بسم الله الرحمن الرحيم
النفس اللوامة
تتوجع تتألم تتحسر ، تصرخ تبكي ، تنوح ، تصيح ، تستغيث ، تريد الانعتاق ، أو الانفلات ، تترجاه ، تتوسل إليه وهو يضمها ويترجاها كما تترجاه وهي تردد : مجتمع مر مرير تكسوه الأحزان ، تغطيه الأدران ، تغمره الأشجان ، كثرت أوصافه وتعددت نعوته وألوانه ، تضيق بك الأرض بما رحبت إذا تأملت حال بني البشر ، وتصغر العلياء في مقلتك بما وسعت من كثرة الشكوى والهموم ، من كثرة اللمز والهمز والغمز والخيانة والخداع ، ومن كثرة التلون والتغير والتبدل حتى صار حرباء يتغير في كل زمان ومكان ، في كل وقت وآن .
تردد : عم النفاق والحسد واستحوذ على العقول ، أسرت الفضيلة وصفدت في أغلال الشهوات وتحررت الرذيلة وعمت وطمت حتى علت سحوبها في الأفق البعيد ، حجبت عنا شمس السعادة ، فانهالت علينا منها أمطار من قطران الكآبة ، حتى اجتثت السعادة من القلوب ومن هذه الدنيا التي فقدت طعمها ولونها ورائحتها .
يردد : أخوك من بني جلدتك هو منك وأنت منه ، يحس كما تحس ، يتألم كما تتألم ، يحب الفضيلة كما تحبها ، يمقت الرذيلة كما تمقتها ، يحزن كما تحزن ، يحب نفسه كما تحب أنت نفسك ؟ يحب أهله وجماعته كما أنت كذلك ؟
تردد : لكن لكامل الأسى والأسف إذا وقفت معه يكسوك ابتساما ويشبعك من المعسول كلاما ، يبدو لك وديعا لطيفا حنينا حتى تأنس له وتطمئن وتطيب نفسا لعشرته وصداقته ؟
يردد : لكنه جسم إنسان ينطوي على ثعبان مبين إذا انصرفت ووليت وجهك عنه شطر جهة أخرى يبدو على حاله ويعود إلى حقيقته ومعهود كلامه ، يقطعك بألسنة حداد ، يرميك بمكنون داخله العفن وبما انطوت عليه سريرته من أوساخ
تردد : إذن كيف يهنأ الإنسان بالعيش داخل هذا المجتمع ؟ وكيف يفتح ثغره للابتسام البريء ؟ كيف تبتسم أزهار الالتآم والتفاهم والتقارب والتواد والتراحم والتآنس وجليد النفاق يصب على أكمامها ليل نهار ؟ كيف تتوقف العين عن إراق الدمع المسكوب ، كيف لا يشكي القلب حزنا وألما ويفيض الكبد صديدا وحميما ؟
جلس القرفصاء يشبك أصابعه ويعصرها بقوة الحزن وشدة الألم ، طأطئ رأسه إلى الأرض ، تنفس الصعداء من شدة الداء والبلاء ، حل عقدة أصابعه لينبش الرغام بعود ويحرك الحصي والأحجار الهادئة وتماهى في خياله الطويل
طفقت تنظر إليه وتتأمل حاله ساعة من الزمان ، كلمته ولم يجيب ، حركته ولم يتحرك ، هائم في قفار همومه ، صاحت في وجهه صيحة المتألم الحائر هذا هو الشأن والحال ولكن أين المفر والمآل ؟
حرك رأسه يمنة ويسرة ساخرا من الحال والمآل وكثرت الإلحاح والسؤال ثم سكت . وعاد ليتم رحلته في فضاء الخيال ، لينعم مع النجوم البريئة التي صنعها في من خياله في ذاكرته التي لا تتسع إلا لمثل هذه التصورات المثالية
كانت أكثر إلحاحا ورغبة في البحث عن سبيل الخروج والنجاة والانعتاق من دهاليز التقوقع والانكماش ، ظلت تراوده وتحاول الفرار من هذا الواقع المشئوم إلى الطبيعة البريئة إلى عالم الخيال
حاول عبثا إقناعها بالعدول عن طلباتها وأفكارها انطلاقا من حالها لأنها بطبعها وطبيعتها ترتكب الأخطاء التي ترتكبها التركيبة الاجتماعية التي تحاول الهروب منها ومن أمراضها التي أفقدتها معنى طعم الحياة البريئة والفضيلة والسعادة ، لكن ذلك ما زادها إلا نفورا وتعنتا ، وإصرارا على الطلب والهروب بعيدا
حاول مرة أخرى إجبارها على الطاعة وقهرها بلجام الصبر ليقتادها خلفه كالعجماء المطاوعة ، لكنها ظلت تردد عويلا ونحيبا وأنينا وصراخا وشهيقا وزفيرا ، فقط لأنها بقيت على براءتها وقناعاتها
أرهقته بالأسئلة اللامحدودة والمحرجة في كثير من الأحيان والحالات ، فكر وقدر، تأمل ودبر، وجد أنه هي وهي هو ، هي منه وهو منها ، بدونها لا وجود له ، وبدونه لا وجود لها ، هكذا خلقهما الخلاق العليم فتبارك الله أحسن الخالقين بديع السموات والأرض وهو العزيز الحكيم
راجع نفسه مرة أخر بهدوء ثم قال ما دام الأمر كذلك ، سأفتح معها الحوار بحكمة وحكنة وثبات ، طالبها بتضميد الجراح وعيش الواقع بكل مسراته وملذاته ، بحسناته وسيئاته ، بكل أنواع حالاته وهيئاته
لكنها كان لها رأي آخر، أخذته بهدوء ورفق دون الانفعال والتسرع ، بعيدا عن الواقع المرير والمجتمع الحزين ، إلى مجتمع بريء لا يعرف الكذب والنفاق ، لا يعرف الحزن والخيانة والخداع والتمثيل ، إلى غابات الجبال إلى أزهار السفوح إلى رياحين الربوات ، إلى حين يغني مع الطيور الجميلة على أشجار الوديان ويلتحف الورود وتغطيه العلياء بغمامها ، إلى حيث الأرض كلها زرابي مبثوثة من الزهر ، إلى حيث يأكل النسيم ويشرب الأريج
إلى حيث ينام في هدوء ويستيقظ فجرا ويتوضأ بالندى ويذهب إلى المسجد الواسع المفروش بالسجاد المنسوج بأطياف الزهور والأنوار ، التي تنتظر طلوع الشمس وقدوم اليعاسيب والنحول
إلى حيث يسبح مع العصافير المغنية والبلابل المغردة ، ويتنقل معها من غصن إلى غصن ، من شجرة إلى شجرة ، من مكان إلى مكان آخر ، حتى صار وسطها وكأنه واحدا منها ، والأغصان تمسح رأسه وتربت عليه بأوراقها ، وتضع قبلات على خديه بأزهارها وأكمامها
تهب رياح الصبا وتدغدغ قلبه ، وتداعبه شقائق النعمان كما تداعب الأم الحنون رضيعها وتقبله من هنا ومن هناك وهو يبتسم معها ويمسح خدودها بأنامله ، ويتحرك في حضنها الدافئ كما يتحرك الرضيع في حضن أمه الحنون
هدأت قليلا وارتاحت وتبسمت ومسحت الدموع المسكوبة ، ورطبت الجروح المكلومة ، بدأ الفرح والابتهاج ينتشر على محياه
صار يصرخ بأعلى صوته ويردد يا إلهي ما أروع هذا العالم الجميل وما أحسنه ؟ دخلته ونسيت الهموم التي أرقتني منذ زمان والتأمت جراح إخواني وبني جلدتي الذين جلدوني بألسنتهم ورجموني بكلماتهم المسمومة ، ها أنا ذا أتسلق أعالي الأشجار والجبال مع الطيور وأفراخها وأنام معها في وكناتها ، وأشرب الندى مع الزهور وأكمامها ، ها أنا ذا قد تحررت وتطهرت من دنس الأحزان والإنسان
صار يردد ياليتها كانت مجتمعاتنا نقية طاهرة مثل الطبيعة الخلابة الجذابة ، متراحمة متعاونة الكل يحترم الكل ، الكل يرحم الكل السار يطرب الحزين ، والضاحك يمسح دمع الباكي ، الشبعان يطعم الجوعان ، إنها الطبيعة في تكافلها وتكاملها التام ، وصلت إلى كل هذا لأنها لا تعرف النفاق ولا الكذب ولا الحسد ولا البغضاء والشحناء ، لأنها مجبولة ومطبوعة على الخير ، وليست كمجتمعاتنا البشرية المجبولة على الشر والكيد ؟
عادت إليه مرة أخرى بكل هدوء ورزانة وثبات ، لأنها أدركت أنه عاد إلى رشده وتحقق مرغوبها ومرادها ومسعاها التي كانت تهدف إليه ، صارت تتنقل به بين الأشجار والأزهار بين التلال والسفوح والجبال
وقفت لحظة تتأمل وتنظر إليه باستغراب ممزوج بالحيرة والحسرة ، اقترب منها قليلا ثم دنى منها سائلا ماذا بك وما ذا دهاك ؟
لملمت شفاهها بحسرة قائلة : أنظر إلى هذا الطير الصغير كيف يغدو صباحا يطير من غصن إلى غصن ، ومن تل إلى تل ، ومن ربوة إلى ربوة ، ومن مكان إلى مكان ، ويعود مساء شبعانا دون أن يأكل ربا أو يأخذ مالا ليس له فيه نصيب ، أو يحلف ليستحل ما ليس له كذبا وبهتانا وزورا ، دون أن يظلم أو يظلم ، دون أن يغصب أو يغصب ، رغم ضعفه وقلت حيلته يبذل قصار جهده في سبيل الرزق والمعاش يأكل مما قسم الله راض بأمر الله ؟
أنظر إل ذاك الطير الآخر كيف هو مهتم بشأنه وحاله منغمس في عمله وبناء عشه بكل جهد واجتهاد تاركا الآخرين وشأنهم ، أنظر كيف يحترم نفسه والآخرين ؟
أنظر إلى هذا الوادي من النمل كيف يعمل في انسجام تام واحترام كامل ، أنظر كيف يتعاون وكيف ينضبط حتى أثناء الدخول إلى الجحر الضيق ؟
أنظر إلى هذا العصفور كيف هو رحيم بأفراخه الصغار وكيف هو حريص عليهم وعلى صحتهم وسلامتهم وأمنهم وأمامهم ؟
أنظر إلى هذا الهدوء وهذا الانسجام والاحترام، وهذا التعاون والتكامل والتكافل والتواد والتراحم، أليست هذه هي الحياة البريئة ؟ أليست هذه هي السعادة المفقودة ؟ لماذا لا نكون هكذا لماذا ، لماذا لماذا....؟