الانتماء الحضاري سليمة محفوظي
الثقافة بإجماع المختصين في العلوم مفهوم واسع يشمل ذلك الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة و المعتقد و التراث و الفن و الأخلاق و القوانين و العادات الاجتماعية و إذا ما عدنا إلى الأصل اللغوي للثقافة و التثقيف فستجد معنى التقويم : ثقف الرمح أي قومه و هذبه و الإنسان أدبه وعلمه أما الأخلاق فهي التلقيف بمعنى التهذيب و التأديب و اكتساب النفس الفضائل التي هي أهل لها جاء عند الفيروز أبادي ( 1415هـ، ص. 132) " رجل مهذب : مطهر الأخلاق .". كما جاء في ( المعجم الوجيز 1400 هـ،ص. 647): " و هذب الصبي رباه تربية صالحة خالصة من الشوائب " فنرى إذن أن الثقافة و الأخلاق متلازمان بل إن جوهر الثقافة هي الأخلاق و كل المظاهر الروحية فيما كانت معقولات أو حكمة أو إيمانا أو علوما أو جماليات أو حقوقا كونية كحقوق الإنسان بما فيها الحقوق الثقافية التي لا تصطدم مع الهوية الإنسانية ، و هذا ما يدركه حتى العامي من الناس. ألا ترى أحدهم يقول عمن يسلك سلوكا مشينا و همجيا :" إنه ليس بمثقف". أي هي أقرب لحال الطبيعة المتوحشة والغرائز الهوجاء
لنأت الآن إلى الدين كما نعرفه في الإسلام كيف يمكن تمثل الإسلام بمعزل عن ثقافة المجتمعات العربية من دون الإسلام هذا كلام لا نراه إلا فراغا من أي معنى ! فن المعمار الإسلامي و الإنشاد الديني و الخضرة و الرقص الصوفي كما ورث عن مولاي جلال الدين الرومي و الفلسفة الإسلامية كالتي ورثناها عن ابن رشد ، وعلم العمران البشري الموروث عن ابن خلدون و الفقه و أصوله علم المقاصد الشرعية الذي وصلنا من الشاطبي والقرآن و تلاوته و تفسيره و الحديث و حفظه وشرحه و السيرة النبوية و التاريخ الإسلامي و خاصة تاريخ الأندلس الزاهر و العلماء المسلمين ابن البيروني و ابن الجزار و ما أنتجوه تفاعلا من توجيهات القرآن الكريم الحاث على الاستقراء العلمي و التجريب المنهجي، و الأدب العربي كما عرفناه عند التوحيدي و ابن حزم و الجاحظ و التراث التربوي الإسلامي المنقول عن ابن سحنون و القابسي و و الغزالي ، و المواسم و الأعياد الدينية و الحج و الصلاة في الجوامع و المساجد و الآذان ورمضان و طقوسه و أجوائه هل نعزل كل هذا عن ثقافة الفرد المسلم ماذا يبقى عندئذ ؟ ثقافة غريزية ؟ وعولمة ؟ هكذا من دون تفاعل مخصب ؟! هل منتهى الإبداع أن نتماهى في الآخر دون وعي وإدراك؟ إذا كان هذا هو الإبداع فهو ليس من الإبداع في شيء لأنه تقليد للآخر وسلعة منتهية الصلاحية، فما الإبداع فيه إذن ؟ لاشيء سوى التعبير عن كبت لا ينتهي لبعض المنسبين للفن عربيا
الإبداع هو أن " نخرق الواقع ، أي أن تنشئ على غير مثال سواء كان رسما أو تمثالا أو صورة حية أي معنى للثقافة في عالمنا العربي الإسلامي من دون قيد أخلاقي ومن دون الاستلهام من الإرث الحضاري مع مفهوم الشخصية الإسلامية العظيمة ؟ إن الإبداع في نظرنا لا يناقض ثوابتنا الثقافية، كما قد يخيل للبعض، بل إن الإبداع كل الإبداع هو في عدم الانصياع و التقليد و الغوص في أعماق الذات و تفجير أقصى ممكناتها الذهبية و التخيلية و الروحية و الكيدية إن رسالة المثقف رسالة حضارية خطيرة ، وذلك لعلاقتها بنحت الشخصية القاعدية للمجتمع و تهذيب الذوق العام و الرفع من مستوى الوعي الجمعي لعموم الشعب، و هذا لا يتناقض مع حرية الأفراد و اختياراتهم فالحرية أولا لا تعني همجية و لا بربرية ولا انفلاتا و لا إسهالا أخلاقيا وثانيا الحرية هي اختيار مطلق في الالتزام بمرجعية قيمية، قد تكون الإسلام وقد تكون الحداثة وقد تكون البوذية أو فلسفة كونية تواصلية، في كل الأحوال يتحتم وجود الإطار المرجعي المختار بحرية. هل يمكننا مثلا باسم الحرية أن نذهب للعمل الإداري في لباس البحر، أو أن ننادي بحمل السلاح للانتقال إلى الديمقراطية ؟! ولكن المشكل هذا ليس في الاختيارات الفردية المحضة، إذ من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وليفهم كل واحد منا الدين و الدنيا و السياسة و الأخلاق على شاكلته،و إنما المشكل هو في كيفية رسم سياسة ثقافية تتلاءم مع معتقدات الأفراد وإبداع يعمق الحس بالانتماء الحضاري دون محاربة للعقل