لقد كان المسجد أول مؤسسة أقامها الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة لتتآلف فيه القلوب المتنافرة والطباع الخشنة وتتآنس ، وتطمئن إلى ذكر الله تعالى ، وتركن إلى دعوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ، وتتشبع فيه الجماعة المسلمة بالأخلاق الإسلامية النبيلة ، وتتربى على الاستجابة إلى تعاليم الدين الإسلامي الحنيف ، وذلك وفق سنة التدرج ، وتلك سنة الله التي قد خلت في عباده .
وليكون كذلك منطلق الدعوة الإسلامية والإشعاع العلمي والثقافي والبناء الحضاري ، ونشر الأمن والسلم الاجتماعي تمهيدا لبناء الأمة الخالدة التي هي أمة الإسلام { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } .
وهكذا ظل المسجد عبر تاريخ الأمة الإسلامية مكانا للعبادة أولا ، ومنارة للعلم والمعرفة ، ومدرسة لغرس الأخلاق الفضيلة في قلوب أبناء المجتمع الإسلامي الناشئ ، ومعهدا تخرج منه العلماء الأفذاذ في مختلف العلوم الإسلامية والاجتماعية وفروعها التي لا تقوم حياة المسلم ولا تستمر أمته بمختلف مكوناتها إلا بها .
إلا أن ضعف الأمة الإسلامية بسبب تخلفها الذي شل شرايين حياتها وأيادي عطائها لأسباب مختلفة ، وتعرضها للاستعمار الغربي الغاشم الذي سار إلى تجفيف وتكدير منابع حياتها في الثقافة والعلم والاقتصاد ومختلف مكونات الحياة الإسلامية الأمر الذي أحدث خللا في منظومتنا الفكرية والأخلاقية والتربوية والتعبدية والاجتماعية بصفة عامة ، وكذلك ظهور المد العولمي الجارف الذي يسعى إلى التهام كل الثقافات والحضارات وتذويب الخصوصيات الإنسانية المختلفة واجتثاث الأخلاق ، وتهجين الإنسان وتدحينه وجعله وسيلة للإنتاج والاستهلاك في عالم استهلاكي يسعى إلى تخريب الكون وإخضاعه لنزواته وشهواته الحيوانية الغاشمة .
كل هذا أدى إلى ضعف دور المسجد وانحساره مما جعل أغلب الشباب المسلم يتعرض للتشويش والاستلاب الحضاري والثقافي والأخلاقي وينسلخ من هويته وثقافته ويضحى تابعا للغرب العلماني المنحل أخلاقا وسلوكا والمنحرف عقديا ، الأمر الذي جعل أغلب الشباب المسلم هامشا تابعا للمركزية الغربية في أغلب تصرفاته ويعتبر كل ما يرمز إلى هويته وحضارته مجالا للتخلف والانحطاط .
ومن هنا أضحى لزاما على المسلمين أن يعيدوا لمسجد دوره الرائد في الحفاظ على أخلاق الأمة ، لأن الأمم تؤتى من أخلاقها وبقاؤها ببقاء أخلاقها كما قال الشاعر :
إنما الأخلاق الأمم ما بقيت إن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وكذلك هويتها وثقافتها ووحدتها الاجتماعية والدينية ، والمسجد له الدور الرائد في الحفاظ على هذه الثوابت والأسس والركائز التي أذا انهدت ، انهد كيان الأمة ووحدتها .
ولما أتحدث عن المساجد لا أتحدث عنها كجدران أو بنايات سامقة شامخة أو متواضعة متهالكة ، وإنما أتحدث عنها كمنظومة علمية فكرية وأخلاقية وتربوية وحضارية تختزن قرونا من العطاء والبناء الحضاري والثقافي والإنساني أسهمت في تحرير العقل وفتح آفاق الفكر الحر والتأمل المثمر على امتداد قرون من الزمان ، كما تجعل الإنسان يسمو من خلالها وتحلق روحه في العام العلوي وتنجذب من عالم المادة وتتحرر من براثنها قال تعالى { فل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد فادعوه مخلصين له الدين } أي : أقبلوا بعقولكم وجوارحكم على أمكنة سجودكم لتسموا من خلالها إلى العلم العلوي لترفرف أرواحكم في آلاء الله مع آيات الله من خلال كلام الله ، ولذلك نقول أن المساجد برجالها وعلمائها لا بجدرانها وعمرانها ، وقيمة المساجد من قيمة القائمين عليها كما هو معلوم في ثقافتنا وحضارتنا ومشهود في واقعنا .
ومن هنا أضحى لزاما على الأئمة الذين هم رجال المساجد وخدامها وعلماؤها بصفة خاصة والقيمين الدينيين بصفة عامة أن يتسلحوا بالعلم والمعرفة وأن يسايروا الركب الحضاري المتقلب وأن يواكبوا مختلف التغيرات التي تتطرأ على الأمة بصفة عامة والمجتمع المغربي بصفة خاصة وأن يبحثوا عن مكامن الخلل والأبواب والفرج التي تتسرب عبرها مجموعة من التصرفات المشينة والطبائع المبتذلة والعقائد الفاسدة والسلوكيات المنحرفة التي أدت إلى خلل في منظومتنا الأخلاقية والسلوكية وتنشئتنا الاجتماعية ، وأن يسارعوا إلى عالجتها بعلم وحلم وحكمة ورزانة وثبات وبوسطية واعتدال ، لا مغالين إلى حد التطرف المؤدي إلى العدمية والتيئيس ولا متساهلين إلى حد التهاون المؤدي إلى الإخلال بالواجب الشرعي والتفريط في أخلاق الأمة وهويتها الدينية والحضارية والوطنية ، وأن يعتمدوا المنهج النبوي الشريف والتوجيه الرباني الحكيم في الدعوة إلى الله تعالى قال تعالى { أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } ، وأن يستشعروا قدر المسؤولية الملقاة على عاتقهم ، لأنهم الوارثون لسر الدعوة النبوية ، والأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم كما جاء في الحديث النبوي الشريف ، وأن يعيدوا للمسجد دوره الرائد في التربية والتثقيف والإصلاح والصلاح ، وأن يزيلوا كل المنغصات التي تعكر الجو وتؤدي إلى التنافر والتدابر وأن لا يكونوا سببا في ذلك ، وأن ينشروا الطمأنينة بين قاصدي المسجد للصلاة والتعليم ، وأن يحافظوا على هيبتهم الأخلاقية والاجتماعية ، حتى لا تبقى مساجدنا كما قال الشاعر الأندلسي أبو البقاء الرندي رحمه الله في مرثية المعروفة :
حتــى المحارب تبكــي وهي جامدة حتى المنابر تبكـي وهي عيدان
يا غافلا تنبه وله في الدهر موعظة إن كنت في سنة فالدهر يقضان
بقلم الطاهر معرض