اللغة العربية الفصحى والعربيات المغربية
منير بن رحال
أستاذ اللغة العربية - باحث في اللسانيات والتواصل
• تقديم
اللغة نظام اتفاقي من الرموز، هدفها ربط الصلة بين مجموعة إنسانية محدودة، كلما تطورت هذه المجموعة تطورت معها لغتها، وكلما كثرت المجموعات، ازداد عددها وتفرقوا إلى فرق، وتفرقت معهم اللغة إلى متغيرات Variante مسايرة في ذلك ظروف عيش كل فريق على حدة، إلى أن تتحول هذه المتغيرات عبر القرون إلى لهجات متباينة تستجيب كل منها للحاجيات والظروف الاجتماعية والبيئية التي تميز الفريق الذي اختص بتداولها.
سنحاول في هذه المقالة التفصيل في الفرق بين اللغة واللهجة ، وبيان أسباب تكوين اللهجات، وننهي مقالنا بالوقوف عند مستويات اللغة العربية في المغرب، وهي ما نصطلح عليه العربيات المغربية ، على اعتبار أنا تنويعات للعربية الفصحى.
1- اللهجة وعلاقتها باللغة
اللهجة طريقة في الاستعمال اللغوي توجد في بيئة خاصة من بيئات اللغة الواحدة، وهي العادات الكلامية لمجموعة قليلة من مجموعة أكبر من الناس، تتكلم لغة واحدة. وهذه الطريقة أو العادة الكلامية تكون صوتية في غالب الأحيان، من ذلك لهجات العرب القديمة، كالعنعنة وهي قلب الهمزة المبدوء بها عين، وكذلك الكشكشة وهي إضافة الشين بعد كاف الخطاب في المؤنث، وكذلك العجعجة وهي جعل الياء المشددة جيما، وهذه الظروهر ماتتزال متحققة في أغلب اللهجات العربية، في كل مناطق العالم العربي.
ويلعب الاختلاف الصوتي دورا مهما في اختلاف اللهجات وتنوعها، واللهجة تغير يطال اللغة على مستوى تحققها الصوتي أو التعبيري.ويتفق أغلب الباحثين السوسيو لسانيين والبنيويين، أن اللهجة نظام تواصلي لا يختلف عن اللغة، فاللهجة في الاصطلاح العلمي " هي مجموعة من الصفات اللغوية المنتمية إلى بيئة خاصة، يشترك فيها أفراد البيئة الواحدة"، وبيئة اللهجة جزء من بيئة أوسع وأشمل. وهذه البيئة الشاملة هي بيئة اللغة.
ويزكي (دي سوسير)هذا الارتباط القائم بين اللغة واللهجة من خلال قوله "من الصعب تحديد الفرق بين اللغة واللهجة، خاصة أن اللهجة غالبا تأخذ اسم اللغة، حيث تكون لغة انتاج أدبي".
واضح من هذا الكلام، أن مفهوم اللهجة مرتبط دائما بمفهوم اللغة، بل إن أغلب السوسيو لسانيين يرفضون التفريق بين اللغة واللهجة،على اعتبار أنه تفريق انطباعي وذاتي وغير علمي، إذ اللغة بالنسبة إليهم هي اللهجة نفسها، لذلك نرى CALVAT في كتابه "Linguistique et colonialisme"، يقر بأن اللهجة ليست سوى لغة محطمة سياسيا، واللغة ما هي إلا لغة نجحت سياسيا . وقد يصدق هذا التصور على الأمازيغية أو العربيات المغربية على تنوع تحققها بين جهات المغرب، فقد نفترض على حد زعم Calvat، أن هذه الأخيرة تعرضت للاقصاء والتهميش ما أدى إلى عدم امتلاكها القرار السياسي، وهذا ليس وليد اليوم بالطبع، وإنما هو ناتج عن ظروف تاريخية ممتدة زميا ومكانيا، أهلت العربية الفصحى للعب أدوار دينية و سياسية واقتصادية في المغرب، في حين تراجع دور العربيات المغربية والامازيغيات دينيا وسياسيا واقتصاديا، ما حولها إلى وسائل تواصلية يومية، لكنها بلا سلطة تذكر، إلا إذا استثنينا حضورها في الفلكلور الشعبي على شكل شعر أوأغاني وأمثال وقصص شعبية و حواديث...
فيشمان بدوره، يفضل مصطلح (Variété) التنوع اللغوي، بدلا من المصطلحات التقليدية المعروفة. ومفهوم (Variété)، يعني الاعتراف بنوعيات مختلفة ومتعددة من اللغات باختلاف وتعدد المناطق الجغرافية داخل البلد الواحد. ومن بين العلوم التي تهتم بهذا الجانب اللسانيات الجغرافية.
وفيما يتعلق بالمدرسة الأمريكية، سواء التوزيعية التقليدية في شخص (Chomsky) و(Haris)، أو السوسيولسانيات في شخص (Labov) ، فيؤكدون جميعا، أن علاقة اللغة واللهجة هي علاقة العام والخاص والكل والجزء، فنقول مثلا( تاريفيت تشلحيت تقباليت...)، باعتبارها نوعيات تنحدر من اللغة الأم وهي "الأمازيغية".ونفس الأمر ينطبق على العربيات المغربية فعربية (الدارالبيضاء و دكالة، و فاس و مراكش، و وجدة و الداخلة وطنطان...)، هي تنويعات لغوية، ولا يصح نعتها بأنها (لغات مستقلة)، إنها تنويعات لغوية للغة الأم (العربية الفصحى).ومن يتعقد عكس هذا يناقض حقيقة لغوية ثابتة.
يمكن أن نخرج بخلاصة جزئية مما سبق، تتجلى في كون العلاقة بين اللغة واللهجة علاقة وطيدة، فصيرورة (لهجة لغة)، أو صيرورة (لغة لهجة)، رهين بتوافر شروط سياسية واقتصادية ودينية أو عدم توفرها. ونمثل لذلك باللغة اللاتينية التي كانت لغة رسمية ، فتفرعت عنها اللغات اللاتينية الحديثة (الإسبانية الإيطالية الفرنسية)، وذلك عقب تدهور الإمبراطورية الرومانية، بفعل هجومات الجرمان والهون.كما أن اللغة الفرنسية كانت في ماضيها لهجة يتكلمها أشراف باريس، ونظرا لاستعمالها من طرف الساسة الباريسيين، تحولت إلى لغة ذات سلطة رمزية، فهيمنت على اللهجات الأخرى (البروتون والاكستان...).
أما اللغة العربية الفصحى في المغرب، فقد هيمنت على العربيات المغربية والأمازيغيات، لكونها كانت تملك شروطا مؤهلة تجلت في كون الإسلام لا يمكن فهم مضامينه إلا بها، فمال المغاربة إليها،و جعلوها (عربا و أمازيغا) لغتهم لكونها حاملة الوحي الإلهي، ويمكن العودة إلى معظم التراث الفقهي المغربي،فهو مكتوب من طرف فقهاء أمازيغ بلغة عربية لا غبار عليها،ومن تم لا يمك القول أن العربية الفصحى عملت عنوة على إبادة الأمازيغيات والعربيات المغربية، فهذا كلام باطل،وليس هناك دليل أصدق من أن هذه الأخيرة مازالت موجودة،ولها حضور هام في التراث الشفوي المغربي،كوسائل تواصلية يومية،وأدوات للتعبير والإبداع الفني، كما أن الدستور الجديد للمغربي يتعامل معها باعتبارها لغات.
2 – كيف تتكون اللهجة
هناك عاملان رئيسيان يعزى إليهما تكون اللهجات في العالم وهما :
• الانعزال في بيئات الشعب الواحد.
• الصراع اللغوي نتيجة الغزو أو لهجمات الأجنبية.
وقد شهد التاريخ نشوء عدة لغات مستقلة من اللغة الواحدة نتيجة هذين العاملين أو كليهما. فحين نتصور لغة من اللغات قد اتسعت رقعتها وفصلت بين أجزاء أراضيها عوامل جغرافية أو اجتماعية، نستطيع الحكم بإمكان تشعب هذه اللغة إلى لهجات عدة. ويترتب عن هذا الانفصال قلة احتكاك أبناء الشعب الواحد بعضهم ببعض أو انعزالهم عن بعضهم البعض.
ويتبع أن هذا الانعزال في البيئات اللغوية، أن لغة الشعوب أو القبائل التي كانت من أصل واحد، لا تلبث بعد مرور قرن أو قرنين، تتطور مستقلة على مستوى نطق الأصوات وصفاتها، ما يشعب اللغة الأم إلى تنويعات لغوية هي ما يسميه عامة الناس(لهجات ).فمن طبيعة الكلام التطور والتغير مع مرور الزمن، ولكن الطريق الذي يسلكه الكلام في هذا التطور يختلف من بيئة إلى أخرى، ما يعطينا في النهاية تنويعات لغوية عديدة لنفس اللغة الأم، وهو ما نلمسه بوضوح شديد بالنسبة للعربيات المغربية، مثلا في فاس حيث يتم تحقيق القاف في جملة(قال لي)،وفي دكالة يتم تحقيق القاف (ڭاف) ( (gal lya...وهو مانجده مفصلا في قول بن خلدون في نطق القاف "ڭاف لدى العرب البدو؛ حيث يقول "و مما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد،حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار، كما هو مذكور في كتب العربية أنه من أقصى اللسان و ما فوقه من الحنك الأعلى. و ما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف، و إن كان أسفل من موضع القاف وما يليه من الحنك الأعلى كما هي، بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف و القاف . و هو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق، حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم و الأجيال مختصا بهم لا يشاركهم فيها غيرهم . حتى إن من يريد التعرب و الانتساب إلى الجيل و الدخول فيه يحاكيهم في النطق بها."
وليس للانعزال الجغرافي وحده كل الأثر في تكون اللهجات، بل يجب أن نضم إليه الانعزال الاجتماعي ،واختلاف الظروف الاجتماعية بين البيئات المنعزلة داخل الأمة الواحدة. وهناك عوامل تشترك بينهما جميعا وقد ترجع إلى رابطة سياسية أو قومية أو اتجاه خاص في التفكير. إن عوامل الانفصال وعوامل الاتصال بين الشعوب هي ما أدى في الأصل إلى تنويعات لغوية من لغة أم واحدة، لكن الغلبة في جميع الأمثلة التاريخية- كما يشير ابراهيم أنيس- كانت دائما لعوامل الانفصال في آخر الأمر، فتتشعب اللغة إلى لهجات وتستقل اللهجة وتتميز بعضها عن بعض.
أما العامل الرئيسي لتكون اللهجات فهو الصراع اللغوي نتيجة غزو أو هجرات إلى بيئات أخرى، وتكون النتيجة إما القضاء على إحدى اللغتين قضاءا يكاد يكون تاما، أو ينشأ من هذا الصراع لغة مشتقة من كلتا اللغتين الغازية والمغزوة تشتمل على عناصر من هذه وأخرى من تلك.
خلاصة القول فاللغة العربية الفصحى تركت تأثريها الواضح في العربية المغربية، التي نعتبرها لغة بمستوياتها الصواتية والأصواتية والصرافية والدلالية والتركيبية. وهذه اللغة، هي في الحقيقة خليط من (اللغة العربية الأندلسيَّة الإدريسية، اللغة العربية الأندلسيَّة الجبلِيَّة، التنويعات العربية البَدوِيَّة والحضرية).وهو ما سنفصل فيه القول في الجزء الثاني من مقالنا والذي يتخذ عنوانا العربيات المغربية.
3- العربيات المغربية
في الأوساط الشعبِيَّة المغربِيَّة ، يتم نعت اللهجة المستعملة في التواصُلِ اليومي، بالعربيَّة وأحياناً الدَّارِجة .
بناء على الجزء السابق المعنون اللغة العربية الفصحى والعربيات المغربية، سنتبنى مصطلح العربيات المغربية للدلالة على ما يسميه البعض خطأ (اللهجات )، فنحن نعتبر هذه التحقيقات اللغوية تنويعات Variante للعربية الفصحى على المستوى الأصواتي والصواتي والصرافي والتركيبي والدلالي . كما يمكن تعميم هذا الاصطلاح فالمصرية أو الشَّامية أو الخليجية، هي تنويعات أخرى للعربية الفصحى ، كما نجدها في لغة الأدب القديم ولغة القرآن.فهل يكفي أن تكون لغة ما، لغة الكتابة الأدبية أو لغة الدين لتكون لغة أولى ؟
3-1-1 تاريخ اللغات المغربِيَّة
هُنَاك فَرق بين دُخول اللغة العربية واللِّسان العَربِي إلى المغرب، وهذا قَد تَمَّ عبر ثَلاثة مَراحِل، تزامنت الأولى منها مع الفتوحات الإسلامِيَّة التي تمت خلال الخلافة الأموية. وذَلِك بعد طَلَبٍ من قبائل المغرب العربي لتحريرها من البزنطِيِّين. آنذاك دخَلت اللُّغة العربية واستمَرَّت إلى اليَوم كَلُغة رَسمِيَّة لِبُلدان المغرب العربي، المرحلة الثانية كانت خلال القرن 11 والقرن 12؛ حيث دَخَلت القبَائِل العَرَبِيَّة إلى المغرب ، وعلى رأسِها قبائل (بنو هلال وبنو معقل وبنو سليم). أمَّا المرحلة الثَّالِثَة فَتزامَنت مَعَ هِجرة الأندلُسِيِّين.
في كِلتا المرحَلتين الثانية والثالثة أدخلت القبَائِل العَرَبِيَّة معها لسانها البدوي، وكذلك نقل الأندلسيِّين لهجتهم معهم إلى المغرب.
على مستوى توزيع العربيات المغربية ، نلاحظ تواجدها على شكل مناطق جغرافية لها صلة بأحداث ووقائع تاريخية مؤثرة في تاريخ الشعب المغربي بصفة خاصة ، بل بتاريخ المنطقة المغاربية والعربية بصفة عامة ، وهي لذلك لغات متمازجة ليس بين تنويعات للعربية فقط، بل تمتح اللغات العربية المغربية من اللسان الأمازيغي بتنويعاته أيضا.
يمكننا القول دون تردد وبمنطق لساني ، أنه يوجد في المَغرب لغة خاصة لكل منطقة جغرافية ،ونفصل القول في ذلك كما يلي :
أ - التنويعات العربية الأندلُسِيَّة :
- اللغة الأندلسيَّة الإدريسية : (تنتشِر في مدينة فاس، جزء من مدينة مكناس، جزء من مدينة سلا، جزء من مدينة الرباط وجزء من بلاد جبالة)، وذلك جرَّاء هِجرة الأندلسِيِّين إلى هاته المناطِق.يلاحظ على لغة هذه المناطق التأنق في التعبير ، وتحقيق صوت القاف قافا عربية فصيحة .
- اللغة الأندلسيَّة الجبلِيَّة: هِي لهجة جبالة والبقباقِيِّين في مدينة فَاس، الملاحظ على هذه اللغة تأثرها الواضح بلغة (تاريفيت ) المنتشرة بالمنطقة ، ما جعلها في الحقيقة تنويعا لغويا بين ( لغة عربية أندلسية جبلية ولغة أمازيغية ريفية).
ب- التنويعات العربية البَدوِيَّة:
- اللغة العْروبِيَّة : ويُسَمِّيها بعض الباحِثين باللهجة الهِلالِيَّة المغربِيَّة ، وهي المنتشرة في غالبية قبائل الشاوية ، يلاحظ عليها تحقيق صوت (ڭاف) بدل القاف الفصيحة ، مثلا (ڭليل بدل قليل، ڭال بدل قال ، مڭلوب بدل مقلوب...)، غير أن معجم هذه اللغة يحافظ بشكل واضح على المعاني العربية ، مثلا (الركوة : وسيلة لتحميل الماء من البئر كانت معروفة عند العرب القدماء...)
- اللغة الحسانية : هي لهجة العرب الصَّحراوِيِّين وتَتَميَّز هذه اللهجة بالفصاحة .وهي مجال خصب للدراسات اللسانية التطبيقية ، نظرا لغناها المعجمي والدلالي والصوتي و الصواتي .
إذن كيف انتشرت العربية المغربية ( التي تنعت أحيان بالدراجة) في المغرب، وكيف هيمنت على باقي اللغات على مستوى الاستعمال والتواصل اليومي، حتى بالنسبة للناطقين بالأمازيغية ؟
إن كَثرة القبائل الهِلالية ، وانتشارها في مناطق المغرب شمالا وجنوبا، جَعَلت لِسانهم يغلب على لِسان القبائل العربية الأخرى، فاللغة الهلالية عمق ومخزن استراتيجي لِكلام العرب في المغرب، وهي لِسانُ غَالِبية عرب شمال إفريقيا،بناءا على ذلك يمكن أن نميز مستويين في العربية المغربية واسعة الانتشار في المجتمع المغربي :
أ- لَغة أهل المدن (اللغة الحضرية)،وهي المنطوقة داخل المدن التالية: الدار البيضاء، الرباط، سلا، المحمدية، القنيطرة، مكناس، وجدة، الجديدة، آسفي، مراكش، الصويرة، خريبكة، بني ملال.رغم حفاظها على البناء التركيبي العربي ، إلا أن معجمها يمتح من اللغة الفرنسية الشيء الكثير، حتى أن بعض الألفاظ تم تعريبها لتصبح جزءا من اللغة العربية المغربية ، مثلا (طوبيس/ حافلة عمومية ، طاكسي /سيارة أجرة، ماريو / دولاب ملابس...).
ب- لََغة أهل البادية (اللَغة البدوية)، وهي المنطوقة داخل القبائل التالية : الشاوية، ورديغة، دكالة عبدة، الغرب شراردة بني حسين، جهة الحوز و والجهة الشرقية.
خلاصة لما سبق، فاللَغة العربية المغربية، هي في الحقيقة خليط من (اللغة العربية الأندلسيَّة الإدريسية، اللغة العربية الأندلسيَّة الجبلِيَّة، التنويعات العربية البَدوِيَّة والحضرية )، إننا إذن أمام مستويات من اللغة العربية، تعود كلها إلى أصل واحد هو اللغة العربية الفصحى كما جاءت في الأثار المكتوبة شعر ما قبل الإسلام والقرآن الكريم .
خلاصة لكل ما سبق ذكره، نستنتج أن اللغة العربية المغربية واسعة الانتشار في المجتمع، هي لسان النَّازحين إلى المُدن الكبرى (مِثل الدار البيضاء، الرباط، سلا، الجديدة ...)، ولا ننسى علاقة هذه المدن بالاقتصاد، فقد استقطبت هذه الأخيرة ساكنة مغربية (أمازيغية وعربية) هامة طيلة القرن العشرين، ما يفتح الباب لافتراض وقوع تحول لغوي كبير في المغرب، يحتاج إلى دراسات لسانية وتاريخية مفصلة خاصة في هذه المدن الكبرى ، بسبب ضمها لتنوع عرقي ولغوي فريد من نوعه.
نسجل أيضا وجود مستوى من اللغة العربية المغربيَّة مُسيطر على الخطاب الإعلامي، نجده خاصة في الإشهار وهو يختلط أحيانا بلغات أخرى خاصة منها الفرنسية .أما في البرامج الحوارية التلفزية فيحاول المذيعين المغاربة جاهدين الاقتراب من العربية الفصحى في حواراتهم، غير أن اللغة العربية المغربية تغلبهم (فالطبع يغلب التطبع )، وهذا أمر عادي لا ينبغي أن يكون عقدة . أما في مدِينَتَي سلا والرباط ، فتغلب العربية العروبية (وهي لغة قبائل الجوار كَقبائل الشراردة بمدينة القنيطرة وقبائل زعير) على اللَّهجة الأندلُسِيَّة بل تكاد تمحيها من الوجود. ونشير إلى وجود درجات أدنى للعربية المغربية في كل أنحاء المغرب تبرز في كلام الشَّارِع، الموجود أيضا في الفرنسية Argot ، وفي لغات أخرى .
إن هذه الملاحظات ، تجعلنا ننظر بعين الاستغراب إلى قلة الدراسات اللسانية ، لهذا التنوع اللغوي الفريد من نوعه، في اللغات العربية المغربية، خاصة أن بعضها بات مهددا بالانقراض اللغوي، مثل اللهجة الأندلسية في مناطق (فاس، مكناس وسلا والرباط ) لصالح ظهور لغات هجينة أقرب إلى الخليط اللغوي في المدن الكبرى. ومن هذا المنبر ندعو الباحثين في الشأن اللساني إلى الاهتمام أكثر بهذه المواضيع، بتعميق البحث و التأليف فيها، وبذلك سنحافظ على أحد أهم مقومات هويتنا الحضارية وهو لغاتنا، التي يمكن أن تضيع وسط عالم الاتصالات المفتوحة والعولمة الثقافية التي تسعى إلى القضاء على كل الخصوصيات .
**********************
المراجع :
- f. de. Saussure « cour de linguistique générale » (1989).
- g. l. Calbet « Linguistique et colonialisme » (1974).
- Fichman « Sociolinguistique » Bruxelle (1971).
مقدمة ابن خلدون .
في اللهجات العربية : ابراهيم أنيس القاهرة، مكتبة الانجلو المصرية 1984، الطبعة الرابعة.
قضايا استعمال اللغة العربية في المغرب ، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية ، الرباط ، جمادى الأولى 1414هـ ، 1993م .
ابن خلدون - تاريخ ابن خلدون
الراضي دغفوس، "مراحل تاريخ الهلالية في المشرق: مسار قبائل بني هلال وبني سليم من الحجاز ونجد إلى إفريقية والمغرب"، المؤرخ العربي، (الأمانة العامة لإتحاد المؤرخين العرب )العراق .