينه، وأنماط حياته التي تختلف من مجتمع الى آخر، ومن حضارة الى أخرى.
«لا يمكن فهم اللغة، وقوانين تطورها بمعزل عن حركة المجتمع الناطق بها في الزمان والمكان المعنيين، لأن فيها من الإنسان فكره، وطرائقه الذهنية، وفيها من العالم الخارجي تنوعه وألوانه». (١٣)
وبالتالي فإن اللغة تشكل سلطة اجتماعية تعبر عن وعي لمكونات النسق وعلاقاته الإنتاجية، وتعبر عن الوعاء الذي توضع فيه لمصلحة «الفئات والطبقات التي تستعملها» . (١٤)
وإذا كان المجتمع القبلي (الكثرة والثروة) قد صبغ اللغة بقوانينه التي أقصت المرأة ووضعتها ضمن نظام مجرد لمصلحة اللفظ، لتكون المرأة موضوعا وليس ذاتاً، وطبيعة صامتة، ومفعولاً بها، ومضافاً اليه - بلغة النحاة - مما عطل مشاعرها وعقلها وحصرها فيما يمكن تسميته باللغة الخرساء التي تتمثل في: الإيماءات، الصمت، الحزن، الرقص،...، فإن المجتمعات الحديثة التي تتسم بالتحولات الفكرية والتكنولوجية التي ميزت الحضارة المعاصرة لم تخل من الأزمات اللغوية التي انبثقت في المراحل القبلية والحقب اللاهوتية، وكانت مخلصة لإرثها الثقافي، واعادة نمط السوق نسقا يقوم على تقسيم العمل الذي تعامل مع جسد المرأة بوصفه موضوعا ومعنى،
«فالمشاكل اللغوية والميتافيزيقية - المعاصرة التي تمتد من العصور الوسطى - التي انبثقت عن المشاكل الدينية واللاهوتية هي التي برزت» ولا تزال قائمة.( ١٥)
وفي ديوان «كلام منحى» تفكك الشاعرة سطوة المؤسسة الثقافية باستعادة لغة الأشياء، والكائنات كما تتجسد في الطبيعة، وتنسج لغة الجسد مع جسد اللغة لتشكل لوحة واحدة في ثلاثة أضلاع هي: المرأة، الطبيعة، (اللغة- القصيدة)، عبر صورة شعرية إبداعية يتحول فيها العالم الى جزء من الكائن، والإنسان الى جزء من الطبيعة، وتجعل اللغة حاملة لمعانٍ ودلالات أبدية« تجمع بين الإدراك الحسي، والرؤية العقلية، والبعد الجمالي» التي تتطابق فيها الذات مع الموضوع في حركته وسكونه ولغته، وتغدو حركة الطبيعة متحررة من الأنساق التي أخفت جمال «المثلث» وصوته وملامحه التي تبحث عن نافذة الروح ولحظة الحب الأبدي».
«ويا غرامي الذي اسرفت كي اعرف
فعرفت مملكتي
الدائم المشتاق. الدائم المشهود
المحقق في الوتين
تنثره ورود الشهوة الأولى
جسداً من الأسرار
مرئياً ومخفياً
وحمى ». ص ٨٨
وتعيد الشاعرة من خلال نصوصها تشكيل اللغة باللغة ذاتها التي تستعديها من مناطق مسروقة/مغتصبة/ ولغة مستعارة من الروحانية الصوفية اللاتمييزية التي تجعل من الأنوثة مضارعة للثورة:
«المثلث ريحان
وشعشع الشوق في بيت روحي
وروحي تجن» ص ٢٣
وتنهل الشاعرة في تجلياتها التي لا تخلو من خذلان الرحلة الطويلة مع اللغة من صور الطبيعة في تصادماتها للتعبير عن وحدة الاختلاف التي يتوحد فيها الباطن والظاهر والمرأة، واللغة والطبيعة في جسد اللغة بالمعنى الإنساني والجمالي. وتواصل بحثها عن الحقيقة:
«يا فاتح الشتاء! زد عليّ الماء
والبكاء. لوعة التارنج
شهقة الفيروز وقهقهات الريح.
مرتجف اليقين، قرقعات الصمت في اللغات
... ... ...
وهات حفنة من الرضى
وحفنة من الغضب
وحفنة من السراب
وزد على ما تريد
ما زلت انك الموعد
الذي أشتهيه
كما السكين في الوريد». ص ٦٤
المراجع:
١- المرأة واللغة، ثقافة الوهم، مقاربات حول المرأة والجسد واللغة، عبدالله الغذامي، المركز الثقافي العربي، لبنان، بيروت، 1998
٢- المرأة واللغة، عبدالله الغذامي، المصدر السابق
٣- كلام منحى، زليخة ابو ريشة، منشورات امانة عمان الكبرى، عمان، 2005
٤- الخطاب الأدبي وآليات تحليله، بن السائح الأخضر، مجلة الواح، ١٥/١/2005
٥- موت الأدب، آلفن كرنان،ترجمة:بدر حب الله الديب، المجلس الاعلى للثقافة،القاهرة، ٢٠٠٠
٦- بن السائح الاخضر، مصدر سابق
٧- الجندر : المأزق اللغوي وأسئلته الجوهرية، زليخة ابو ريشة، جريدة الرأي الأردنية، ٣٠/١/2006
٨- اللغة والسياق الثقافي في الكتابة النسائية، رفقة دودين، مجلة الموقف الأدبي، العددان، 415،دمشق، 2005
٩- الجسد الانثوي وفتنة الكتابة، عبد النور ادريس، موقع الكاتب الالكتروني
١٠- عبدالله الغذامي، مصدر سابق
١١- عبد النور ادريس، مصدر سابق
١٢- السحر والرمز، مجموعة من المؤلفين، ترجمة: عبد الهادي عبد الرحمن، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية، اللاذقية،1994
١٣- علم اللغة الاجتماعي عند العرب،هادي نهر،الجامعة المستنصرية، العراق، بغداد، 1978
١٤- هادي نهر، المصدر السابق
١٥- فلسفة اللغة: تفكيك العقلي اللغوي، بحث ابستمولوجي انطولوجي، سامي ادهم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، بيروت، 1993
(×) ربما هذا ما يفسر عملية الوشم على جسد المرأة
(××) إيزيس: ربة القمر عندى قدماء المصريين . وعبدها الرومان . تعتبر أم الطبيعة وأصل الزمن.
حسين نشوان شاعر وكاتب من فلسطين