التَّجديد والاجتهاد موضوعان إسلاميَّان معروفان، اعْتَنى بهما العلماء تنظيرًا وممارسةً منذ القرن الهجري الأوَّل، وكِلاهُما يشير إلى عمليَّة نشطة داخل الإطار الشَّرعي بوسائل أصوليَّة معروفة لمواكبة تطوُّر الحياة، وإمداد المسلمين بالحلول المنضبِطة بالشَّريعة في مسارِهِم الفردي والعائلي، ونشاطِهم الاقتِصادي والسِّياسي والعسكري والتربوي والتِّجاري.
فتشْمل العمليَّة الميادين الشُّعوريَّة والفكريَّة والسلوكيَّة بالإجابة على أسئِلة الأفراد والجماعة المسْلِمة، وتَجديد الصِّلة بالمرجعيَّة العليا المتمثِّلة في القرآن والسنَّة، والاستِمْرار في ربْط الأمَّة بالسَّمت الإسْلامي لتبْقى متمسِّكة بأصالتِها وتميُّزها، ولتواجِه بثبات وقوَّة التحدّيات المختلفة وتتجاوز محطَّات الضَّعف التي تعترض سيرها، فتبقى ظاهرةً أبدًا كما أراد لها ربُّها - عزَّ وجلَّ - وما من مسلمٍ إِلاَّ ويعرف أسماء المجدِّدين والمجتهِدين الَّذين انطلقوا من الوحْيين فجدَّدوا الانتِماء وواكبوا الواقع بالإجابات الشرعيَّة، وردُّوا الأمَّة إلى الالتِزام بدينها بعد فترات الوهن والشُّرود، هذا ما فعله الأئمَّة الأربعة، وعمر بن عبدالعزيز، وابن تيمية، والشَّوكاني، وغيرهم.
ولَم تغِب خطورة موضوع الاجتِهاد والتَّجديد عن العلمانيين "المسلمين"، أصْحاب القناعة التغريبيَّة، فركب بعضهم موجته وزعموا أنَّهم رافعو لوائه، وسمحوا لأنفُسِهم أن يجدِّدوا ويجتهدوا شفقةً على الإسلام والمسلمين من "المتشدِّدين الظَّلاميِّين المتزمِّتين"!
ويقْصِدون بهم علماء الدِّين الملتَزِمين بأصول التَّفسير والفِقْه؛ أي: بالمنظومة الفكريَّة المستوْحاة من القرآن والسنَّة، التي تحكم عمل عقْل المسلم، والَّتي أجْمَع عليْها المسلمون منذ العصْر الأوَّل، وأثبتت فائِدَتها وأحقيَّتها عبر القرون.
لقد اختار هذا التيَّار العلماني نهجًا آخر غير الَّذي درج عليه عامَّة التغريبيِّين، والّذي كان يجاهر بمعاداة الإسلام وقِيَمه وأحكامه وأخلاقه، ويستخفُّ بها ويدعو إلى الثَّورة عليها، اختار أن يتحرَّك من داخل دين الله ويستعمل مفرداتِه، الَّتي يطمئنّ إليْها المؤمنون، ويرفع لافتة الغَيْرة على الإسلام وأهله، ويبحث في تراث الأمَّة ويستشهِد ببعض ما ورد فيه حتَّى يلقَى القبول، ويستطيع تمرير أفكاره "التجْديدية"، الَّتي تهدف في نهاية المطاف إلى علْمَنة الإسلام؛ أي: إفراغه من محتواه، وإزالة صبغة الربَّانية عنه، وإخراجه من حياة الناس العامَّة؛ ليبقى محصورًا - في أحسن الحالات - في الشَّعائر التعبُّديَّة، ومسائل تغسيل الموتى ودفنهم.
تيَّار استشراقي:
يُعتبر هؤلاء العلمانيون امتدادًا للمستشْرِقين القدامى، الَّذين استنفدوا أغراضَهم وخسروا معركة التَّشكيك في الإسلام وصدِّ الناس عنه، وقد افتضح أمرهم وتجاوَزَتْهُم الحركة الفكريَّة إلى حد بعيد، فاقتضت المرحلة أن يتولَّى الأمر مثقَّفون وأكاديميُّون "مسلمون"، يكْتُبون بالعربيَّة ويتكلَّمون بها ويُعْلِنون انتماءَهم للإسلام وغيْرتهم عليه، ويتبنون تجديده والاجتهاد في أحكامه من منطلق هذه الغيرة؛ ليُعيدوا قراءَتَه بما يتلاءم مع "القيم الإنسانيَّة"؛ أي: المنظومة الفكريَّة الغربيَّة المستنِدة في آنٍ واحد إلى الأُصُول الإغريقيَّة/الرُّومانيَّة لأوربَّا، والمرجعية العبريَّة/النَّصرانية الّتي تلقي بظلالها على الفكر والسلوك الخاص والعام في الغرب.
فهو إذًا استشراق جديد تطوَّرت أساليبه وبقيت أهدافه، ولا تخفى الخطورة حين يتولَّى محاربة الإسلام من الدَّاخل قوم "من جلدَتِنا ويتكلَّمون لغتنا"، وتبلغ الخطورة مداها عندما ينخرط في عمليَّة "التَّجديد والاجتهاد" مَن له علم بالقُرْآن والسنَّة وكان أستاذًا في الجامع الأزهر، ثمَّ أعْلن باسم التَّجديد والاجتِهاد رفضه للسنَّة النبويَّة، وإعادة قراءة الإسلام بناءً على ذلك.
السُّم في الدَّسم:
هؤلاء "المجدِّدون والمجتهدون" لا يهاجِمون الدِّين ولا أحكامَه ولا أخلاقه؛ بل ينمِّقون كلامهم بالإشادة بِمحاسنه المتلائِمة مع "القيم الإنسانية"؛ مثل العدْل والمساواة والأخوَّة والكرامة، وينتقون آياتٍ وأحاديثَ يدعمون بها ذلك؛ لينتقِلوا إلى صُلْب عملِهم، وهو تَحرير الدِّين وفكّه من أيْدي العلماء "الجامدين والمتاجرين به"، ويأملون من ذلك اتِّقاء نفور النَّاس من أطروحاتهم وانخداعهم بالحديث عن محاسن الإسلام، وتقبل أفكارهم باعتبارِها آراء منسجمة مع منظومة الدين العقديَّة والفكريَّة مثل باقي الآراء الاجتهاديَّة؛ تقبل النقاش فالتبنِّي.
ولا شكَّ أنَّ افتِراض بلوغ هذه المرحلة يُعدُّ نصرًا كبيرًا لهم، غير أنَّ حصون الأمَّة المعرفيَّة تحول دون ذلك مهما أصاب المسلمين من ضعف متعدِّد الأشكال، وتتمثَّل قوَّة هذه الحصون في انتقالِها عبْر العصور من الميْدان المعرفي التَّنظيري إلى رصيدٍ عاطفي شعوري، يورث المؤمنين في مجموعِهِم مناعةً تتحطَّم عند جدرانها مثل هذه الدَّعوات؛ لأنَّها تصدم حسَّهم المعجون بعجينة الأصالة والتقوى؛ لذلِك قد لا يتأثَّرون بعلم العالِم بقدْر ما يتأثَّرون بتقْواه وتمسُّكه بأهْداب الشَّرع، وهذا يُحْبِط في كلِّ مرَّة محاولات العلمانيِّين "التَّجديديَّة"، ويكشِف السم الّذي يدسُّونه في الدسم.
اتِّهام العلماء:
عرف التَّغريبيُّون أنَّ هذه المناعة هي التي تُفْشِل مساعيَهم، وأنَّ وراءها علماء الأمَّة من سلفٍ وخلفٍ، فكان أن وجَّهوا سهام النَّقْد والسُّخْرية والانتِقاص لأبْرز وجوه التجديد والاجتِهاد عبر تاريخنا، واتَّهموهم بالسَّطحيَّة وقلَّة الدِّراية والجمود العقْلي، فلم ينْجُ عالمٌ من أهل السنَّة انعقد إجْماع الأجيال على علوِّ كعبه في العلوم الشرعيَّة، وفي المقابل حاولوا إحياء الفرق الضالَّة وإعادة بعث رموزِها، ونشر أدبيَّاتها، فقرَّروا أنَّ المعتزلة هم وحْدهم أهل الاجتهاد؛ لأنهم أصحاب العقول المتحرِّرة، و"أعادوا الاعتبار" لوحدة الوجود والحلول والاتِّحاد، وانتصروا لمن سمَّوه "الشيح الأكبر" محيي الدين بن عربي - داعية الحب الإنساني - وقدَّموا الحلاَّج كنموذج للمفكِّر المضطهد والشهيد الحيّ، دعوا إلى اعتِماد كتُب هؤلاء في التَّفسير الرَّمزي للقُرآن الكريم بدل الطَّبري وابن كثير والمنار والظلال، كما دعوا إلى إحْياء التصوُّف القديم، فهذا من شأْنِه إيقاف مدِّ السلفيَّة الإسلاميَّة الزَّاحفة بأشكالِها المختلفة: العلْمي والسياسي والجهادي، وروَّجوا لمصطلح "الإسلام السِّياسي" لتنفير النَّاس منه، وممَّن يرَوْن أنَّهم أبرز دعاته؛ كحسن البنا، وأبي الأعلى المودودي، وسيد قطب.
هكذا يجد المتابع لما يقولون ويكتبون أنَّهم لا يتركون للمسلمين مرجعًا معتمدًا ولا رمزًا محترمًا إلاَّ ونالوا منه؛ ليُخْلوا الجوَّ لمنهجهم الجديد.
منهج التبعيَّة والهدْم:
يتَّضح للدَّارس أنَّ لهؤلاء العلمانيِّين مرجعيَّة يؤْمِنون بها، ويصدرون عنْها في آرائِهِم ومواقفهم، ويدعون لها ويبشِّرون بها بكلِّ عزيمة وقوَّة، وهي الإيديولوجيَّة الغربيَّة بمكوِّناتها الفكريَّة والعاطفيَّة والسلوكيَّة، يريدون إحْلالها محلَّ المرجعيَّة الإسلاميَّة؛ لأنَّ الأولى - في نظرهم - تمثِّل نهاية التَّاريخ ومنتهى الاجتهاد، ولا مناص منِ اعتمادها لأنَّها تحمل معاني التَّطبيقات: الحريَّة وحقوق الإنسان وكرامته، والإسلام يدعو إلى هذه المعاني؛ لكنَّ العلماء والفقهاء والإسلاميين بصفة عامَّة حرَّفوها وأفسدوا تطبيقاتها، فتقتضي عملية التجديد تجاوز شعارات الأصالة للانخِراط الكلِّي في الحداثة ومقتضياتِها، وهذا لن يتمَّ مادام المسلِمون يَحْتمون بالرُّموز الدينيَّة من مؤسَّسات وعلماء ودعاة ومحطَّات تاريخيَّة، فلا بدَّ من اتِّباع أسلوب المُهادنة للدِّين نفسه والهجوم على هذه الرُّموز وتسفيهِها، وبيان عدم أهليَّتِها لتمثيل الإسلام، ولا مسايرة الواقع الجديد الَّذي تطْغى عليه العولمة والأزْمات الماليَّة والتَّحديات الاقتِصاديَّة، فلا نقيد معه التَّسابيح أو خطب الجمعة.
ونُلاحظ من هذا العرْض المقتضب أنَّ منهج دُعاة هذا التَّجديد والاجتهاد تبع محْض للفلسفة الغربيَّة، وتجاربها الماضية والحاضرة من جهة، وهو يقتضي حتمًا هدْم المرجعيَّة الإسلاميَّة؛ ولكن بانتهاج الطرُق "العلمية"، و تقمُّص مظهر النَّاصح الأمين للتصرُّف في نصوص الشَّريعة ومقاصدها ومصالحها؛ حتَّى تتلاءم مع "القيم الإنسانية"، أو بالأَحْرى: حتَّى تنتصِر هذه القيم وتبقى هي وحْدَها في عقول المسلمين وقلوبِهم وعلاقاتهم كلّها.
مُحتوى التَّجديد والاجتِهاد:
أكثر العلمانيين الَّذين نتحدَّث عنهم يتضايقون من السنَّة النبويَّة، فيهملون نصوصَها أو لا يبالون بها كثيرًا، أو ينكرون حجِّيَّتها أصلاً، مدندنين حول أحاديث الآحاد ومرويَّات أبي هريرة - رضي الله عنْه - ونحو ذلك مما هو معروف عنهم، ويفسّر سعيهم هذا أنَّ السنَّة هي الدليل العملي للمسْلِم، وهي الحكم الميداني في مدى التِزام النَّاس بدين الله - تعالى - لذلك اتَّجهت لها سهام "النَّقْد العلمي" من القوْم، وليس هذا مجال مناقشتهم - إذا جازت مناقشتهم ابتداءً - وإنَّما يكثرون الحديث عن القُرآن الكريم في تَجديدهم واجتِهادهم، فيأتون بنهْجٍ لا علاقة له بالوحي ولا أصول التَّفسير ولا قواعد اللغة العربية، فليْس في الإسلام - والقرآن مرجعه الأوَّل - عندهم محكمات ولا قطعيات، فجميع النصوص ظنيَّة مشابهة يجوز الاجتهاد فيها ومعها، وجميع العبرة ليست بهذه النصوص ولكن بروح الإسلام، وما معنى روح الإسلام؟ إنَّها تلك المعاني التي ذكرْناها مثل: الحريَّة والمساواة والعدْل، وهنا يبرز اعتِمادهم على "المصلحة" باعتِبارها المعيار الأكبر - بل الأوْحد - في التَّعامل في الشَّريعة الإسلاميَّة، ويستدلُّون بمقولة ابن القيِّم - رحمه الله - بعد أن يُخرجوها من سياقها: "أيْنما وجدت المصلحة فثمَّ شرع الله"، ويُعيدون الحياة إلى فقيه الحنابلة نجم الدين الطُّوفي الَّذي يقدِّم المصلحة على نصوص الوحي كما يقولون، وباسم المصلحة حوَّلوا الشَّريعة إلى عجينة طيِّعة يصنعون منها كل "جديد" يتوافق مع قيم الغرب ومناهجه:
فالحجاب ليس فريضةً دينيَّة؛ لكنَّه عرف قديم، أو لباس طائفي؛ كما يُفْتِي علماء تونس الحاليُّون إرضاءً للحاكم العلماني.
وعبارة القرآن: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] تَجاوزها الزَّمن، ولم تعُدْ فيها حكمةٌ في ظلِّ التَّطوُّرات الاقتِصاديَّة والاجتماعيَّة، الَّتي أصبحت فيها المرأة متساوية مع الرجُل في الدراسة والعمل.
وزواج المسلِمة من غير المسلم لا حرَج فيه، باسم القيم الإنسانيَّة ومواثيق الأمم المتَّحدة، وتفاهُمات قمَّة بكين والقاهرة.
أمَّا الربا فمِن الجنون الحديث عن تحريمه في زمن العولمة، وما ذكره القُرْآن فهو عن الزمن الأوَّل حيث الحياةُ البسيطة والتَّعامُل غير المعقّد.
أمَّا القرآن اليوم فالمسلِمون في حل من كل القيود؛ من أجل التنمية والتقدُّم والازدهار الاقتصادي؛ وهذا هو الإسلام الحقيقي!
أمَّا الحدود الشَّرعيَّة، فإنَّها مستبعدة نِهائيًّا؛ لأنَّها همجيَّة - كما يتهامسون - ولأنَّها مخالفة للمواثيق الدوليَّة ،كما يعلنون في تبرير موقفِهم هذا.
ولعلَّ أهمَّ موضوعين يستأثران باهتِمام هؤلاء "المجددين المجتهدين" هما: موضوعا المرأة وغير المسلمين، فهم يوظِّفون النصوص الشرعيَّة توظيفًا ذرائعيًّا، فيستدعونَها لتحْرير المرْأَة من كلِّ قيْدٍ أخلاقي أو اجتماعي؛ لأنَّ هذه القيود في رأْيِهم لا علاقة لها بالدين، إنَّما هي "تقاليد بالية"، وأغْلال رجاليَّة موروثة من عهد القبيلة الجاهليَّة، ينبغي الانعِتاق منها؛ لتنشئة "المرأة الجديدة" الحرَّة في جسدِها وأذواقها واختياراتها جميعًا، أمَّا مفردات القوامة وحقّ الرجل في الطَّلاق، ورأي الولي في الزَّواج، وعدم الاختِلاط بالرِّجال - فهي ملْغاة؛ بناءً على اجتهادِهم.
أمَّا الموقف من غير المسلمين، فهُو إلْغاء صريح لأحْكام الولاء والبراء؛ إذ تزيح الفوارق بين الإيمان والكفر نهائيًّا، والتمييز في الأمور الدينية؛ ليعلي قاعدة جديدة، هي وحْدة الأديان أو عدم الالتفات للانتِماء الديني، وبناء صرح "الأخوة الانسانيةَّ"، الَّتي تعلو على الأديان والشرائع، وفي هذا الإطار أسالُوا حبرًا كثيرًا في التَّنظير للمواطنة كبديل عن الهويَّة الإسلاميَّة، ولم يفرقوا - كما كان ينبغي أن يفعلوا لو التزموا المنهج الإسلامي الأصيل - بين الخصائص الدينيَّة التي لا تقبل التشبُّه، فضلاً عن الإلغاء أو التقمُّص، وبين الرَّوابط الإنسانيَّة من جوارٍ وتبادُل مصالح وزمالة ونحوها، مع غير المعْتدين عليْها من أتباع الملل المختلفة؛ لكنَّ الشيْء فرعٌ عن تصوُّرِه، وتصوّرهم هنا لا يعني سوى تغْيير المسلم لولائه لله ورسوله والمؤمنين، واعتِناق شعيرة "الحب لكل الناس" المأخوذة من أدبيَّات الكنيسة، التي ليس لها أدْنى تجسيد أو أثر في واقع النَّاس عبر القرون وإلى اليوم، والَّتي تؤدِّي حتمًا إلى القضاء على الحب في الله - تعالى - والبغض في الله، فيستوي حينئذ أبو بكر وأبو جهل، وهذا يؤسِّس في النهاية لعقيدة جديدة يراد لها أن تحلَّ محلَّ العقيدة الإسلاميَّة، فيمنع بذلك على المسلمين أن يتفاعلوا مع قضايا إسلامهم وإخوانهم في العالم، فلا يحزنون عليهم ولا يساعدونهم.
وقد نالت قضيَّة الجهاد قسطًا كبيرًا من "اجتهاد" العلمانيين، وهو اجتِهاد يهدف إلى محو الفكرة من أساسها؛ لأنَّها تنمِّي - في رأيهم - ثقافة العُنْف والعدوان، بينما يدعونهم إلى بديلٍ آخَر يسمُّونه الجهاد الأكبر (جهاد النفس)، ويستشْهِدون له بحديث لا أساس له من الصِّحَّة، أو الجهاد السِّلْمي الذي يعني معاملة المعْتدين بالتَّفاوُض والتَّنازُل، كما في قضيَّة فلسطين؛ ولذلِك تجِد أكثر هؤلاء "المجتهدين" يتفهَّمون ما يقوم به الغَرْب من حرب ومضايقات للمسلمين باسم محاربة الإرهاب، ويرْفضون مقابلة ذلك بالمقاومة المسلَّحة؛ لأنَّ الحلَّ يكمن فقط في الانسياق مع المنظومة الغربيَّة والاندماج فيها.
أخطر ما في الأمر:
كل ما يفعله هؤلاء "المجدِّدون المجتهدون" خطير؛ لأنَّه تصرُّف في الشَّريعة بنيَّات منحرفة (كما هو ثابت في واقعهم الفِكْري والسلوكي)، ويعتبر الأدوات المعتمدة؛ لكن أخطر ما في الأمر أنَّ سعْيَهم لم يعد يقتصر على الكتابة والجدال، إنَّما استطاعوا - في ظلِّ المناخ العالَمي الرَّاهن - أن يُدْرِجوه في المنظومات التربويَّة، باسم إصلاح التَّعليم، ومجالات الخطابة والوعْظ والتَّدريس المسجدي، باسم تجديد الخطاب الديني، وذلك من خِلال تبنِّي عدد من أنظمة الحكم لأطروحاتهم، وهو ما يذكِّر - إلى حدٍّ ما - بما فعلته تركيا العلمانية بعد إسْقاط الخلافة الإسلاميَّة، من محاولات لتغْيِير عقائد الأمَّة وأفكارها وقناعاتِها، بحيث لا تبقى لها صلة بالإسلام، ولئن فعل أتاتورك ذلك عنوة وقهرًا، فإنَّ المنهج العلْمانيَّ الحديث يتفادى ذلك، ويعْمد إلى العمل البطيء من داخل الإسلام نفسه وباسمه وبزعم حمايته، فيرفعون شعار الحريَّات الفرديَّة لرفض شعيرة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، كما يتترَّسون وراء حريَّة الفِكْر والرَّأي لرفض علماء الدين والمؤسَّسات العلميَّة الإسلاميَّة للإنتاج الفِكْري والفني؛ لأنَّ حريَّة المخطَّط العلماني المتَّبع أنَّ الإسلام مع الإبداع والأدب والفنّ؛ لكنَّ المشكلة في الإسلاميِّين المتعصِّبين الملتزمين!
وبعد، فإنَّ التجديد الذي يعنيه العلمانيُّون للإسلام هو إنشاء دين آخر، ليس له نسب ربَّاني، ولا طعم ولا رائحة، وأمَّا الاجتِهاد فهو إلى سنة؛ ماعدا الصَّلاة والصِّيام والحج، بشرط أدائِها على الطريقة "الحداثية"؛ أي: كعبادة فرديَّة تغلب الشكليَّة والوراثية، فلا تنير عقلاً، ولا تزكي نفسًا، ولا تقوِّم سلوكًا.
بهذا يبلغون الغاية التي يَحْلمون بها، وهي اندِثار مفهوم "الأمَّة"، وبالتَّالي نهاية الإسْلام، وهذا ما ينبغي أن يحرِّك السَّاحة الإسلاميَّة العلميَّة والدَّعويَّة؛ لتكون بالمِرْصاد لهؤلاء العلمانيِّين من جهة، ولإحياء معاني التَّجديد الأصيل وممارسة الاجتِهاد وتكثيفه؛ لتبقى أحْكام الدين وتصوُّراتها غضَّة طريَّة؛ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
صاحب المقال : الأستاذ الإمام عبد العزيز كحيل -عين البيضاء -الجزائر