هوى النفس
((نحن لا نريد لأننا وجدنا الأسباب ولكننا نجد الأسباب لأننا نريد))شوبنهاور
ما يبدو ظاهريا أنه حقيقة قد لا يكون فى واقع الأمر كذلك..وما يبدو أنه منطق سليم يرتكز على مقدمات فيما يقدمه من نتائج قد لا يعدو كونه لعبة تمارسها سلطة خفية ولكنها فاعلة..تدعى هوى النفس...
نحن لا نعقل الأشياء ثم نفعلها..بل على النقيض من ذلك نفعلها ثم نبحث عن تبريرات لها..وقد يستند تبريرنا لها على أسس أخلاقية أو عاطفية أو دينية أو ربما نفعية بحتة..وفى كل هذه الأمور لا يجر الحصان العربة كما هو ظاهر بل إن العربة لتدفع بالحصان دفعاَ إلى حيث ما ارتأت قوى الجذب المستترة والمتباينة التى تطويها جوانح النفس الغائرة..هى النفس فى شغفها بالإنعتاق اللانهائى يعز عليها الانقياد لسلطة العقل وتأبى إلى أن تجر العقل إلى حيث ما أشبع هواها..مغلفة ذلك أو بعض ذلك بغلالة رقيقة من تبريرات لا تنتهى إلا لكى تبدأ..والحق إن الأمر به من اللذاذة ما قد يغريك بإغماض عينيك عن أمور بدهيّة..وحيثما أطلق الفرد العنان لأهواء نفسه..تاركاً عقله تابعاً لا متبوعاً..جاءت النتائج جلية واضحة..كيان ضعيف ووجود خاو..سحابة صيف ومرت ..لا أثر ولا تأثير..تمر الأيام تباعاًوصاحبها هو إياه يمارس عاداته البيولوجية بإمتياز فيما تنفرط حبات أيامه من عقد حياته هباء..جاراً نفسه ومجتمعه إلى هاوية لا تليق بالإنسان من حيث هو إنسان..وعلى النقيض من ذلك حيثما أخذ العقل مكانه ودوره الصحيح أمام العربة ..لا خلفها..قائداً لا مقوداً..أمكن ذلك صاحبه ومن ثم مجتمعه من أن يأخذ مكانه الصحيح بين المجتمعات قوياً فعالاً ومؤثراً يزداد قوة وصلابة مع تقادم الأزمان ويكاد أن يكون الأمر سمة فارقة بين المجتمعات المتقدمة التى لا تترك النفس فيها لأهوائها وإنما تلجمها وتحد من طغيانها وشطحاتها بما أتفق عليه من قوانين ودساتير وتشريعات وبين المجتمعات المختلفة التى تجعل من مستقبلها ومستقبل أبنائها كبش فداء لأهوائها وأمزجتها ..إن المجتمعات القوية المتمدنة لا تغفل هذا الزخم الهائل من اللبيدو الذى تحتويه النفس وإنما تتيح لها عملياً براح انفلاتها وانعتاقها ولكن بأطر متفق عليها تتبع قوانين وضعت بهدوء وتأن وبدون انفعالات وبمنأى عن تاثيرات النفس التى لا ترضى باقل من كامل متعتها ولا تحدها حدود ولا ترفع يدها عن متعة إلا لتضعها على أخرى أكثر إثارة ولا تحسب حساباً لأى عوامل خارج ذاتها..بينما تميل المجتمعات المتخلفة إلى معالجة الأمور بالعاطفة والانفعال وردود الأفعال الفورية ولا يمنعها ذلك من وضع القوانين والدساتير بل والإكثار منها فى نهاية الأمر تبعاً لأهواء وأغراض وأمزجة النفس المتعددة من مثل تطبيق نفس القرار على عديد من الحالات المتباينة أو تطبيق عدة قرارات على حالة واحدة مما يضفى على الأمور حالة هلامية وتحيل كل التشريعات إلى مواد بلاستيكية يعاد تشكيلها وفق مقتضى الحال ومن جديد تقود العربة الحصان وليس العكس وخطورة هوى النفس تكمن فى ذا الكم الهائل من التبريرات الصادرة شكلياً تحت إمرة العقل والمنطق وجوهرياً ليست سوى أصداء وانعكاسات لهوى النفس المتعددة كيما تبدو معقولة ومتماسكة وعلاقة هوى النفس بالتبريرات علاقة آصرة وتأخذ هذه التبريرات وجوها ومظاهر متعددة ...لكنها فى نهاية المطاف تختلق خدمة لأهواء النفس وأمزجتها...
فنفسك تريد شيئا ..لا تهم الوسيلة ..طالما إن فاعلية كل الكوابح معطلة وإن أرفف التشريعات والقوانين غدت مراتع للغبار..وستقوم نفسك بخلق جدل داخلى لكنه جدل متحيز غير عادل وسيتم استدعاء كل الأسباب التى تنساق مع الهوى بينما تصد كل السباب السابحة ضد التيار وفى المراحل الأولى سيتم استخدام هذه التبريرات قبل الشروع فى الفعل ثم تستدعى هذه التبريرات بعد القيام بالفعل وفى مراحل متأخرة لن تحتاج النفس لأى تبريرات بل ستقوم بالفعل وبنظرات وقحة مستفزة للآخرين فيما يشبه ارتداداً للإنسانية ونكوصاً لمقوماتها والمجتمع الذى لا يكتظ بمثل هذه النفوس هالك لا محالة وتتراكم الأمور السيئة فيه بشكل تصاعدى وحتى وإن امتلك ذخائر الدنيا ومدخراتها فلن يمنع ذلك عنه المصير المحتوم وفى دفاع النفس عن اهوائها أمام الآخرين قد تلجأ للعنف الذى يتبدى بمظاهر شتى أهونها السخرية والتهكم والازدراء إزاء من تسامت نفسه عن ذاتيتها وأبى الا أن يكون له دور فى مجتمعه يؤكد به إنسانيته.
إن الأديان والشرائع السماوية تلك التى أنيط بها جعل الحياة أجمل وأروع وأن توالف بين العقل والنفس والجسد لتجعلها وحدة مترابطة متناغمة تليق بالإنسان تفقد دورها الحقيقى حينما ترتبط بهوى النفس فبدلاً من أن ترتفع بالإنسان وقيمه ومثله تتلون هى وتتشكل حسب ما تهوى الأنفس لتنحرف كثيراً بعيداً عن دورها المرسوم لها وتصبح بذلك عبء على الحياة لا ساند لها..فحين تتلفع النفوس بإزار الدين خدمة لأهوائها فإنها تسخره لمصالحها متجاهلة جوهره لحساب مظاهره وشكلياته وبذا فإن الصراع الدينى هو الأمرّ والأكثر قسوة والشد بشاعة لأنه يضفى القدسية على القتل والتنكيل حينما هما فى حقيقة الأمر ليست سوى صدى لأنفس متوحشة وكما يقول القصيمى فى كتابه((عاشق لعار التاريخ))...
((إن القتل والبذاءة باسم العقيدة أو المذهب أو العدل أو الحرية هما قتل وبذاءة بالتوحش الذاتى والرغبة النفسية بررا تبريراً أخلاقيا وعقائدياً..بل حولا إلى عقيدة وأخلاق ولن تجد أقسى قلباً ولا أفتك يداً من إنسان يثب على عنقك ومالك يقتلك ويسلبك معتقداً إنه يتقرب إلى الله بذلك ويجاهد فى سبيله وينفذ أوامره وشرائعه)).
إن الأشياء الجميلة تفقد فاعليتها وتفقد قيمتها حين تخضع لقوى هوى النفس الطبيعية..أما إذا كانت الأنفس صاحبة الأهواء معتلة ومريضة فإن الأمور تصل إلى الحد الذى يتوجب عنده رفع إشارات الخطر قبل فوات الأوان..أو كما يقول القصيمى((والسوء كل السوء لمن ناموا على فوهة بركان قائلين"لعله لا ينطق"))
فهيم الحصادى