أشار ابن جني إلى رمزية اللغة باعتبارها (أصواتاً) ترمز إلى (أشياء) ، وذلك في مجال حديثه عن (أصل اللغة) ، وإن كان غرضه نصيباً من التخيل ، لكن المهمّ أنه كان يحسّ إحساساً قوياً بما في اللفظة اللغوية من (رمزية) ، وذلك حين يقول : " وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً ، فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء ، المعلومات ، فيضعوا لكلّ واحدٍ منهم سمة ولفظاً إذا ذكر عرف به مسمّاه ؛ ليمتاز عن غيره ، وليغني بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين ، فيكون ذلك أقرب وأخفّ وأسهل من تكلف إحضاره ؛ لبلوغ الغرض في إبانة حاله ، بل قد يحتاج في كثيرٍ من الأحوال إلى ذِكر ما لا يمكن إحضاره وإدناؤه ، ................ وحال اجتماع الضدّين على المحل الواحد ، كيف يكون ذلك لو جاز ، وغير هذا مما هو جارٍ في الاستحالة والبعد
مجراه " .
والحقيقة أنّ اعتبار اللغة " نظاماً من العلامات أو الرموز الصوتية " يقود إلى نقطة لم يغفل عنها علماء العربية ، ولم يهملها علماء اللغة المحدثون أيضاً ، تلك هي العلاقة بين (اللفظ) و (مدلوله) ، أو بين (الرمز) و (ما يرمز إليه) . وقد شغل العرب بهذا الموضوع منذ القديم ، واهتمّوا به اهتماماً بالغاً ، من ذلك : ما ذكره ابن فارس من أن
" القلم لا يكون قلماً إلا وقد بري وأصلح ، وإلا فهو أنبوبة . وسمعت أبي يقول : قيل لأعرابي : ما القلم ؟ فقال : لا أدري ، فقيل له : توهمه ، فقال : هو عودٌ قُلّم من جانبه كتقلم الأظفور ، فسُمّي قلماً "([1]).
غير أنّ ابن جني كان هو الذي بسط هذا الموضوع ، وتوسع في الحديث فيه ؛ إذ كان يؤمن أنّ هناك صلة قوية بين اللفظ ومدلوله ، وقد ذكره في غير موضع من كتابه (الخصائص) ، ثم خصّص فيه فصلين لهذا الموضوع ، هما :
1/ (باب في تعاقب الألفاظ لتعاقب المعاني) .
2/ (باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني) .
ومما هو ملحق بهذين البابين ويدور في فلك العلاقة بين اللفظ والمعنى ، وتأثر أحدهما بالآخر زيادةً في المبنى أو نقصاً ، هو : (باب في قوة اللفظ لقوة المعنى) .
والحقيقة أنّ تلك الأبواب الثلاث كلّها تعكس اهتمام ابن جني بتلك العلاقة بين اللفظ والمعنى ، ومحاولة بسط تلك العلاقة بضرب الأمثلة ..
هذا ، وسيأتي الحديث حول هذه الأبواب الثلاث وما احتَوَت عليه من بعض الملاحظات والمآخذ ، ومحاولة التماس الفروق بينها ..
......................
([1]) فقه اللغة في الكتب العربية ، عبده الراجي ، ص64 .
أولاً : باب تعاقب الألفاظ لتعاقب المعاني :
ذكر ابن جني في هذا الباب أنّ أكثر كلام العرب عليه ، وإن كان غفلاً مسهواً عنه .
والحقيقة أنّ ما طرحه من الأمثلة على هذا لا يكفي لإثبات اطراد هذه الظاهرة في اللغة ، ومن ثَمّ القول بأنّه من خصائصها ، وبخاصة في لغة لها سعتها كالعربية .
وفضلاً عن هذا ، فإنه بالعودة إلى عنوان هذا الباب وباب (الإمساس) ، فإنّ هذين العنوانين قد وردا تحت معنى التناسب أو التآلف أو التوفيق أو المراعاة عند البلاغيين ، كابن سنان ، والخطيب ، وابن الأثير ..
فابن سنان يقول - مثلاً - : " أما تناسب الألفاظ من طريق المعنى فإنها تتناسب على وجهين : أحدهما : أن يكون معنى اللفظين متقارباً ، والثاني : أن يكون أحد المعنيين مضادّاً للآخر أو قريباً من المضادّ ، فأما إذا خرجت الألفاظ عن هذين القسمين فليست بمتناسبة "([1]).
ووردا كذلك عند علماء اللغة ، كابن فارس تحت عنوان : (أجناس الكلام في الاتفاق والافتراق)([2]).
ثم هما قد وردا بتوسّع نقلاً عن كثيرٍ من العلماء عند السيوطي تحت باب
(معرفة الأضداد) .
والذي يظهر في هذا الباب رغم أنه قدم فيه الألفاظ على المعاني وقال بتعاقب الألفاظ لتعاقب المعاني ، إلا أنه أثناء عرضه للأمثلة في هذا الباب يتفاوت في تقديم اللفظ وتأخيره ، فنجده - مثلاً - يقول في جلف وجرم : هما متقاربان معنى ، متقاربان لفظاً !!.
ويقول - أيضاً - : " وقالوا : الغدر ، كما قالوا : الختل .. ثم يعقب قائلاً :
" والمعنيان متقاربان ، واللفظان متراسلان " !!. أو يقول : " المعنيان متقاربان " ، ثم يقول : " والهمزة أخت العين " في الأز والهزّ
ويقول : " لتقارب اللفظ والمعنى " ، أي : معاً ، فلا يقدم أحدهما على الآخر([3]).
وهو يصرُّ في هذا الباب على تعاقب اللفظ لتعاقب المعنى ، ويورد من أمثلته : العسف والأسف ، فرغم تقارب اللفظين ، إلا أن المعنيين غير متقاربين .. وسأفصّل هذا فيما بعد .
فهذا التعاقب الذي يقصده ما هو إلا جزء مما سماه ابن فارس : (الاتفاق والافتراق) .
وما قال به المبرد في كتاب (ما اتفق لفظه واختلف معناه) كما أورد هذا السيوطي .
فهذا الباب والذي يليه فقد يندرج تحتهما اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين ، واختلاف اللفظين والمعنى واحد ، واختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين .. وهذا عند المبرد .
أما ابن فارس فأدرج تحت هذا الباب - الاتفاق ، الافتراق - اختلاف اللفظ واتفاق المعنى ، واتفاق اللفظ واختلاف المعنى ، واتفاق اللفظين وتضادّ المعنى ، وتقارب اللفظين والمعنيين ، واختلاف اللفظين وتقارب المعنيين ، وتقارب اللفظين واختلاف المعنيين([4]).
ثم إن السيوطي نقل عن المبرد أنّ هذا الضرب كثير جداً - أي : الاتفاق والافتراق - ، وهذا يتعارض مع قول ابن جني في أنّ هذا الباب الذي يقصده هو كثيرٌ أيضاً في كلام العرب ، رغم أنّه جزء مما جاء عند المبرد .
وعقد الثعالبي فصلاً سماه : (في تقارب اللفظين واختلاف المعنيين)([5]).
هذا ، فضلاً عن الباب الذي عقده ابن قتيبة في كتابه (مشكل القرآن) ، والذي يسبق ابن جني في هذا ..
وبناءً على ذلك ، فالذي يظهر أن ابن جني إنما هو يتوخى الغرابة في التعبير ، وهذا وارد في معظم كتابه ؛ إذ هو يتأنق في أسلوبه ، وقد يتكلّف أحياناً .
والذي يظهر ثانياً عند تأمل هذا العنوان الذي طرحه ومدى ملاءمته لمضمونه ، نجد أنه لا يقصد تعاقب الألفاظ لتعاقب المعاني ؛ لأنّه - كما سبق الحديث عن ذلك - قد يقدّم المعاني على الألفاظ ، وأحياناً أخر يجمعهما معاً عند عرضه للأمثلة والتعقيب عليها .
والذي يؤوّل لهذا أنّه اختار تقديم اللفظ في العنوان ؛ لأنّ هذا منهج اتبعه في عرض عناوين كتابه من باب الترتيب والتنظيم ، وإلا فإن المسألة نسبية .
ومما يؤخذ عليه في هذا الباب : أنّ كثيراً من أمثلته يظهر أنها تجانب ما يقصده أحياناً .
فمثلاً في قوله : " شرب ، كما قالوا : جلف " ، وعلّل هذا ؛ " لأنّ شارب الماء مغنٍ له كالجلف للشيء " ، ولم يزد على هذا التعليل ؛ مما يُشعر بضعفه ؛ إذ شتان بين الشرب والجلف ، وإذا كانت الأحرف متقاربة في النطق ، فإن المعنى مختلف ، وما أوجده من تقارب إنما هو تمحُّل .
فالجلف هو استئصال ، فهل يسمى شرب الماء استئصالاً ؟؛ إذ لا يُستأصل إلا ما له جذر أو مما هو في حكمه ، فأي جذر للماء حتى يُستأصل ؟!.
وكذلك قوله : " ألته حقه ، كما قالوا : عانده " ، فأيّ معنى متقارب بين اللفظين ؟!.
أيّ معنى بين نقصان الحقّ وبين هذه المعاندة التي قد لا تدخل في الزيادة أو النقصان ، إنما الثبات على حالٍ واحدة .
ومما هو محيّرٌ أيضاً : ما عقده بين : زأر ، وسعل ..
فهل معنى (زأر) بمعنى (سعل) ؟.
فإذا كان يقصد الغاية منهما فهذا ممكن ..
إنما هناك فروق دقيقة بين المعنيين ، وليس في هذه الكلمتين فقط ، إنما غالب ما أورده من كلمات ملتمساً المقاربة بين معانيها ، فبينها من الفروق ما بينها !!.
فهو حينما يحاول أن يقارب بين اللفظين دائماً ، ويقول مثل : العين أخت الحاء ، والهمزة أخت الهاء .. فإنه مبني على هذا التقارب في اللفظ تقاربٌ في المعنى ، وقد لا يكون هناك تقارب لِما سبق من التعليل ، وهو تلك الفروق الدقيقة بين المعاني .
وإذا كان هناك تقارب في الاشتقاق الصغير فلا يُجزم به في الاشتقاق الكبير ؛ لأنّ المدققين من علماء اللغة لم يشترطوا في الاشتقاق الكبير وجود التناسب في المخارج بين الأحرف المختلفة ، لكن مع ذلك توسّعوا في تعريف هذا الاشتقاق ومفهومه ، وجعلوه بحيث يتناول إبدال حرف من آخر مطلقاً ، وافقه في المخرج أو لم يوافقه فيه ، بشرط حصول التناسب المعنوي بين اللفظين([6]).
ومما هو ملفت ويستوقف في هذا الباب : هو قوله : " وقالوا : جاع يجوع ، وشاء يشاء ، والجائع مريد للطعام لا محالة ، ولهذا يقول المدعو إلى الطعام إذا لم يجب : لا أريد ، ولستُ أشتهي ، ونحو ذلك ، والإرادة هي المشيئة ... "([7]).
فإذا كانت تلك من (ج و ع) والأخرى من (ش ى ا) ، والجيم أخت الشين ، والواو أخت الياء ، والغين أخت الهمزة ، فإنني حاولت أن أربط بين المعنيين ، أو أن أجد ترابطاً ، لم أستطع !!.
فهل من يجوع بإرادته ؟.
وإذا كان هو مريد للطعام .. نعم !!.
فهل جاع بمعنى أراد ؟.
إنّ الجوع هو ضدّ الشبع ..
ووهي بمعنى عطش ، واشتاق في معنى (جاع إليه)([8]).
وما هو ملفت أيضاً هو قوله : " وقد تقع المضارعة في الأصل الواحد بالحرفين ، نحو قولهم : السحيل ، والصهيل ، وهذان أصلان ، لا أصل واحد ..
لكن ربما هذه من سقطات العلماء ، ولولا أنه لا يعي أنها أصلان ، وإنما قد غفل فقط لما ذكر في (ص151) أثناء حديثه عن الربط بين لفظة جعد وشحط ، قوله : وذاك من تركيب (ج ع د) ، وهذا من تركيب (ش ح ط) ، فدلّ هذا على علمه ، وما مضى يُعدّ من غفلات العلماء .. " .
([1]) سرّ الفصاحة ، لابن سنان ، ص199 .
([2]) انظر : الصاحبي ، ص206 ، مفصّلاً .
([3]) الخصائص ، لابن جني 2/149 .
([4]) المزهر ، للسيوطي ، ص388 .
([5]) فقه اللغة وسرّ العربية ، للثعالبي ، ص345 .
([6]) دراسات في فقه اللغة ، محمد الأنطاكي ، ص337 .
([7]) الخصائص 2/151 .
([8]) القاموس المحيط ، للفيروز آبادي ، باب العين ، فصل الجيم .
عطاف سالم... عروض كوم