انتقل إلى الصفحة التالية
تأليف د محمد محمد يونس علي
تتفق آراء علماء أصول الفقه الإسلامي مع بعض اللسانيين المحدثين على أن إطلاق العدد لا يمنع من إدخال غيره إو إخراجه، بل يحتمل إدخال ما أكبر أو أصغر منه فيه، ويفهم المنع من دخول غيره في مدلوله من مقتضيات التخاطب، أي من المعطيات البراغماتية.
ويمكن تلخيص رأي الأصوليين القائلين بمفهوم العدد في أن حصر العدد في مدلوله مفهوم من قصد المخالفة، وذلك عندما يكون هناك قرينة تسوّغ أن للعدد الأصغر أو الأكبر حكما مخالفا للعدد المذكور. وفي المقابل قد يأخذ العدد الأصغر أو الأكبر حكما موافقا لحكم العدد المذكور إذا دلت القرائن على ذلك. وهكذا فإن مايفهم لغةً من (15) هو أن للمتكلّم ثلاثة أولاد، وليس هناك ما يمنع أن يكون له أكثر. أما الدلالة على نفي أن يكون له أربعة أولاد، فليس ثمة ما يمنع منه وضعًا، بل المانع هو مبدأ المخالفة بين المذكور والمسكوت عنه، وهو ما يعني أن المخاطب عندما يستمع إلى (15) فإنه يفكر على النحو الآتي: لو كان المتكلم يقصد أربعة لنصّ على ذلك بالعدد "أربعة"، ولكنه لمّا ذكر "ثلاثة"، وعدل عن الأربعة دلّ ذلك على أنّ المقصود أن لديه ثلاثة فقط، وليس أربعة أولاد أو أكثر.
(15) عندي ثلاثة أولاد.
وإذا ما رمنا تفصيلا لرأي الأصوليين في دلالة العدد (التي يخصّصون لها مبحثًا خاصًا فيما يعرف عندهم بمفهوم العدد، الذي يعدّونه نوعًا من أنواع مفهوم المخالفة)، فلابدّ من توضيح رأيهم في مفهوم المخالفة، والخوض في مناقشاتهم في حجية مفهوم العدد المتفرّع عنه.
ويمكن النظر إلى دراسة الأصوليين لموضوع العدد على أنّه محاولة منهم للإجابة عن السؤال الآتي: أيدلّ الحكم المعلق بعدد ما على حكم ما زاد عليه وما نقص عنه أم لا؟ فالقائلون بمفهوم العدد يرون أنّ ما زاد على العدد المذكور وما نقص عنه قد يخالف المذكور، والنافون ينكرون ذلك. والظاهر أن أهم المحاولات التفصيلية للإجابة عن السؤال السابق كانت محاولة أبي الحسين البصري الذي أثار هذا السؤال في القرن الخامس الهجري، وقد نقل فخر الدين الرازي،[2] ومحمد الأسمندي[3] في القرن السادس رأيه مفصّلا، بيد أنّ هذه المحاولة سُبقت بآراء مجملة نقلت عن المتقدّمين من كبار الفقهاء. والشائع في كتب الأصول نسبة القول بحجية مفهوم العدد إلى المتكلمين، وإنكارها من لدن الأحناف. وقد ذكر صاحب المختصر في أصول الفقه أنّ مفهوم العدد "حجة عند أحمد وأكثر أصحابه ومالك وداود والشافعيّ"،[4] وقد نفاه أبو حنيفة، وأكثر الشافعيّة.[5] وممن اشتهر بإنكاره أبو محمد بن حزم الظاهريّ، وأكثر الظاهريّة، ومن الشافعيّة أبو العباس بن سريج.[6]
ومن أهم الحجج التي قدّمها القائلون بمفهوم العدد
1- كون الحكم في المسكوت مخالفا للحكم في المنطوق بوجه من الوجوه يظهر فائدة التخصيص بالمقدار،[7] وإلا فما فائدة التخصيص بعدد معيّن إذا لم يكن غير العدد المذكور مخالفًا له.
2- أنه لو لم يكن المسكوت مخالفا للمذكور في حكمه للزم حصول طهارة الإناء الذي ولغ الكلب فيه قبل أن يغسل سبعا فيما في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:[8]
(16) طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات إحداهن بالتراب.
أي أنّه لو لم يكن حكم العدد الأقل في هذا المثال مخالفا لحكم العدد المذكور لطهر الإناء بالغسلة السادسة وما دونها. وينطبق هذا أيضا على نحو (17) التي تستلزم أن ما دون الرضعة الخامسة لا يحرّم؛ إذ لوكان التحريم حصل بالرضعة الرابعة أو ما دونها لكان التحريم بالخامسة "تحصيل حاصل"، وتحصيل الحاصل محال،[9] كما هو معروف في علم المنطق.
(17) خمس رضعات يحرمن.
وقد أجاب المنكرون لحجّية العدد بعدم التسليم بأنه "لو لم يدل اللفظ على النفي عن المسكوت لزم حصول الطهارة والتحريم قبل السبع والخمس فيهما"، بل كل ما يلزم من ذلك هو " عدم الدلالة على نفي الطهارة والتحريم قبل وجود السبع والخمس"، أي أن كل ما تعنيه (16)، و(17) هو إثبات حصول الطهارة بالسبع، وحصول التحريم بالخمس، أما نفي الطهارة والتحريم بما دون ذلك فأمر مسكوت عنه لم يتعرّض له بإثبات أو نفي، ولكن لمّا كان الأصل في النجس أن يبقى نجسًا فسيستمر النجس كذلك إلى أن يغسل بسبع، لأن الطهارة بالسبع منصوص عليها، فيتغيّر الأمر بها، وعلى المنوال نفسه: لمّا كان الأصل في الأشياء الإباحة فسيبقى الأصل ساريًا على ما دون الخمس في المثال الثاني، وهو عدم التحريم بالرضاع إلى أن نصل إلى الرضعة الخامسة التي نُصّ على التحريم بها. وهكذا فإن الأمر يؤول عند المنكرين لمفهوم المخالفة في العدد إلى أن حكم المسكوت عنه (وهو هنا نجاسة ما نقص غسله عن سبع غسلات في المثال الأوّل، وعدم تحريم ما نقصت فيه الرضاعة عن الخمس في الثاني) مستنبط من حال الأصل، وليس من مخالفة العدد المذكور.
3، 1- رأي الحسين البصري في دلالة العدد
لعلّ من أهم ما يحسب لأبي الحسين محمد البصري (ت 436هـ/1044م) تفريقه بين دلالة العدد على ما زاد عليه، ودلالته على ما نقص عنه؛ وهو أمر ضروري للتفريق بين دلالتين مختلفتين. وسنفصّل رأي البصري في أحوال العدد فيما يأتي:
أولا: دلالة العدد على ما زاد عليه:
أ- يذكر البصري أنّ العدد لا يدلّ على نفي الحكم عما زاد عليه،[10] وهذا غير دقيق؛ لأنّ العدد قد يدلّ على نفي ما أكبر منه، كما في (18) التي تدلّ دلالة مفهوم مخالفة على أنّ ما زاد على اثنين من الأبناء لا يسمح له بالدراسة مجانًا.
(18) يسمح لاثنين من أبناء أعضاء هيئة التدريس بالدراسة في الجامعة مجانًا.
ب-قد يدلّ العدد على ثبوت الحكم فيما زاد عليه من جهة الأولى، كما في قوله –صلى الله عليه وسلّم- المذكور في (19) الذي يفهم منه أن ما زاد على القلّتين لا يحمل الخبث من باب أولى.
(19) "إذا بلغ الماء قلّتين، لم يحمل خبثًا"
ويشير البصري هنا إلى حالة افتراضيّة، وهي أنه لو حظر الله علينا جلد الزاني مائة، لكان مازاد على المائة أولى بالحظر، خلافا للإباحة أو الإيجاب، فإنهما لا يدلان على حكم العدد الزائد.
ثانيًا: دلالة العدد على ما نقص عنه:
يرى البصري أن دلالة العدد على ما نقص عنه مرتبطة بنوع الحكم إيجابا وحظرا وإباحةً: أ- فعند الإيجاب يدل العدد على ثبوت حكمه في العدد الأقل، كما في استنباطنا وجوب جلد الخمسين عند علمنا بوجوب جلده مائة.[11]
ب- وعند الإباحة، يدل العدد على إباحة ما هو أقل، إذا كان الأقل داخلا تحت الأكبر، كأن يباح لنا استعمال القلتين اللتين وقعت فيهما نجاسة، فيستنبط من ذلك، إباحة استعمال القلة منهما، فإن لم يكن الأقل داخلا تحت الأكبر، فلا يدل العدد على إباحة ما هو أقل، إذ لا يمكن أن نستنبط من إباحة القلتين إذا وقعت فيهما نجاسة، إباحة القلة الواحدة إذا وقعت فيها نجاسة؛ لأنّها "ليست من جملة القلتين".[12]
ج- وعند الحظر يدل العدد المذكور على حكم ما دونه موافقةً، لا مخالفةً، كأن يحظر علينا استعمال قلتين وقعت فيهما نجاسة، فيكون حظر قلة وقعت فيها نجاسة من باب أولى؛ لأن تأثر القليل بالنجاسة أشدّ من تأثر الكثير بها. وأما إذا افترضنا أنّه حظر جلد الزاني مائة مثلا، فلا يدل ذلك على حظر ما هو أقل، ولا إباحته، بل هو مسكوت عنه، تتوقف معرفته على دليل آخر.[13]
وبعد أن أنهى البصري تفاصيل أحكام العدد، لخّص رأيه بقوله: "فبان أنّ تعليق الحكم لا يدلّ على نفي ما زاد عليه، أو نقص عنه، ولا على إثبات ما زاد عليه أو نقص، إلاّ باعتبار زائد".[14] وهكذا يتبيّن لنا أن أبا الحسين البصري ينفي مفهوم المخالفة في العدد الذي يقول به بعض الأصوليين، ويرى أنّ دلالة العدد على غيره تحكمها اعتبارات أخرى.
وقبل أن ننتقل إلى رأي اللسانيين في دلالة العدد يجدر بنا أن نقدّم التعليقات الآتية على آراء البصري في الموضوع:
1- يبدو أن البصري أهم مطوّر للبحث في دلالة العدد؛ إذ لم يأت قبله –فيما أعلم- من توسّع في الموضوع مثله، ولم يزد من جاء بعده أمرا جوهريًّا.
2- أنه ربط اختلاف الدلالات باختلاف الحكم الفقهي كالإيجاب، والحظر، والإباحة، وهذه إضافة مهمة في مبحث العدد.
3- على الرغم من أنّه من المنكرين لدلالة المخالفة في العدد، فإن شرحه للموضوع يدلّ على أنّه يقرّه في بعض المواضع.
انتقل إلى الصفحة التالية
أو يمكنك قراءة الموضوع كاملا على
مدونة تخاطب