الاسم واللقب: عمار لعويجي .
الهاتف : 0779051122
البريد الالكتروني :medlamine20102010@hotmail.com
عنوان المقال
قضايا صوتية دلالية
في
كتاب الخصائص لابن جني
مقدمة:
-اهتم العرب بالقرآن الكريم حفظًا وتلاوةً وشرحاً وتفسيراً منذ نزوله على الرسول الأمين محمد (ص)، وأصبح المنهل الذي لا ينضب لكل دارس للغة العربية.
وازدادت العناية به لمّا دخلت الأقوام المختلفة الأجناس إلى الإسلام التي كان من آثارها فشوّ اللحن وتسرّبه إلى الألسنة وبخاصة إلى التنزيل الحكيم.
وكان من نتائج هذه العناية ظهور علم التجويد الذي حافظ على النطق السليم لأصوات القرآن الكريم، إذ تحدث المجودون عن مخارج الحروف ووصفوها وصفاً دقيقاً، وبيّنوا علاقتها بما يجاورها مع توضيح أثر هذا التجاور، مما يدل على ذوقهم المرهف وشفافيته، فجاءت جوانب كثيرة من دراستهم علمية و دقيقة.
ونمت الملاحظات الصوتية إلى أن أصبحت معالجة في علوم اللغة المختلفة تسهم في تفسير كثير من مشكلاتها، أدت إلى إعجاب المستشرقين بها، فأشادوا بجهود علماء العربية في هذا الميدان، كما استفاد الغربيون منها وأصلوا عليها فروعاً عديدة مكنهم منها ظهور الآلات الدقيقة والتحليل الصوتـــي في المختبرات، والتطور التقني الذي شهده القرن العشرين وبخاصة ابتداء من الستينيات.
وقد ارتكزت هذه الدراسة على قطبين أساسيين هما: علم الأصوات النطقي والسمعي وعلم وظائف الأصوات، اللذان عولجا تحت مظلة واحدة، إذ كلاهما يدرس الصوت اللغوي، والعلاقة بينهما شديدة والفصل بينهما صعب الحصول.
وتحسن الإشارة إلى أن البحث الصوتي العربي لم يضمه مصدر واحد، ولم يتناوله عالم واحد، ولكنه تناثر بين طيات مصنفات علوم العربية المختلفة، الصوتية منها والنحوية الصرفية، والبلاغية، والتجويدية وإعجاز القرآن والمعاجم، وتعدد العلماء الذين شاركوا في إقامة صرحه وتوطيد بنيانه، وكل ذلك يدل على عناية القدامى وتعلقهم بهذا الميدان لأهميته وأثره الفعال في تفسير كثير من الظواهر اللغوية.
ومن الأعلام الذين ضربوا بسهم وافر في عدّة نواح من الدراسة اللغوية،وكانت لهم اليد الطولى في تأسيس التراث الصوتي، والذين لا تزال تفتخر بهم الأمة العربية: الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175هـ)، وسيبويه (ت180هـ)، وقطرب (206هـ)، وابن جني (ت392هـ) وابن سينا (ت428هـ) وابن سنان لخفاجي (ت466)، والزمخشري (ت538هـ)، والسكاكي (ت626هـ) إلى غيرهم من الأفذاذ، والعلماء الأجلاء الذين واصلوا المسيرة العلمية عبر القرون، شعوراً بمسؤولياتهم تجاه أمتهم وأجيالها لتنكب على تعلم لغتها وتدارسها والاعتزاز بها.
ومن بين هؤلاء العلماء رحمة الله عليهم جميعًا,سأتطرق إلى ابن جني وجهوده الصوتية, من خلال كتابه الخصائص, حيث عرّف اللغة بقوله:
(أما حدها فإنّها أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم)(1), وهو تعريف هام يستوقف الباحث اللغوي الحديث، ذلك أنه تعريف دقيق يذكر أبرز الجوانب المميزة للغة، فهو يؤكد أولاً الطبيعة الصوتية لها، ويذكر وظيفتها الاجتماعية في التعبير ونقل الفكر، كما يشير إلى اختلاف البنية اللغوية باختلاف المجتمعات الإنسانية، وهذه الجوانب الثلاثة تتناولها التعريفات الحديثة للغة، والذي يهمنا في هذا المقام أولها، فقد نظر ابن جني إلى اللغة على أنها أصوات أو لا تحمل دلالات يقوم بها التفاهم بين البشر حين يتخاطبون، وعرف أن الأساس في الظاهرة اللغوية النطق، وهو أساس تقوم عليه أكثر الدراسات المعاصرة. إذ تعنى بالكلام المنطوق أولاً، وتدرسه من جوانب أربعة أولها وأهمها الجانب الصوتي,وابن جني أول من جعل الأصوات علماً، وأطلق عليها هذا اللفظ الواضح الصريح قبل الغربيين بقرون، ودل به على دراسة الأصوات والبحث في مشكلاتها المختلفة على نحو مشابه للدرس الصوتي الحديث.
يقول: (هذا القبيل من هذا العلم. –أعني علم الأصوات والحروف- له تعلق ومشاركة للموسيقى لما فيه من صنعة الأصوات والنغم) (2).
ـــــــــــــ
(1) ابن جني , الخصائص ,ص67,ج1, تحقيق محمد علي النجار,عالم الكتب,ط1,بيروت لبنان (1427هـ-2006م).
(2) ابن جني : سر صناعة الإعراب.
1-نبذة عن المؤلف:
هوأبو الفتح عثمان بن جني (320هـ -392هـ ) أحدأشهرعلماء اللغة في القرن 4هـ إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق , نشأ بالموصل وبها تلقى مبادئ العلم وجلس بمسجدها يعلم العربية, اتصل بأبي علي الفارسي وانعقدت بينهما صلات دامت 40 عاما ,حيث أقام معه في قصر سيف الدولة بحلب كما انتقل مدة إلى قصور البو يهيين في شيراز وبغداد.
وأتيح له في دار السلام أن يلتقي بابن مقسم (1) .فأخذ عنه علم ثعلب, ثم استقر في بغداد ودرس العلم بها إلى أن مات.
ـــــــــــــ
(1)ابن مقسم : محمد بن الحسن بن يعقوب , عالم من علماء اللغة و الشعر من أحفظ الناس لنحو الكوفيين وأعرفهم بالقراءات. له كتاب في التفسير سماه "الأنوار".
آثارا بن جني:
ترك ابن جني ثروة ضخمة أغلبها يدور حول العربية وخصائصها وأسرارها, وأهم تلك الآثار.كتاب " الخصائص "و "سر صناعة الإعراب" و "المنصف" وهو كتاب:في الصرف عُنِي فيها بن جني بشرح كتاب:" التصريف" للمازني.
كتاب الخصائص موضوعه ومنهجه:
وهو أوفى ما نعرف من كتب ابن جني التي تعرضت لدراسة اللغة وهو أيضا أوفى كتاب وضع في خصائص العربية ,لم يكيف فيه صاحبه بالنقل ووصف الظواهر بل ناقش القضايا وعلل لها.
غاص ابن جني في أغوار العربية وفهم أسرارها وخرج بعدد من خصائصها استطاع أن يبرزها في جدل سهل وحجاج لطيف ويخيل لقارئ الخصائص أن ابن جني لم يترك شيئا يتصل بالعربية إلا تناوله وتحدث عنه.
وقد بوب ابن جني كتابه في ستين ومائة باب ,وهذا يدل على مدى ضخامة المادة التي عالجها.
ــــــــــــــ
(1)ابن مقسم : محمد بن الحسن بن يعقوب , عالم من علماء اللغة و الشعر من أحفظ الناس لنحو الكوفيين وأعرفهم بالقراءات. له كتاب في التفسير سماه "الأنوار".
أهم موضوعات الكتاب:
1- اللغة بين التوقيف والإلهام والمواضعة والاصطلاح :
من الموضوعات الهامة التي شغلت بال اللغويين العرب القدماء موضوع نشأة اللغة,وهل نشأت توقيفا إلهاما أي بوحي من الله وإلهام منه أم نشأت تواضعا واصطلاحا حسب حاجة المتكلمين وتواضعهم على ألفاظها ومصطلحاتها.
ومعلوم أن من ذهب إلى توقيفية اللغة قد استند إلى ماورد في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة:{ وعلم ءادم الأسماء كلها }(1).إذ ذهب هؤلاء إلى أن الأسماء الواردة في الآية مقصور دبها اللغات التي علمها الله آدم إلهاما وتوفيقا, وكان أحمد بن فارس-معاصر ابن جني- يرى هذا الرأي وكذلك كان أبو علي الفارسي أستاذه.
وفريق آخر يرى أن اللغة ربما نشاتم واضعة,بيدأن ابن جني تردد بين الفريقين فلم يقبل رأي القائلين بتوقيفية اللغة الا على تأويل لتفسير الآية الكريمة:
{وعلم ءادم الأسماء كلها}آلآية21-البقرة.إذيذكرأن الله اقدر آدم على ان واضع عليها,وصادف هذا التأويل قبولا من أبي علي الفارسي وأبي الحسن الأخفش.
وفي بعض الأحيان نجد ابن جني يؤيد رأي من ذهب إلى توقيفه اللغة,وفي أحيان أخرى ينحازإلى رأي القائلين بالاصطلاح,وعاشت الفكرة في دهنه على هذين الوضعين المتضادين, ولكنه لم يستقم له مجه يتغلب على الوجه الآخر,وما لبث أن قرر رأيه على الوجهين معا:التوقيف والاصطلاح,اذيرى أن اللغة الأولى التي تكلمها الإنسان الأول –آدم- كانت إلهاما ثم لما احتيج فيها إلى الزيادة زيدت بحسب حاجة الإنسان.
ــــــــــــــ
(1)سورة البقرة ,الآية21.
2- الاشتقاق الأكبر:
كتب في الاشتقاق جماعة منهم الأصمعي وقطرب,وأبو الحسن الأخفش وأبونصر الباهلي,والمبرد,وابن دريد وغيرهم ويعنون بالاشتقاق وجود صال من الصيغ يمكن أن يشتق منه صيغ أخرى (كضرب)فانه دال على مطلق الضرب فقط إما ضارب ومضروب ويضرب واضرب فهي صيغ أخرى تشتق من الأصل وتشترك معه في الهيئة.
ولكن ابن جني ابتع الاشتقاق الأكبر حين وجد في تقاليب المادة معنى مشتركا وأصبح الاشتقاق عنده على نوعين: كبير وهو أن تأخذ أصلا من الأصول الثلاثية فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحدا تجتمع التراكيب وما ينصرف من كل واحد منها عليه فمعنى(ق و ل )أين وجدت وكيف وقعت من تقدم بعض حروفها على بعض,وتأخره عنه إنما هو للحفوف والحركة وفي معنى(ك ل م) حيث تقلبت دلالة القوة والشدة.
والاشتقاق الصغير هو ما في أيدي الناس وكتبهم(المصدر وما يشتق منه ).
3- السلب:
المعروف أن كل فعل أو اسم مأخوذ من الفعل أو فيه معنى الفعل قد وضع في كلامهم على إثبات معناه ,فقولك
قام) لإثبات القيام و(جلس) لإثبات الجلوس.
ولكن ابن جني لا حظ أنهم مع هذا قد استعملوا ألفاظا في كلامهم , من الأفعال ومن الأسماء الضامنة لمعانيها في سلب تلك المعاني لا إثباتها ,فتصريف (ع ج م )أين وقعت إنما هو للإبهام وضد البيان...,ثم أنهم قالوا: اعجمت الكتاب إذا بينته وأوضحته فهو إذا لسلب معنى الاستبهام لا إثباته.
2- الجهود الدلالية الصوتية عند ابن جني من خلال كتابه" الخصائص":
في القرن الرابع الهجري،ينهض ابن جني عالما لغويا, قدم دراسات كانت ولازالت لها فاعليتها في الثقافة اللغوية,والنشاط الفكري,إن على المستوى النظري المنهجي أو على المستوى الإجرائي التطبيقي .ولذلك يعد ابن جني من أعظم العلماء الذين قدموا نموذجا مشرقا لمباحث اللغة في التراث العربي المعرفي,فبدت اللغة العربية في" خصائصه"لغة لاتدانيها لغة لما اشتملت عليه من سمات حسن تصريف الكلام,والإبانة عن المعاني بأحسن وجوه الأداء,كما فتح أبوابا في العربية لاعهد للناس بها قبله كوضعه لأصول الاشتقاق بأقسامه,ومناسبة الألفاظ للمعاني, ومنها "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني" سجل فيه أن مخارج حروف اللفظ التي تقترن مع مخارج حروف لفظ آخر,هما متقاربان دلالي لتقاربهم فونولوجيا وتلك خاصية من خصائص اللغة العربية,وهذه الملاحظة تنم عن دقة وعمق رؤية ابن جني لنظام اللغة.
ورأى أن الألفاظ متقاربة الأصوات توحي بدلالات ومعان متقاربة,فالمعاني المتقاربة ذات ألفاظ متقاربة وقد قسمه إلى:
كلمات تتفق في الحروف وكلمات تتفق في بعضها,وما تفق في بعض الحروف مثل:
(رخو)-(رخود) فهما متفقان فاء وعينا ومختلفان لاما الأول من (ر خ و)والثاني من
ر خ د) والرخو: هوا لضعف ,والرخود: التثني الذي يرجع إلى معنى الضعف. ومثل : (أز) و(هز) قال تعالى:{ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا}(1).أي تزعجهم وتقلقهم,وهذه الدلالة نجدها في :تهزهم هزا.
ومثل: وصف صوت الفرس :صهل –سحل ؛فالصاد أخت السين والهاء أخت الحاء من حيث المخرج.
كما اكتشف ابن جني وجود صلة بين بعض الأصوات وبين ما ترمز إليه,وأول ماحداه بهذا الإكشاف تسمية بعض الأشياء بأصواتها كالبط لصوته , وغاق للغراب لصوته, ونحو: حاحيت,وعاعيت, وهاهيت إذا قلت: حاء – وعاء- وهاء.
ونحو:بسملت ,وهللت ,وحولقت ,كل ذلك وأشباهه إنما يرجع في اشتقاقه إلى محاكاة الأصوات.
وذهب ابن جني إلى أبعد من هذا,وهو دلالة الصوت (الفونيم)في الكلمة على المعنى حيث قال :" ومن طريف مامربي في هذه اللغة التي لايكاد يعلم بعدها, ولا يحاط بقاصيها, ازدحام الدال ,والتاء, والطاء, والراء ,واللام, والنون .إذا مازجتهن الفاء على التقديم والتأخير ,فأكثر أحوالها ومجموع معانيها أنها للوهن والضعف ونحوهما ".الخصائص.
واحتج ابن جني لما رآه من دلالة هذه الأصوات على الوهن والضعف بكلمات وردت فيها مثل : الدالف :للشيخ الضعيف والشيء التالف,والد نف: المريض والطرف أضعف من قلبه وأوسطه.
قال تعالى :{ أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها}(2)
ــــــــــــــــ
(1) سورة مريم .الآية :83.
(2) سورة الرعد. الآية:41.
ومثل : الفارط:أي المتقدم المنفرد. والفتور: الضعف,والرفت :الكسر والرديف,لأنه ليس له تمكن الأول ,وغير ذلك من الكلمات التي جاءت فيها أصوات (الدال أوالتاءأو الفاءأوالراءأو اللام أوالنون مع صوت الفاء,الذي جاء قسيمًا لهذه الأصوات في بعض الكلمات للدلالة على الوهن والضعف.
ورأى ابن جني أن هناك أصوانا أقوى في المعنى من غيرها,وكذلك لها دلالة تميزها عن قسيمتها في معظم الأصوات مثل
قضـم – خضــم) فقضم تستخدم في اليابس ,وخضم في الرطب ,وذلك لقوة القاف وضعف الخاء, فجعلوا الحرف الأقوى للفعل الأقوى والصوت الأضعف للفعل ألأضعف ومثال ذلك أيضا
صعد- سعد),فصعد لصعود الأشياء المحسوسة مثل:صعد الجبل والحائط , وسعد في الأشياء المعنوية مثل :سعيد الجد أي عالي القدر. وعلل ذلك بقوة الصاد وضعف السين , والمحسوسات أقوى من المعنويات, فتطلب التعبير عنها بالأصوات القوية . والدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية ، واستشهد ابن جني على قوله هذا بــ " النضح" و" النضخ" والنضخ للماء ونحوه والنضخ أقوى من النضح قال تعالى: {فيهما عينان نضا ختان}(1).
فجعلوا الحاء – لرقتها- للماء الضعيف والخاء – لغلظتها – لما هو أقوى منه.
ومثال ذلك
القد )و (القط),القد للقطع طولاً, والقط للقطع عرضًا, فالطاء تفيد السرعة ومن ثم استخدمت في قطع العرض والدال استخدمت في قطع الطول, لأنها تفيد المماطلة والطول.
وعرض ابن جني أمثلة كثيرة من اللغة تبين دلالة الصوت في الكلمة .وتناول الأصوات التي تضاهي بأجراسها حروف أحداثها. مثل:شدَ- جرَ,ومثل: فتح –فرح- خلق –خسر.
وسنتطرق إلى هذا بمزيد من الشرح والتفصيل ,حسب ماجاء في أبواب كتا ب الخصائص:
ـــــــــــــــــ
ـ(1)سورة الرحمن.الآية:66
-باب في تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني
يقول ابن جني: هذاغورمن العربية لايٌٍٍِِِنتصَف منه ولا يكاد يٌحاط به ,وأكثر كلام العرب عليه,ولإن كان غٌفلا مسهوًا عنه.وهو على أضرب:
منها اقتراب الأصلين الثلا ثيين؛(كضياط وضيطار),(ولوقة وألوقة),(ورخود,ودرخود),(و ينجوج والنجوج ).وقد مضى ذكر ذلك، ومنها اقتراب الأصلين,ثلاثيا أحدهما ,ورباعيا صاحبه ,أورباعيا أحدهما وخماسيا صاحبه مثل
دمث-دمثر)و(سبط -سبطر)و(لؤلؤ-لأل)و(الضبغطي-الضبغطري)
ومنه قوله:قد دَرْدَبــَت والشيخُ دَرْدَبيس
ومنها التقديم والتأخير على ما قلنا في الباب الذي قبل هذافي تقليب الأصول نحو
ك ل م),(م ك ل ) ونحو ذلك ,وهذا كله والحروف واحدة غير متجاورة.
لكن من وراء هذا ضرب غيره,وهو أن تتقارب الحروف لتقارب المعاني وهذا باب واسع.
من ذلك قوله تعالى:{ألم ترأنا أرسلـــــــنا الشياطين على الكافريـــــــن تـــــــــــؤزهم أزا }(1),أي تزعجهم وتقلقهم ,فهذا في معنى تهزهم هزا , والهمزة أخت الهاء؛ فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين ,وكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء,وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز ,لأنك قد تهز مالا بال له ؛كالجذع وساق الشجرة ونحو ذلك . ومنه (العسف ,والأسف)؛والعين أخت الهمزة كما أن الأسف يعسف النفس وينال منها ,والهمزة أقوى من العين كماأن أسف النفس أغلط من التردد بالعسف .فقد ترى تصاقب اللفظين لتصاقب المعنيين.
ومن ذلك تركيب (ح م س)و(ح ب س) قالوا :حبست الشيء وحمس الشر إذا اشتد
والتقاؤهما أن الشيئين إذا حبس أحدهما صاحبه تمانعا وتعازا ,فكان ذلك كالشر يقع بينهما.
ــــــــ
(1) سورة مريم .الآية: 83
ومنه العلب :الأثر,والعلم: الشق في الشفة العليا. فذلك من (ع ل ب) وهذا من (ع ل م) والباء أخت الميم.
ومنه تركيب (ق ر د )و ( ق ر ت) قالوا للأرض: قردد ,فهومن قرد الشيء وتقرد إذ ا تجمع ,وقالوا: قرت الدم عليه أي : جمد .والتاء أخت الدال كما ترى .
ومن ذلك العلــز: خفة وطيش وقلق يعرض للإنسان وقالوا : العلـوص: لوجع في الجوف يلتوي له الإنسان ويقلق منه , فذاك من (ع ل ز)وهذا من (ع ل ص) والزاي أخت الصاد.
واستعملوا تركيب (ج ب ل)و ( ج ب ر)و ( ج ب ن) لتقاربها في موضع واحد , وهو الالتئام والتماسك.منه الجبل لشدته وقوته ,وجبرت العظم ونحوه أي قويته , وجبن إذا استمسك وتوقف وتجمع.
وقد تقع المضارعة في الأصل الواحد بالحرفين نحو قولهم : (السحيل)و(الصهيل) قال:ذاك من(س ح ل) وهذا من (ص هـ ل)والصاد أخت السين كما أن الهاء أخت الحاء.
وقالوا : صـال-يصـول .كما قالوا :سـار- يســور.
وتجاوزوا ذلك إلى أن ضارعوا بالأصول الثلاثة : الفاء والعين واللام .
فقالوا: عصر الشيء.وقالوا: أزلـه ,حبــِسهُ ,والعصر ضرب من الحبس.
وذاك من (ع ص ر )وهذا من (أزل) والعين أخت الهمزة. والصاد أخت الزاي .والراء أخت اللام .
وقالوا :الأزم :المنع ,والعصب : الشد فالمعنيان متقاربان .والهمزة أخت العين ,والزاي أخت الصاد , والميم أخت الباء,وذاك من (أ ز م) وهذا مـــــــــن (ع ص ب ).
وقالوا: (السلب) و(الصرف), وإذا سُلِبَ الشيء فقد صُــِرفَ عن وجهه.
فذاك من (س ل ب) وهذا من (ص ر ف ) والسين أخت الصاد واللام أخت الراء والباء أخت الفاء.
وقالوا :الــغدر كما قالوا : الــــختل والمعنيان متقا ربان واللفظان متراسلا ن فذاك من (غ د ر) وهذا من (خ ت ل ) فالغين أخت الخاء, والدال أخت التـــاء والراء أخت اللام.
وقالوا: (السيف) و(الصوب) وذاك أن السيف يوصف بأنه يرسب في الرضية لحدته ومَضَائه ,ولذلك قالوا: سيف رسوب وهذا هو معنى صاب يصوب إذا انحدر, فذاك من ( س ي ف) وهذا من (ص و ب ) فالسين أخت الصاد والياء أخت الواو والفاء أخت الباء.
وقالوا : فلان حـِــــلْــسُ بيتِه إذا لازمه. وقالوا:أرز إلى الشيء إذا اجتمع نحوه وتقبض إليه. فذاك من (ح ل س ) وهذا من ( أ ر ز )فالحاء أخت الهمزة ,واللام أخت الراء , والسين أخت الزاي .
وقالوا
أ فــــــــل ).كما قالوا: (غبـــــــر) لأن أفــــــل : غاب , والغابر غائب أيضا ,فذاك من (أ ف ل ) وهذا من ( غ ب ر ) فالهمزة أخت الغين , والفاء أخت الباء , واللام أخت الـــــــر اء .
-باب في امساس الألفاظ أشباه المعاني
اعلم أن هذا موضع شريف لطيف .وقد نبه عليه الخليل وسبيويه وتلقته الجماعة بالقبول له ,والاعتراف بصحته .
قال الخليل : " كأنهم توهموا في صو ت الجندب (1) استطالة ومدا .فقالوا: صــرَ وتوهموا في صوت البازي تقطيعا فقالوا: صـــــرصـــــر وفي هذا الباب ينبه إلى أنواع أخرى من الدلالة الصو تية, وهي حكاية الأصوات الطبيعية ,والصيغ الصرفية ,وحكايةأصوات الهجاء فمن ذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرارنحو: (الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقعة )إلى أن يقول : ووجدت أيضا "الفــَعَــــلَى" في المصادر والصفات إنما يأتي للسرعة نــــحو:
( البشكى , الو لقى ).
ـــــــ
(1)الجندب:ضرب من الجراد أو ذكره.
ومن ذلك وهو اصنع,أنهم جعلوا "استفعل" في أكثرالأمرللطلب نحو : استسقى –استطعم –استو هب – استمنح ...
كما أنهم كثيرا مايجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر بها عنها فيعدلونها بها ويحتدونه عليها...
ومن ذلك قولهم : قرت الدم –قرد الشيء وتقرد – وقرط يقرط فالتاء أخفت الثلاثة فاستعملوها في الدم إذا جف .
فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ,ونهج متلئب عند عارفيه مأموم .وذلك أنهم كثيرا مايجعلون أصوات الحروف على سمتِ الأحداث المعبر بها عنها فيعدلونه بها ويحتذونها عليها .وذلك أكثر مما نقدره وأضعاف ماأستشعره.من ذلك قولهم
خضم – وقضم )فالخضم لأكل الرطب كالبطيخ والقثاء وماكان نحوهما من المأكول الرطب .والقضم للصلب لليابس نحو:قضمتِ الدابة شعيرها ونحو ذلك. وفي الخبزقد يدرك الخضم بالقضم.
أي قد يدرك الرخاء بالشدة,واللين بالشظف وعليه قول أبي الدر داء:" يخضمون ونقضم والموعد الله" فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب , والقاف لصلابتها لليابس حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث.
- باب في الا دغام الأصغر
قد ثبت أن الإدغام المألوف المعتاد إنما هو تقريب صوت من صوت.وهو في الكلام على ضربين :أحدهما أن يلتقي المثلان على الأحكام التي يكون عنها الإدغام
فيدغم الأول في الآخر.والأول من الحرفين في ذلك على ضربين: (ساكن ومتحرك) فالمد غم الساكن الأصل كطاء (قطع ). وكاف( سكر)الأوليين؛والمتحرك نحو: دال (شد ), ولام (معتل).
والآخر أن يلتقي المتقاربان على الأحكام التي يسوغ معها الإدغام ,فنقلت أحدهما إلى لفظ صاحبه فتد غمه فيه.وذلك مثل : ود في اللغة التميمية ( وأصله وتد ) (وأمحى, وأماز ,وأصبر, واثاقل عنه).والمعنى الجامع لهذا كله تقريب الصوت من الصوت ؛ألا ترى أنك في( قطع )ونحوه قد أخفيت الساكن الأول في الثاني حتى نَبَا
اللسان عنهما نبوة واحدة وزالت الوقفة التي كانت تكون في الأول لو لم تدغمه في الآخر ؛ألا ترى أنك لو تكلفت ترك ادغام الطاء الأولى لتجشمت لها وقفة عليها تمتاز منشدة ممازجتها للثانية بها؛كقولك
قطْطـَع)و (سُكْــكـَـر),وهذا إنما تحكمه المشافهة به.فإن أنت أزلت تلك الوقيفة والفترة على الأول خلطته بالثاني فكان قربة منه(وادغامه) فيه أشد لجذبه إليه وإلحاقه بحكمه.
فإن كان الأول من المثلين متحركا ثم أسكنته وأدغمته في الثاني فهو أظهر أمر أوأوضح حكما؛ألا ترى أنك إنما أسكنته لتخلطه بالثاني وتجذبه إلى مضامته لفظه بلفظه بزوال الحركة التي كانت حاجزة بينه وبينه.
وأما إن كانا مختلفين ثم قلبت وأدغمت ,فلا إشكال في أيثار تقريب أحدهما من صاحبه؛لأن قلب المتقارب أوكد من تسكين النظير . فهذا حديث الإدغام الأكبر.
الإدغام الأصغر:
فهو تقريب الحرف من الحرف وإدناؤه منه من غير إدغام يكون هناك. وهو ضرب, فمن ذلك الإمالة ,وإنما وقعت في الكلام لتقريب الصوت من الصوت.وذلك
نحو
عالِْم-كتاب-وسعى- وقضى –واستقضى)ألا تراك قربت فتحة العين من عالِم إلى كسرة اللام منه بأن نحوت بالفتحة نحو الكسرة فأملت الألف نحو الياء.
وكذلك (سعى وقضى) ؛نحوت با لألف نحو الياء التي انقلبت عنها,وعليه بقية الباب.
ومن ذلك أن تقع فاء افتعل (صادًا أو ضادًا)أو (طاءً أو ظاءً) فتقلب لها تاؤه طاءوذلك نحو
اصطبر, واضطبر ,واطرد ,واظطلم).فهذا تقريب من غيرادغام,فأما( اطـرد) فمن ذا الباب أيضا ولكن إدغامه ورَدَ هاهنا التقاطًا(أي من غيرأن يقصد إليه )لاقصدا.
وذلك أن فاؤه طاء, فلما أبدلت تاؤه طاء صادفت الفاء طاء فوجب الإدغام؛لما اتفق حينئذ ؛ولو لم يكن هناك طاء لم يكن إدغام؛ألا ترى أن
اصطبر-واضطبر-واظطلم)لما كان الأول منه غير طاء لم يقع إدغام؛فال زهير :
... ويظلـــــــم أحيانا فيظطلـــــــــــــــم
ومنه تقريب الحرف من الحرف ؛نحو قولهم :في نحو(مصدر- مزدر)وفي (التصدير-التزدير).
-باب في الحرفين المتقاربين يستعمل أحدهما مكان صاحبه
اعلم أن هذا الباب لاحق بما قبله وتال له, فمتى أمكن أن يكون الحرفان جميعا أصلين ( كل واحد منهما قائم برأسه) لم يَسُغ العدول عن الحكم بذلك .فإن دل دال أو دعت ضرورة إلى القول بإ بدال أحدهما من صاحبه عُمِل بموجب الدلالة ,وصير إلى مقتضى الصنعة .ومن ذلك (سكر طبرزل وطبرزن)أي السكر الأبيض الصلب
هما متساويان في الاستعمال.
وقولهم
هتـــلتِ السماء,وهتــنت ):هما أصلان , الاتراهما متساويين في التصرف يقولون: هتـنت السماء تهتن تهتانا ,وهتلت تهتل تهتالا,وهي سحائب هُتن و هُتل.
ومن ذلك ما حكاه الأصمعي من قولهم :دَهْمَج البعيرُ يدهمج دهمجة ,ودهنج يدهنج دهنجة,إذا قارب الخطو وأسرع. وبعيردُهَامِج, ودُهَا نِج .
وقولهم :رجل(خامل)و (خامن) النون فيه بدل من اللام ؛ألا ترى أنه أكثر ,وان الفعل عليه تصرف ,وذلك قولهم :خَمَلَ يخملُ خمولاً.
وكذلك قولهم: قام زيد فم عمر,الفاء بدل الثاء في ثم ؛ألا ترى أنه أكثر استعمالا.
-باب الساكن والمتحرك
أما إمام ذلك فإن أول الكلمة لايكون إلا متحركا وينبغي لآخرها أن يكون ساكنا.
فأما الإشمام فإنه للعين دون الأذن.لكن رَوْم الحركة يكاد الحرف يكــــون بــــه متحركا؛(الإشارة للحركة بصوت خفي )ألا تراك تفصل به بين المذكر والمؤنث في قولك في الوقف :أنت وأنتِ . فلولا أن هناك صوتا لما وجدت فصلا.
فإن قلت :فقد نجد من الحروف (حروف الهمس) ما يتبعه في الوقف صوت ,وهو مع ذلك ساكن ,وهو الفاء والثاء والسين والصاد نحو ذلك ؛تقول في الوقف :اِفْ,اِثْ
اِسْ,اِصْ . قيل: هذا القدر من الصوت إنما هو متمم للحرف وموف له في الوقف, فإذا وصلت ذهب أو كاد.وإنما لحقه في الوقف,لان الوقف يضعف الحرف؛ألا تراك تحتاج إلى بيانه فيه بالهاء ؛نحو:
واغلا ماه- وواز يداه .وواغلامهوه-وواغلامهيه
وذلك أنك لما أردت تمكين الصوت وتوفيته ليمتد ويقوى في السمع وكان الوقف يضعف الخرف ألحقت الهاء ليقع الحرف قبلها حشوا فيبين ولا يخفي.
ومع ذلك فإن هذا الصوت اللاحق للفاء والسين ونحوهما إنما هو بمنزلة الإطباق في الطاء ,والتكرار في الراء,والتفشي في الشين ,وقوة الاعتماد الذي في اللام.فكما أن سواكن هذه الأحرف إنما تكال في ميزان العروض الذي هو عيار الحـــــــــس
( وحاكم القسمة والو ضع) بما تكال به الحروف السواكن غيرها,فكذلك هي أيضا سواكن . بل إذا كانت الراء – لما فيها من التكرار- تجري مجرى الحرفين في (الإمالة),ثم مع ذلك لا تعد في وزن الشعر إلا حرفا واحدا ,كانت هذه الأحرف التي إنما فيها تمام وتوفيه لهذا أحجي بأن تعد حرفا لا غير.
ولأبي علي –رحمه الله- مسألتان :طويلة قديمة , وقصيرة حديثة .كلتاهما في الكلام على الحرف المبتدأ ,أيمكن أن يكون ساكنا أم لا؟ فقد غنينا بهما أن نتكلف نحن شيئا من هذا الشرح في معناهما.
ثم من بعد ذلك أن المتحرك على ضربين :
(حرف متحرك بحركة لازمة,وحرف متحرك بحركة غير لازمة).
أما المتحرك بحركة لازمة فعلى ضربين أيضا :
( مبتدأ , وغير مبتدأ).
فالمبتدأ مادام مبتدأ فهو متحرك لا محالة ؛نحو
ضاد ضرب وميم مَهِِِْدَد).فإ ن اتصل أول الكلمة بشيء غيره فعلى قسمين :
- أ حدهما أن يكون الأ ول معه كالجزء منه.
- والآخر أن يكون على أحكام المنفصل عنه.
الأول من هذين القسمين أيضا على ضربين :
- أحدهما أن يقر أن الأول على ما كان عليه من تحريكه .
- والآخر أن يخلط في اللفظ به ,فيسكن على حد التحقيق في أمثاله من المتصل.
فالحرف الذي ينزل مع ما بعده كالجزء منه فاء العطف ,وواه , ولام الابتداء ,وهمزة الاستفهام.
- الأول من هذين كقولك :وَهُو الله ,وقولك :فَهُو ما ترى , ولَهُو أفضل من عمرو ,وأهِي عندك.فهذا الباقي على تحريكه كأن لاشيء قبله.
- الثاني منهما قولك :
وهْو الله ,وقولك
فَهُوَ يوم القيامة من المحضرين )(1),ولهْو أفضل من عمرو,وقوله :
وقمتُ للطيف مرتاعًَا وأ رقني فقلت أَهْيَ سَرَتْ أم عادني حُلُم
ووجه هذا أن هذه الأحرف أشبهت في اللفظ ما كان على ( فَعُل )أو (فَعِل)
فخخف أوائل هذه كما يخفف ثواني هذه فصارت ( وَهُو) كعَضُد وصار
(وَهْوَ )كعَضْد كما صارت ( أَهِي ) كعِلَم ,وصار( أَهْيَ )بمنزلة عَلْم.
وأما أول الكلمة إذا لم يخلط بما قبله فمتحرك لا محالة على ما كان عليه قبل اتصاله به. وذلك قولك :أحمد ضرب ,أخوك دخل فهذا احكم الحرف المبتدأ.
وأما المتحرك غير المبتدأ فعلى ضربين
حشو وطرف ).
فالحشو كراء (ضرب )وتاء ( قتل) وجيم (رجل )...
وأما الطرف فنحو : ميم (إبراهيم ) ودال (أحمد ), وباء (يضرب), وقاف (يغرق ).
فإن قلت :قد قدمت أن هذا مما تلزم حركته ,وأنت تقول في الوقف :إبراهيمْ وأحمدْ ,ويضربْ ,ويغرقْ فلا تلزم الحركة ,قيل :" اعتراض الوقف لايُحْفَل به ولا يقع العمل عليه " وإما المعتبر بحال الوصل؛ألا تراك تقول في بعض الوقف: هذا بَكُرْ ,ومررت ببكِرْ, فتنتقل حركة الإعراب إلى حشو الكلمة, ولولا أن هذا عارض جاء به الوقف لكنت ممن يدعي أن حركة الإعراب تقع قبل الآخر؛وهذا خطأ بإجماع
ولذلك كانت الهاء في ( قائمه )بدلا عندنا من التاء في ( قائمة)لما كانت إنما تكون هاء في الوقف دون الوصل.
فإذا قلت: ولِم جرت الأشياء في الوصل على حقائقها دون الوقف ؟
قيل : لأن حال الوصل أعلى رتبة من حال الوقف.وذلك أن الكلام إنما وضع للفائدة ,والفائدة لا تُجنَى من الكلمة الواحدة ,وإنما تجنى من الجمل ومد ارج القول ؛ فلذلك كانت حال الوصل عندهم أشرف وأقوم وأعدل من حال الوقف .
ويدلك على أن حركة الآخر قد تعتد لازمة وإن كانت في الوقف مستهلكة أنك تقلب حرف اللين لها وللحركة قبله , فتقول:
(عصا, وقفا , وفتى, ودعا, وغزا, ورمى )؛كما تقلبه وسطا لحركته وحركة ما قبله؛ نحو: دار ,وعاب , وقام,وقال.فهذه أحكام الحركة اللازمة.
وأما غير اللازمة فعلى أضرب: منها حركة التقاء الساكنيين؛نحو:قِــم الليل, واشددِ الحبل ومنها حركة الإعراب المنقولة إلى الساكن قبلها؛نحو هذا بــَـــكُرْ , وهذا عَمُروْ ,ومررت ببـَكْر, ونظرت إلى عَمِرْو.وذلك أن هذا أحد أحداث الوقف فلم يكن به حَفــْل.
ومنها الحركة المنقولة لتخفيف الهمزة ؛نحو قولك في مسألة: مَسَلة,وقولك في يلؤم: يـــَلُم.وعلى ذلك قول الله تعالى:{ لــَكِنا هُوَ الله ربِي }(1).
أصله: لكنْ أنا ؛ثم خفف فصار ( لكنَ نَا)ثم أجرى غير اللازم مجرى اللازم فأسكن الأول وادغم في الثاني فصار لكنا.
وأما الساكن فعلى ضربين
ساكن يمكن تحريكه , وساكن لايمكن تحريكه)
الأول منهما جميع الحروف إلا الألف الساكنة المدة.
والثاني هو هذه الألف نحو ( ألف كتاب,وحساب , وباع,وقام ).
ــــــــــــــــ
(1) سورة الكهف.الآية :38
والحرف الساكن الممكن تحريكه على ضربين:
(أحدهما مايبنى على السكون .والآخر ما كان متحركا ثم أسكن الأول منهما يجيء أولا وحشوا وطرفا).
فالأول ما لحقته في الابتداء همزة الوصل, وتكون في الفعل ؛نحو: انطلق, واستخرج, واعدودن, وفي الأسماء العشرة: ابن –ابنة- امرئ-امرأة-اثنين –اسم –است- آبنم – آيمن.وفي المصادر؛
نحو:انطلاق –استخراج وماكان مثله.وفي الحروف في (لام التعريف)؛نحو: الغلام- الخليل ,فهذا حال الحرف الساكن إذا كان أولا.
وأما كونه حشوا فكان (بــكــر)،وعين(جــعــفر),ودال( يــدلف),وكونه آخرا في نحو: دال ( قد) ولام (هـل)فهذه الحروف الممكن تحريكها ؛إلا أنها مبنية على السكون.
وأما ماكان متحركا ثم أسكن فعلى ضربين
متصل ,ومنفصل ).
فالمتصـل :ما كان ثلا ثيامضموم الثاني أو مكسورا؛فلك فيه إلا سكان تخفيفا ,وذلك كقولك في علم: قد عَـلـْــــمَ ,وفي ظُـرف: قد ظَـرْف, وفي رَجـُل :رَجْـل.وفي كِبد كـِــبْد؟, وسمعت الشجري وذَكَر طعنة في كـَتِف فقال : الكـَتـْفِيََة .
وأما المنــــــــــفصل: فإنه شبه بالمتصل وذلك قراءة بعضهم {فَإِذَا هِيَ تتلَقف }
{ فَلاَ تـَتَـنَـجـَوْا}(1). فهذا مشبه بدَابة وخِدَبََ. وعليه قراءة بعضهم :
{إنه من يتق ويصبر فإن الله}(2).وذلك أن قوله
تقـِ وَ)(3) بوزن عَـلِم فأسكن,كما
يقال : عــَـــــــلـْــــــــم
ــــــــــــــــــ
(1) سورة المجادلة . الآية: 58.
(2) سورة يوسف.الآية 90.
(3) (تق و) هو(تق): من (يتق )-(و): وواو العطف من قوله : ويصبر.
-باب في كمية الحركات
أما مافي أيدي الناس في ظاهر الأمر فثلاث وهي الضمة والكسرة والفتحة,ومحصولها على الحقيقة ست,وذلك أن بين كل حركتين حركة.فالتي بين الفتحة والكسرة هي الفتحة قبل الألف الممالة ؛نحو فتحة عين (عــا لِم),وكافــــــــ (كاتب).فهذه حركة بين الفتحة والكسرة ؛كما أن الألف التي قبل ألِف التفخيم ؛نحو: فتحة لام (الصلاة والزكاة والحياة ),وكذلك ألف (قام وعاد) والتي بين الكسرة والضمة, ككسرة قاف (قـِيل)
و(سِـيق )و( سـِــــــير)فهذه الكسرة المشممة ضما ومثلها الضمة المشممـــــــــة كسرا؛كضمة قاف ( المُنْــــقُرِ)أي البئر الكثيرة الماء.
وضمة عين(مذعـُـور)وباء ابن ( بُـور)فهذه ضمة أشربت كسرا؛كما أنها في ( قيل وسير )كسرة أشربت ضما فهما لذلك كالصوت الواحد؛لكن ليس في كلامهم ضمة مشرَبة فتحة,ولا كسرة مشربة فتحة.فاعرف ذلك , ويدل على أن هذه الحركات معتدات اعتداد سيبويه بألف الإمالة وألف التفخيم حرفين غير الألف المفتوح ما قبلها.
-باب في مـــَــــــــــــــطْــــــل الحركات
وإذا فعلت العرب ذلك أنشأت عن الحركة الحرف من جنسها ,فتنشيءبعد الفتحة الألف ,وبعد الكسرة الياء ,وبعد الضمة الواو.
والحروف الممطولة : هي الحروف الثلاثة اللينة المصوتة وهي( الألف,والياء, والواو), فالألف منشأة من إشباع الفتحة والياء من إشباع الكسرة والواو من إشباع الضمة .
-باب في مـــَـــــــــــطْـــــــــل الحروف
والحروف الممطولة: هي الحروف الثلاثة اللينة المصوتة(الألف,الياء,الواو).
اعلم أن هذه الحروف أين وقعت ,وكيف وجدت ( بعد أن تكون سواكن يتبعن بعضهن غير مدغمات ) ففيها امتداد ولين ؛نحو
قام )و(سيربه) و(حُوتٍ)و(كوز)
و( كتاب) و(سعيد) و(عجوز). إلا أن الأماكن التي يطول فيها صوتها ,وتتمكن مدتها, ثلاثة وهي:
1- أن تقع بعدها وهي سواكن توابع لها (هو منهن)وهي الحركات من جنسهن.
2- الهمزة,أو الحرف المشدد.
3- أو أن يوقف عليها عند التذكر.
-باب حذف الاسم على أضرب وباب نقض الأوضاع إذا ضامها طارئ عليها
يتحدث ابن جني في هذين البابين عما يسميه اللغويون المحدثون (النبر والتنغيم) موردًا عددًا من الأمثلة التي توضح فكرته,من ذلك أن تكون في مدح إنسان والثناء عليه فتقول: كـان والله رجـلا. فتزيد في قوة اللفظ بـــ "الله " هذه الكلمة وتتمكن في تمطيط اللام,وإطالة الصوت بها أوعليها ؛أي : رجلا فاضلاً أو شجاعًا أو كريمًا أو نحو ذلك .ومن ذلك أيضا لفظ الاستفهام إذا ضامه معنى التعجب استحال خبرا, وذلك قولك:
مررت برجل أي رجل ,فأنت مخبر بتناهي الرجل في الفضل ولست مستفهما.
ويقول أيضا:وذلك قولهم عند التذكر مع الفتحة في قمت : (قمتا),أي قمت يوم الجمعة ,ونحو ذلك.
ومع الكسرة : (أنتي)أي أنت عاقلة,ونحو ذلك , ومع الضمة ( قمتُو)في قمت إلى زيد ونحو ذلك, هــــــــذا في مسألة الــــنـــــــــبر.
أما التنـــــــــــــغيم : فيتحدث ابن جني في كتابه الخصائص عن مسوغات حذف الصفة ,ويورد في ذلك حديثا ممتعا هذا نصه :" وقد حذفت الصفة ودلت الحال عليها.وذلك فيما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: (سير عليه ليل)وهم يريدون
(ليل طويل),وكأن هذا إنما حذفت فيه الصفة لما دل من الحال على موضعها.
وذلك أنك تحس في كلام القائل لذلك من التطويح والتطريح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قوله :طويل أو نحو ذلك.وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملته.
وكذلك تقول : سألناه فوجدناه إنسانًا
وتمكن الصوت بإنسان وتفخمه ,فتستغني بذلك عن وصفه بقولك :
- إنسانًا سمحًا أوجوادًا أو نحو ذلك ).
فهذا الحديث الممتع لابن جني يدل على أنه أدرك بفكه الثاقب أن التنغيم وتعبيرات الوجه التي تصاحب قول القائل تلعب دورًا دلاليًا هامًا.
-باب الاشتقاق الأكبر ( الكبير)
يعني لبن جني بالاشتقاق الكبير:" أن تأخذ أصلا من الأصول الثلاثة فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحدا, تجتمع التراكيب الستة وما ينصرف من كل واحد منها عليه ...كما يفعل الإشتقاقيون ,ذلك في التركيب الواحد " الخصائص.
ويضرب ابن جني مثلا لذلك بأصول ( ك ل م ) وتقاليبها الستة
ك م ل),(م ك ل ),(م ل ك ),(ل ك م ),(ل م ك ).
فهذه الصور الستة تدل على معنى واحد مشترك وهو القوة والشدة مهما اختلف مظهر التفسير الذي يقوم به جماعة اللغويين.
فيقول : " هذا موضع لم يسميه أحد من أصحابنا, غير أن أبا علي-رحمه الله- كان يستعين به ويخلد إليه مع إعواز الاشتقاق إلا صغر,لكنه مع هذا لم يسمه,وإنما كان يعتاده عنده الضرورة ويستروح إليه,ويتععل به.وإنما هذا التقليب لنا نحن, وستراه فتعلم أنه لقب مستحسن,وذلك أن الاشتقاق على ضربين: كبير ,وصغير" الخصائص.كما عد ابن أصوات(جبر) مهما اختلف ترتيبها تعبر عن القوة والشدة, وبرهن على هذا بما ورد في اللغة .فقال :جبرت العظم والفقير إذا قويتهما , والجبروت :القوة ,والجبر:الأ خذ بالقهر والشدة ,ورجل مجرب :إذا مارس الأمور
فاشتدت شكيمته؛ومنه أيضا البرج لقوته ومنعته ,وشهر رجب لتعظيمهم إياه عن القتال فيه, ومنه الرجبة : وهو ماتستند إليه النخلة.
ومن التراكيب التي ذكرها ابن جني في كتابه الخصائص
ق س و),(ق و س),(و ق س),(و س ق),(س و ق)وأهمل(س ق و).
وجميع هذه التراكيب تدل غلى القوة والاجتماع منها (القسوة) وهي شدة القلب واجتماعه,ومنها(القوس) لشدتها واجتماع طرفيها ومنها (الوقس)لابتداء الحرب, وذلك لاجتماعه وشدته,ومنها
استو سق الآمر)أي:اجتمع ,ومنها (السوق)وذلك لأنه استحثاث وجمع للمسوق بعضه إلى بعض.
ومن التقاليب التي ذكرها ابن جني في كتابه الخصائص: (س م ل ),(س ل م)
(م س ل ),(م ل س),(ل م س),(ل س م).والمعنى الجامع لها المشتمل عليها هو الأصحاب والملاينة , ومنها الثوب (السمل)وهو الخلق,وذلك لأنه ليس عليه من الوبر ما على الجديد .وسمل الثوب من باب ( دخل ),واسمل,أي:أخلق.
وسمل العين :فقأها بحديد محماة.
فاليد اذامرت على الثوب السمل للمس لم يستوقفها عنه جدة المنسج ولا خشنة الملمس .والسمل : الماء القليل ,كأنه شيء اخلق وضعف عن قوة المضطرب.
ومنها (المسل) والمسل :المسيل كله واحد, وذلك أن الماء لايجري إلا في مذهب له,وأمام منقاد له,ولو صادف حاجزا لعاقه فلم يجد متسربا له.ومنها (الأملس والملساء),وذلك لأنه لا اعتراض على الناظر فيه والمتصفح له,ومنه اللمس,وذلك انه ان عارض اليد شيء حائل بينها وبين الملموس لم يصح هناك لمس, فإنما هوا هواء باليد نحوه,ووصول منها إليه لاحا جز ولا مانع,ومنه السلامة كما في قوله تعالى {أو لامستم النساء}(1).أي جامعتم.وذلك انه لابد هناك حركات وأعمال,وهذا واضح.
أما (ل س م)فمهمل وعلى أنهم قد قالوا: نسمت الريح :إذا مرت مرا سهلا ضعيفا,والنون أخت اللام.
ويقول ابن جني في كتابه الخصائص:"واعلم أن هذا مستمر في جميع اللغة .كما لاندعي للاشتقاق الأصغر انه جميع اللغات, بل اذا كان ذلك الذي هو فالقسمة سدس,هذا أو خمسه متعذرا صعبا كان تطبيق هذا وإحاطته أصحاب مذهب,واعز ملتمسا؛بل لوضح من هذا النحو,وهذه الصنعة المادة الواحدة تتقلب على ضروب التقلب كان غريبا معجبا. فكيف به وهو يكاد يسابق الاشتقاق الأصغر,ويحاربه إلى المدى الأبعد,وقد رسمت لك منه رسما فاحتذ به وتقبله تحظ به,ويكثر إعظام اللغة الكريمة من اجله "
ــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة,الآية: 6
وفي هذا النص يحاول ابن جني أن ينفي تعميم هذا الاشتقاق على جميع التراكيب,مع الإشارة إلى الاشتقاق الصغير الشائع,فهو أيضا رغم شيوعه يراه ابن جني غير مستمر في جميع اللغة,فإذا كان هــــذا الاشتقـــــــــاق متعذرا,وصعبا تعميمه في اللغة ,كان تطبيق الاشتقاق الأكبر والإحاطة به أصعب .
ولهذا الغرض افتتح ابن جني "خصائصه" بتقليب حروف القول والكلام
وأراد بذلك أن يرسم طريقته ومنهجه للقارئ ليجتذب به ويتقبله فيحظربه ويكثر إعظام هذه اللغة الكريمة من اجله.
غير أن ابن جني على استعانته بهذا الاشتقاق الأكبر ماكان لينخدع بما وراء تقليب الأصول فيه من نتائج وأحكام,وما كان ليعمم هذه النتائج والأحكام على جميع المواد والأصول, فقد يتقارب أصلاه في التركيب بالتقديــــــم والتأخير من غير أن يكون احدهما مقلوبا عن صاحبه كقولهم :
(جذب – جبذ) ,ليس احدهما مقلوبا عن صاحبه , وذلك أنهما جميعا يتصرفان واحدا,نحو:جذب,يجذب ,جذبا؛فهوجا ذب والمفعول مجذوب
وجبذ ,يجبذ ,جبذا؛فهو جابذ والمفعول مجبوذ فإذا جعلنا احدهما أصلا
لصاحبه فسد ذلك).(1)،وابن جني لايمنع تقليب احد الا صلين :جذب أو جبذ على جهاته الستة: (جذب),(جبذ),(بجذ),(بذج),(ذجب),(ذبج)بشرط أن يعلم مقلب هذه
الوجوه,حيث انه يقصد بالتقاليب (جذب)دون سواها, أو (جبذ)دون غيرها. على إن يكون كل منهما أصلا مستقلا بذاته. قال ابن جني :" ليس احدهما مقلوبا عن صاحبه,وذلك إنهما يتصرفان تصرفا واحدا" (2)
ــــــــــــ
(1) الخصائص .الجزء.2
(2) المرجع نفسه.
وقال أيضا:" فأما أن يتكلف تقليب الأصل ,ووضع كل واحد من احنائه موضع صاحبه فشيء لم يعرض له ولا تضمن عهدته"(1).
وهنا يتبرم ابن جني ضجرا من تكلف المو لعين بالاشتقاق الكبير, وبتقليب الماد ,والمتطفلين عليه ,المتكلفين فيه.
ويقصد ابن جني بقوله: "شيء لم يعرض له" ا ن أبا إسحاق الزجاج لم يتعرض لهذا الموضوع ,رغم انه كان يخلد إلى الاشتقاق الكبير .
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) المرجع السابق.
خاتمة :
ـ وقفنا عند الفكر الصوتي لأبي الفتح عثمان بن جني ( ت : 392 هـ ) باعتباره أول من استعمل مصطلحاً فنياً للدلالة على الأصوات سماه : « علم الأصوات » وكان منهجه الصوتي مثار إعجاب للبحث بما صح أن يطلق عليه اسم الفكر الصوتي ، لأنه يتمحّض لهذا العلم ، ويعرض فيه عصارة تجاربه الصوتية دقيقة منظّمة ، ويتفرغ لبحث أصعب المشكلات الصوتية بترتيب حصيف في بحوث قيّمة عرضت لجوهر الصوت في كتابيه :الخصائص و سر صناعة الإعراب .
وكان منهجه يضم تتبع الحروف من مخارجها وترتيبها على مقاطع ، وإضافته ستة أحرف مستحسنة بأصواتها إلى حروف المعجم ، وثمانية أحرف فرعية مستقبحة بأصواتها ، ويحصر مخارج الحروف في ستة عشر مخرجاً تشريحياً منظّراً له بأمثلته ، فكان فكر ابن جني الصوتي قد حقق نظاماً أصواتياً قارنّاه بالفكر الصوتي العالمي من خلال هذه الظواهر :
أ ـ مصدر الصوت ومصطلح المقطع .
ب ـ جهاز الصوت المتنقل .
جـ ـ أثر المسموعات في تكوين الأصوات .
د ـ محاكاة الأصوات.
عرّف ابن جني اللغة بقوله (إنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم) (1). وهو تعريف هام يستوقف الباحث اللغوي الحديث، ذلك أنه تعريف دقيق يذكر أبرز الجوانب المميزة للغة، فهو يؤكد أولاً الطبيعة الصوتية لها، ويذكر وظيفتها الاجتماعية في التعبير ونقل الفكر، كما يشير إلى اختلاف البنية اللغوية باختلاف المجتمعات الإنسانية، وهذه الجوانب الثلاثة تتناولها التعريفات الحديثة للغة، والذي يهمنا في هذا المقام أولها، فقد نظر ابن جني إلى اللغة على أنها أصوات أو لا تحمل دلالات يقوم بها التفاهم بين البشر حين يتخاطبون، وعرف أن الأساس في الظاهرة اللغوية النطق، وهو أساس تقوم عليه أكثر الدراسات المعاصرة. إذ تعنى بالكلام المنطوق أولاً، وتدرسه من جوانب أربعة سبق ذكرها أولها وأهمها الجانب الصوتي، أما الكتابة فترى أنها تأتي في الدرجة الثانية، وما هي إلا محاولة لتصوير المنطوق قد تنجح وقد تخف
-وهناك نص لابن جني يستوقف النظر، وهو قوله (ذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوى الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيح الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونزيب الظبي ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد، وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل)، وهذا النص يتعلق بإحدى النظريات المعروفة في نشأة اللغة، هي نظرية المحاكاة Onomatopoeia التي تقول إن اللغة محاكاة لأصوات الطبيعة،ولم يعز ابن جني هذا القول إليه، إلا أن أحداً لم يسبقه إلى ذكره، أضف إلى هذا أنه ركز القواعد التأسيسية لهذه النظرية في تراثنا العربي، فقلبها على أوجهها الممكنة، وجعل للمحاكاة مراتب أربعاً هي المحاكاة الصوتية أي تسمية الأشياء بأصواتها ومحاكاة هيكل اللفظ لجملة الدلالة ثم المحاكاة التعاملية أي تعامل دلالة الأصوات الفيزيائية ودلالة الهيكل الوزني، وأخيراً التركيب السياقي. ومن الواضح عناية ابن جني بهذه النظرية، بل إن الجملة الأخيرة في القول الذي سقناه.
-كانت الأصوات الشغل الشاغل لابن جني، ولها في تفكيره اللغوي جذور عميقة، وعلى هدي منها عالج كثيراً من القضايا اللغوية، وخاصة ما اتصل منها بالصرف الذي كان فيه العلم الأول بلا منازع، ونرى هذا بوضوح في كتابيه سر الصناعة، والخصائص، بل إن الصوتيات تطل بين الحين والحين من ثنايـــا ما شرحه من أشعار.
وكان ما قدمه ابن جني تأصيلاً صوتياً لكثير من الملامح والخصائص المكتشفة في ضوء تقدم العلم الفيزولوجي الحديث،.ومن النتائج التي يمكن ذكرها أيضا:
-عراقة الدراسات الدلالية في التراث العربي.
- أصالة علم الأصوات في الدراسات العربية.
- أثر الدراسة الصوتية في تحديد المعنى.
- الملامح التمييزية للنبر والتنغيم في اظهارالمعنى الدلالي.
- يتغير المعنى بتغير الصيغ الصوتية وهو سبب من أسباب تطوير اللغة.
- انفراد اللغة العربية بظاهرة الاشتقاق عن بقية اللغات.
المصادر والمراجع:
1ـ ابن جني ، أبو الفتح ، عثمان بن جني الموصلي ( ت : 392 هـ ) الخصائص . تحقيق محمد علي النجار, دار الكتب المصرية ,القاهرة ,1952 م .
2 ـ ابن جني : سر صناعة الإعراب . تحقيق : مصطفى السقا وجماعته
مطبعة مصطفى البابي , القاهرة ,1954 .
وفي الأخير تقبلوا فائق الشكر والتقدير.